سَبَبٌ لِحُصُولِ الْبَيْنُونَةِ بِهَا فَيَسْتَوِي الطَّائِعُ وَالْمُكْرَهُ كَلَفْظَةِ الطَّلَاقِ وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ هَذَا اللَّفْظُ غَيْرُ مَوْضُوعٍ لِلْفُرْقَةِ وَإِنَّمَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِاعْتِبَارِ تَغَيُّرِ الِاعْتِقَادِ وَالْإِكْرَاهُ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ التَّغَيُّرِ فَلَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ وَلِهَذَا لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَسْلَمَ مُكْرَهًا حَيْثُ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ مِنْهُ أَحَدُ الرُّكْنَيْنِ وَفِي الرُّكْنِ الْآخَرِ احْتِمَالٌ فَرَجَّحْنَا جَانِبَ الْوُجُودِ احْتِيَاطًا؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ وَنَظِيرُهُ السَّكْرَانُ فَإِنَّ إسْلَامَهُ يَصِحُّ وَلَا تَصِحُّ رِدَّتُهُ لِعَدَمِ الْقَصْدِ هَذَا لِبَيَانِ الْحُكْمِ أَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا لَمْ يَعْتَقِدْ، فَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ وَعَدَمِ إبَانَةِ الزَّوْجِيَّةِ إذَا قَالَ لَمْ يَخْطِرْ بِبَالِي شَيْءٌ وَنَوَيْت مَا طُلِبَ مِنِّي وَقَلْبِي مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، وَلَوْ قَالَ نَوَيْت الْإِخْبَارَ بَاطِلًا وَلَمْ أَنْوِ مَا أُمِرْت بِهِ بَانَتْ امْرَأَتُهُ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا طُلِبَ مِنْهُ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ فَلَا يُصَدَّقُ أَنَّهُ نَوَى ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ، وَلَوْ قَالَ أَرَدْت مَا طُلِبَ مِنِّي، وَقَدْ خَطَرَ بِبَالِي الْخَيْرُ عَلَى الْبَاطِلِ بَانَتْ امْرَأَتُهُ دِيَانَةً وَقَضَاءً؛ لِأَنَّهُ كَفَرَ حَقِيقَةً وَالْإِكْرَاهَ عَلَى الصَّلَاةِ أَوْ سَبِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَمَانَةِ الْمَرْأَةِ وَعَدَمِهِ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ، وَلَوْ قَالَ خَطَرَ بِبَالِي أَنَّهُ لَوْ أَكْرَهُهُ الْعَدُوُّ عَلَى كَلِمَةِ الْكُفْرِ لَأَجْرَى عَلَى لِسَانِهِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ كَفَرَ.
[أُكْرِهَ عَلَى قَطْعِ يَدِ إنْسَانٍ يَقْطَعُ يَدَهُ]
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَحُرْمَةُ طَرْفِ الْإِنْسَانِ كَحُرْمَةِ نَفْسِهِ) حَتَّى لَوْ أُكْرِهَ عَلَى قَطْعِ يَدِ إنْسَانٍ يَقْطَعُ يَدَهُ لَا يُرَخَّصُ لَهُ ذَلِكَ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ يَأْثَمْ وَيَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرَهِ لَوْ كَانَ حُرًّا وَيَضْمَنُ نِصْفَ الْقِيمَةِ لَوْ كَانَ رَقِيقًا، وَهَذَا لَا يُنَافِيهِ مَا نَقَلَهُ قَاضِي خان إذَا قَالَ لِرَجُلٍ اقْطَعْ يَدَ هَذَا وَإِلَّا قَتَلْتُك وَسِعَهُ أَنْ يَقْطَعَ، وَإِذَا قَطَعَ كَانَ عَلَى الْآمِرِ الْقِصَاصُ عَلَى قَوْلِ الْإِمَامِ وَفِي التَّتَارْخَانِيَّة إذَا قَالَ إنْ لَمْ يَقْطَعْ يَدَك وَإِلَّا قَطَعْتهَا لَا يَسَعْهُ أَنْ يَقْطَعَ يَدَ نَفْسِهِ اهـ.
فَظَهَرَ بِمَا نَقَلْنَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا أَغْلَظَ مِنْ الْقَطْعِ وَسِعَهُ وَإِنْ كَانَ قَطَعَ بِقَطْعٍ لَا يَسَعُهُ، وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى قَطْعِ طَرْفِ نَفْسِهِ حَلَّ لَهُ قَطْعُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى قَتْلِ نَفْسِهِ حَيْثُ لَا يَحِلُّ لَهُ قَتْلُهَا؛ لِأَنَّ الْأَطْرَافَ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ فِي حَقِّ صَاحِبِ الطَّرْفِ حَتَّى يَحِلَّ لَهُ قَطْعُهَا إذَا أَصَابَتْهَا أَكَلَهُ، وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يُلْقِيَ نَفْسَهُ فِي النَّارِ أَوْ عَلَى الْإِلْقَاءِ مِنْ الْجَبَلِ بِالْقَتْلِ وَكَانَ الْإِلْقَاءُ بِحَيْثُ لَا يَنْجُو، وَلَكِنْ فِيهِ نَوْعُ تَخْفِيفٍ فَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ عِنْدَ الْإِمَامِ فَلَوْ أَلْقَى نَفْسَهُ فِي النَّارِ فَاحْتَرَقَ فَعَلَى الْمُكْرِهِ الْقِصَاصُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَصْبِرُ وَلَا يَفْعَلُ.
وَلَوْ قَالَ لَهُ لَتُلْقِيَنَّ نَفْسَك مِنْ رَأْسِ الْجَبَلِ أَوْ لَأَقْتُلَنَّكَ بِالسَّيْفِ فَأَلْقَى نَفْسَهُ فَمَاتَ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَاشَرَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ قَتْلٌ بِالْمُثْقِلِ، بَلْ فِيهِ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ فَكَذَا إذَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ الثَّانِي تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْمُكْرِهِ فِي مَالِهِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجِبُ الْقِصَاصُ، وَلَوْ قَالَ لِآخَرَ اُقْتُلْنِي فَقَتَلَهُ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ فِي الصَّحِيحِ، وَلَوْ أُكْرِهَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى التَّزْوِيجِ بِمَهْرٍ فِيهِ غَبْنٌ فَاحِشٌ، ثُمَّ زَالَ الْإِكْرَاهُ فَرَضِيَتْ الْمَرْأَةُ وَلَمْ يَرْضَ الْوَلِيُّ فَلِلْوَلِيِّ الْفِرَاقُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَوْ يُتِمُّ مَهْرَ الْمِثْلِ، وَقَالَا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ خَالِصُ حَقِّهَا حَتَّى تَمْلِكَ إسْقَاطَهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
[بَابُ الْحَجْرِ]
أُورِدَ الْحَجْرُ عُقَيْبَ الْإِكْرَاهِ لِأَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَلْبَ وِلَايَةِ الْمُخْتَارِ عَنْ الْجَرْيِ عَلَى مُوجِبِ الِاخْتِيَارِ إلَّا أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَمَّا كَانَ أَقْوَى تَأْثِيرًا لِأَنَّ فِيهِ سَلْبَهَا عَمَّنْ لَهُ اخْتِيَارٌ صَحِيحٌ وَوِلَايَةٌ كَامِلَةٌ بِخِلَافِ الْحَجْرِ وَالْحَجْرُ فِي اللُّغَةِ الْمَنْعُ مِنْ قَوْلِك حَجَرَ عَلَيْهِ الْقَاضِي يَحْجُرُ حَجْرًا إذَا مَنَعَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ وَلِهَذَا سُمِّيَ الْحَطِيمُ حَجْرًا؛ لِأَنَّهُ مَنْعٌ مِنْ الْبَيْتِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} [الفجر: ٥] أَيْ لِذِي عَقْلٍ وَفِي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ مَبِيعٍ مَخْصُوصٍ فِي حَقِّ شَخْصٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ الصَّغِيرُ وَالرَّقِيقُ وَالْمَجْنُونُ وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ سَبَبُ الْحَجْرِ وَأُلْحِقَ بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ ثَلَاثَةٌ أُخَرُ الْمُفْتِي الْمَاجِنُ وَالطَّبِيبُ الْجَاهِلِيُّ وَالْمُكَارِي الْمُفْلِسُ، وَمِنْ مَحَاسِنِ الْحَجْرِ أَنَّ فِيهِ شَفَقَةً عَلَى خَلْقِ اللَّهِ وَهِيَ أَحَدُ طَرَفَيْ الدِّيَانَةِ وَالْآخَرُ التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْوَرَى وَفَرَّقَ بَيْنَهُمْ فِي النُّهَى فَجَعَلَ بَعْضَهُمْ أُولِي النُّهَى وَالرَّأْيِ وَمِنْهُمْ أَعْلَامُ الْهُدَى وَمَصَابِيحُ الدُّجَى وَبَعْضُهُمْ مُبْتَلًى بِأَسَالِيب الرَّدَى فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ كَالْمَجْنُونِ وَالْمَعْتُوهِ وَالرَّقِيقِ وَالصَّغِيرِ وَرَكَّبَ اللَّهُ فِي الْبَشَرِ الْعَقْلَ وَالْهَوَى وَرَكَّبَ فِي الْمَلَائِكَةِ الْعَقْلَ دُونَ الْهَوَى وَرَكَّبَ فِي الْبَهَائِمِ الْهَوَى دُونَ الْعَقْلِ فَمَنْ غَلَبَ عَقْلُهُ عَلَى هَوَائِهِ كَانَ مِنْ أَفْضَلِ الْخَلْقِ وَمَنْ غَلَبَ هَوَاهُ عَلَى عَقْلِهِ كَانَ أَرْدَى مِنْ الْبَهَائِمِ وَدَلِيلُهُ مَا رُوِيَ أَنَّهُ «- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَجَرَ عَلَى مُعَاذٍ وَقَسَمَ مَالَهُ لِغُرَمَائِهِ» وَلِأَنَّ تَصَرُّفَهُ لَا يَشْمَلُ تَوْفِيرَ النَّظَرِ وَالْمَصْلَحَةِ فَلِذَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (هُوَ مَنْعٌ عَنْ التَّصَرُّفِ قَوْلًا لَا فِعْلًا بِصِغَرٍ وَرِقٍّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute