ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَلْفًا فَأَنْكَرَهُ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ إنْ لَمْ أُوَافِك بِهِ غَدًا فَهُوَ عَلَيَّ فَلَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْمَكْفُولَ عَنْهُ لَمْ يَعْتَرِفْ بِوُجُودِ الْمَالِ وَلَا اعْتَرَفَ الْكَفِيلُ بِهَا أَيْضًا فَصَارَ هَذَا مَالًا مُتَعَلِّقَا بِخَطَرٍ فَلَا يَجُوزُ. اهـ.
وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ مَا إذَا عَلَّقَ الْكَفِيلُ بِالْمَالِ بَرَاءَتَهُ بِمُوَافَاتِهِ غَدًا بِأَنْ قَالَ كَفَلْت لَك مِمَّا عَلَيْهِ عَلَى أَنِّي إنْ وَافَيْتُك بِهِ غَدًا فَأَنَا بَرِيءٌ مِنْ الْمَالِ فَوَافَاهُ بِهِ لِلِاخْتِلَافِ فِيهِ، فَإِنَّ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ فِي رِوَايَةٍ يَبْرَأُ وَفِي رِوَايَةٍ لَا وَهُمَا مَبْنِيَّانِ عَلَى تَعْلِيقِ بَرَاءَةِ الْكَفِيلِ بِالشَّرْطِ وَسَتَأْتِي فِي الْكِتَابِ وَالْمَسْأَلَةُ فِي السِّرَاجِ الْوَهَّاجِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ.
قَوْلُهُ (وَلَا يُجْبَرُ عَلَى الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ فِي حَدٍّ وَقَوَدٍ) وَهَذَا عِنْدَ الْإِمَامِ، وَقَالَا بِالْجَبْرِ فِي حَدِّ الْقَذْفِ وَالْقِصَاصِ دُونَ غَيْرِهِمَا قَيَّدَ بِالْجَبْرِ؛ لِأَنَّ أَخْذَهُ بِرِضَاهُ بِلَا طَلَبٍ فِي حَدِّ الْقَذْفِ وَالْقِصَاصِ جَائِزٌ اتِّفَاقًا لَهُمَا أَنَّهَا شُرِعَتْ لِتَسْلِيمِ النَّفْسِ وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْأَصِيلِ فَصَحَّتْ بِهِ كَمَا فِي دَعْوَى الْمَالِ بِخِلَافِ الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ؛ لِأَنَّهَا مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَلَهُ إطْلَاقُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا كَفَالَةَ فِي حَدٍّ» وَلِأَنَّهَا لِلِاسْتِيثَاقِ وَمَبْنَاهُمَا عَلَى الدَّرْءِ وَأَلْحَقَ التُّمُرْتَاشِيُّ حَدَّ السَّرِقَةِ بِهِمَا فِي جَوَازِ التَّكْفِيلِ بِنَفْسِ مَنْ عَلَيْهِ إجْمَاعًا وَفِي الْإِجْبَارِ عَلَيْهَا عِنْدَ هُمَا وَجَعَلَهُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ لِكَوْنِ الدَّعْوَى فِيهِ شَرْطًا بِخِلَافِ غَيْرِهِ لِعَدَمِ اشْتِرَاطِهَا وَلَا يَجِبُ الْحُضُورُ بِسَبَبِهَا، فَإِذَا لَمْ يَكْفُلْ عِنْدَهُ يُلَازِمُهُ إلَى قِيَامِ الْقَاضِي مِنْ مَجْلِسِهِ فَإِنْ بَرْهَنَ وَإِلَّا خَلَّى سَبِيلَهُ وَلَيْسَ تَفْسِيرُ الْجَبْرِ عِنْدَهُمَا الْجَبْرُ بِالْحَبْسِ وَإِنَّمَا هُوَ الْأَمْرُ بِالْمُلَازَمَةِ. قَوْلُهُ (وَلَا يُحْبَسُ فِيهِمَا حَتَّى يَشْهَدَ شَاهِدَانِ مَسْتُورَانِ أَوَعَدْلٌ) أَيْ فِي الْحُدُودِ وَالْقَوَدِ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ لِتُهْمَةِ الْفَسَادِ وَشَهَادَةِ الْمَسْتُورَيْنِ أَوْ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ تَكْفِي لِإِثْبَاتِهَا؛ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ حُجَّةٌ فِي الدِّيَانَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ فَتُثْبِتُ شَهَادَةُ الْعَدْلِ التُّهْمَةَ وَإِنْ لَمْ تُثْبِتْ أَصْلَ الْحَقِّ وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهَا لَا تَثْبُتُ بِخَبَرِ مَسْتُورٍ وَاحِدٍ وَالْحَبْسُ بِتُهْمَةِ الْفَسَادِ مَشْرُوعٌ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَبَسَ رَجُلًا بِتُهْمَةٍ بِخِلَافِ دَعْوَى الْأَمْوَالِ حَيْثُ لَا يُحْبَسُ فِيهَا قَبْلَ الثُّبُوتِ؛ لِأَنَّهُ نِهَايَةُ عُقُوبَتِهَا فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِحُجَّةٍ كَالْحَدِّ نَفْسِهِ وَكَلَامُهُمْ هُنَا يَدُلُّ ظَاهِرًا عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ يُعَزِّرُ الْمُتَّهَمَ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتُ عَلَيْهِ، وَقَدْ كَتَبْت فِيهَا رِسَالَةً وَحَاصِلُهَا أَنَّ مَا كَانَ مِنْ التَّعْزِيرِ مِنْ حُقُوقِهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الدَّعْوَى وَلَا عَلَى الثُّبُوتِ بَلْ إذَا أَخْبَرَ الْقَاضِي عَدْلٌ بِمَا يَقْتَضِيه أَحْضَرَهُ الْقَاضِي وَعَزَّرَهُ لِتَصْرِيحِهِمْ هُنَا بِحَبْسِ الْمُتَّهَمِ بِشَهَادَةِ مَسْتُورَيْنِ أَوْ وَاحِدٍ عَدْلٍ وَالْحَبْسُ تَعْزِيرٌ وَصَرَّحْنَا بِجَوَازِ الْهَجْمِ عَلَى بَيْتِ الْمُفْسِدِ وَجَوَازِ إخْرَاجِهِ مِنْ الْبَيْتِ وَجَوَازِ نَفْيِهِ عَنْ الْبَلَدِ وَتَخْلِيدِ حَبْسِهِ إلَى أَنْ يَتُوبَ، وَإِنَّ مِنْ ذَلِكَ مَا إذَا سُمِعَ صَوْتُ غِنَاءٍ فِي بَيْتِهِ أَوْ أُخْبِرَ الْقَاضِي بِاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى الشَّرَابِ أَوْ كَانَ يُؤْذِي النَّاسَ بِيَدِهِ وَلِسَانِهِ وَجَوَازُ التَّعْزِيرِ بِالْقَتْلِ وَجَوَازُهُ بِأَخْذِ الْمَالِ وَمَعْنَاهُ عَلَى مَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ إمْسَاكُهُ عَنْهُ إلَى أَنْ يَتُوبَ وَفِي السِّرَاجِ الْوَهَّاجِ وَأَمَّا التَّعْزِيرُ فَتَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِهِ يَعْنِي أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْقَاضِي الِابْتِدَاءُ بِطَلَبِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ كَالدُّيُونِ اهـ فَظَاهِرُهُ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ بِهِ كَالْحُدُودِ.
(قَوْلُهُ:
ــ
[منحة الخالق]
الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِمْ لَزِمَتْهُ إذَا ادَّعَاهَا الْمُدَّعِي وَلَمْ يَقُولُوا وَأَثْبَتَهَا بِالْبُرْهَانِ وَمَا فِي النَّهْرِ مِنْ قَوْلِهِ فَعَلَيْهِ الْمِائَةُ أَيْ الَّتِي بَيَّنَهَا الْمُدَّعِي إمَّا بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِإِقْرَارِ الْمُدَّعِي مَبْنِيٌّ عَلَى عَلَى مَا فِي السِّرَاجِ وَزَادَ الْبَيِّنَةَ إذْ لَا فَرْقَ، وَقَدْ عَلِمْت مُخَالَفَتَهُ لِلشُّرُوحِ وَلِإِطْلَاقِ الْمُتُونِ كَالْهِدَايَةِ وَالْكَنْزِ وَالْمَجْمَعِ وَغَيْرِهَا وَرَأَيْت بِخَطِّ شَيْخِ مَشَايِخِنَا الشَّيْخِ إبْرَاهِيمَ الْغَزِّيِّ الَّذِي تَحَرَّرَ لِي أَنَّ هَذَا أَيْ مَا فِي السِّرَاجِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَعَلَى قَوْلِ الثَّانِي ثَانِيًا يُعْلَمُ هَذَا بِمُرَاجَعَةِ الْهِدَايَةِ وَالْفَتْحِ وَالْخُلَاصَةِ اهـ
[الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ فِي حَدٍّ وَقَوَدٍ]
(قَوْلُهُ: بَلْ إذَا أَخْبَرَ الْقَاضِي عَدْلٌ إلَخْ) قَالَ فِي النَّهْرِ فَإِنْ قُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا عَلَى رَأْيِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ جَوَازِ قَضَاءِ الْقَاضِي بِعِلْمِهِ أَمَّا عَلَى رَأْيِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَقْضِي بِعِلْمِهِ فِي زَمَانِنَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَوَقَّفَ عَلَى الثُّبُوتِ قُلْتُ: يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ الْخِلَافُ عَلَى مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ أَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى فَيَقْضِي فِيهَا بِعِلْمِهِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا فِي الْخَانِيَّةِ وَالظَّهِيرِيَّةِ وَالْخُلَاصَةِ وَالْبَزَّازِيَّةِ الرَّجُلُ إذَا كَانَ يَصُومُ وَيُصَلِّي وَيَضُرُّ النَّاسَ بِالْيَدِ وَاللِّسَانِ وَذَكَرَ بِمَا فِيهِ لَا يَكُونُ غِيبَةً وَإِنْ أَخْبَرَ السُّلْطَانَ بِذَلِكَ لِيَزْجُرَهُ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ اهـ.
قُلْت: مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرُوهُ قَالَ فِي شَرْحِ الْوَهْبَانِيَّةِ لِلشُّرُنْبُلَالِيِّ بَعْدَ كَلَامٍ مَا نَصُّهُ وَالْمُخْتَارُ الْآنَ عَدَمُ حُكْمِهِ بِعِلْمِهِ مُطْلَقًا لِفَسَادِ أَحْوَالِ الْقُضَاةِ كَمَا أَنَّهُ لَا يَقْضِي بِعِلْمِهِ فِي الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ لِلَّهِ تَعَالَى كَحَدِّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ مُطْلَقًا يَعْنِي سَوَاءٌ عَلِمَهُ بَعْدَ تَوْلِيَتِهِ أَوْ قَبْلَهَا غَيْرَ أَنَّهُ يُعَزَّرُ مَنْ بِهِ أَثَرُ السُّكْرِ لِلتُّهْمَةِ اهـ.
وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى الِاتِّفَاقِ عَلَى عَدَمِ الْقَضَاءِ بِعِلْمِهِ فِي الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ ابْنُ الْهُمَامِ قُبَيْلَ بَابِ التَّحْكِيمِ، وَذَكَرَهُ فِي شَرْحِ أَدَبِ الْقَضَاءِ وَلَمْ يَحْكِ فِيهِ خِلَافًا وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُسَاوِي الْقَاضِي فِيهِ وَغَيْرُ الْقَاضِي إذَا عَلِمَ لَا يُمْكِنُهُ إقَامَةَ الْحَدِّ فَكَذَا هُوَ ثُمَّ قَالَ إلَّا فِي السَّكْرَانِ أَوْ مَنْ بِهِ أَمَارَةُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute