للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تَتَحَقَّقُ فِي حُكْمِ مَسْأَلَةٍ خَاصَّةٍ قَلَّدَ فِيهِ وَعَمِلَ بِهِ، وَإِلَّا فَقَوْلُهُ قَلَّدْت أَبَا حَنِيفَةَ فِيمَا أَفْتَى بِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ وَالْتَزَمْت الْعَمَلَ بِهِ عَلَى الْإِجْمَاعِ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُ صُوَرَهَا لَيْسَ حَقِيقَةَ التَّقْلِيدِ بَلْ هَذَا حَقِيقَةُ تَعْلِيقِ التَّقْلِيدِ، أَوْ وَعَدَ بِهِ كَأَنَّهُ الْتَزَمَ أَنْ يَعْمَلَ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا يَقَعُ لَهُ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي تَتَعَيَّنُ فِي الْوَقَائِعِ.

فَإِنْ أَرَادُوا هَذَا الِالْتِزَامَ فَلَا دَلِيلَ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ الْمُجْتَهِدِ الْمُعَيَّنِ بِالْتِزَامِ نَفْسِهِ ذَلِكَ قَوْلًا أَوْ نِيَّةً شَرْعًا، بَلْ دَلِيلٌ اقْتَضَى الْعَمَلَ بِقَوْلِ الْمُجْتَهِدِ فِيمَا احْتَاجَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: ٤٣] وَالسُّؤَالُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ طَلَبِ حُكْمِ الْحَادِثَةِ الْمُعَيَّنَةِ، وَحِينَئِذٍ إذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ قَوْلُ الْمُجْتَهِدِ وَجَبَ عَمَلُهُ بِهِ، وَالْغَالِبُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا إلْزَامَاتٌ مِنْهُمْ لِكَفِّ النَّاسِ عَنْ تَتَبُّعِ الرُّخَصِ، وَإِلَّا أَخَذَ الْعَامِّيُّ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ بِقَوْلِ مُجْتَهِدٍ.

قَوْلُهُ أَخَفُّ عَلَيْهِ وَأَنَا لَا أَدْرِي مَا يَمْنَعُ هَذَا مِنْ النَّقْلِ أَوْ الْعَقْلِ، وَكَوْنُ الْإِنْسَانِ يَتَّبِعُ مَا هُوَ أَخَفُّ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَوْلِ مُجْتَهِدٍ سَوَّغَ لَهُ الِاجْتِهَادَ وَمَا عَلِمْت مِنْ الشَّرْعِ ذَمَّهُ عَلَيْهِ وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحِبُّ مَا خَفَّفَ عَنْ أُمَّتِهِ إلَى هُنَا مَا فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ، وَلَمْ يَبْسُطْ أَصْحَابُنَا الْكَلَامَ عَلَى الْمُفْتِي وَالْمُسْتَفْتِي فِي الْمُتُونِ وَالشُّرُوحِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ أَصْحَابُ الْفَتَاوَى بَعْضَ مَسَائِلِهِمَا، وَقَدْ بَسَطَ الْكَلَامَ عَلَيْهِمَا فِي الرَّوْضِ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ فَأَحْبَبْت نَقْلَهُ؛ لِأَنَّ قَوَاعِدَنَا لَا تَأْبَاهُ، ثُمَّ أُنَبِّهُ بَعْدَهُ عَلَى نَقْلِ الْبَعْضِ لِمَذْهَبِنَا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ (فَصْلٌ فِي الْمُفْتِي) فَإِنْ لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ فَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَمَعَ هَذَا لَا يَحِلُّ التَّسَارُعُ إلَى مَا لَا يَتَحَقَّقُ، وَيُشْتَرَطُ إسْلَامُ الْمُفْتِي وَعَدَالَتُهُ فَتُرَدُّ فَتْوَى الْفَاسِقِ وَيَعْمَلُ لِنَفْسِهِ بِاجْتِهَادِهِ، وَيُشْتَرَطُ تَيَقُّظُهُ وَقُوَّةُ ضَبْطِهِ وَأَهْلِيَّةُ اجْتِهَادِهِ فَمَنْ عَرَفَ مَسْأَلَةً أَوْ مَسْأَلَتَيْنِ أَوْ مَسَائِلَ بِأَدِلَّتِهَا لَمْ تَجُزْ فَتْوَاهُ بِهَا وَلَا تَقْلِيدُهُ، وَكَذَا مَنْ لَمْ يَكُنْ مُجْتَهِدًا، وَلَوْ مَاتَ الْمُجْتَهِدُ لَمْ تَبْطُلْ فَتْوَاهُ بَلْ يُؤْخَذُ بِقَوْلِهِ فَعَلَى هَذَا مَنْ عَرَفَ مَذْهَبَ مُجْتَهِدٍ وَتَبَحَّرَ فِيهِ جَازَ أَنْ يُفْتِيَ بِقَوْلِ ذَلِكَ الْمُجْتَهِدِ وَلْيُضِفْ إلَى الْمَذْهَبِ إنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ يُفْتَى عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِ الْمُتَبَحِّرِ إلَّا فِي مَسَائِلَ مَعْلُومَةٍ مِنْ الْمَذْهَبِ.

(فَرْعٌ) لَيْسَ لِمُجْتَهِدٍ تَقْلِيدُ مُجْتَهِدٍ وَلَوْ حَدَثَتْ وَاقِعَةٌ قَدْ اجْتَهَدَ فِيهَا وَجَبَ إعَادَتُهُ إنْ نَسِيَ الدَّلِيلَ أَوْ تَجَدَّدَ مُشْكِلٌ. (فَرْعٌ)

الْمُنْتَسِبُونَ إلَى مَذْهَبِ إمَامٍ إمَّا عَوَامٌّ فَتَقْلِيدُهُمْ مُفَرَّعٌ عَلَى تَقْلِيدِ الْمَيِّتِ فَقَدْ مَرَّ، وَإِمَّا مُجْتَهِدُونَ فَلَا يُقَلِّدُونَ فَإِنْ وَافَقَ اجْتِهَادُهُ اجْتِهَادَهُمْ فَلَا بَأْسَ وَإِنْ خَالَفَهُ أَحْيَانَا وَمَنْ لَمْ يَبْلُغْ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ بَلْ وَقَفَ عَلَى أُصُولِ إمَامِهِ وَتَمَكَّنَ مِنْ قِيَاسِ مَا لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ عَلَى الْمَنْصُوصِ فَلَيْسَ بِمُقَلَّدٍ فِي نَفْسِهِ بَلْ هُوَ وَاسِطَةٌ فَإِنْ نَصَّ صَاحِبُ الْمَذْهَبِ عَلَى الْحُكْمِ وَالْعِلَّةِ أَلْحَقَ بِهَا غَيْرَ الْمَنْصُوصِ، وَلَوْ نَصَّ عَلَى الْحُكْمِ فَقَطْ فَلَهُ أَنْ يَسْتَنْبِطَ الْعِلَّةَ وَيَقِيسَ وَلْيَقُلْ هَذَا قِيَاسُ مَذْهَبِهِ لَا قَوْلُهُ وَإِنْ اخْتَلَفَ نَصُّ إمَامِهِ فِي مُشْتَبَهَيْنِ فَلَهُ التَّخْرِيجُ مِنْ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ.

[فَرْعٌ لِلْمُفْتِي أَنْ يُغَلِّظَ لِلزَّجْرِ مُتَأَوِّلًا]

(فَرْعٌ) لِلْمُفْتِي أَنْ يُغَلِّظَ لِلزَّجْرِ مُتَأَوِّلًا كَمَا إذَا سَأَلَهُ مَنْ لَهُ عَبْدٌ عَنْ قَتْلِهِ وَخَشِيَ أَنْ يَقْتُلَهُ جَازَ أَنْ يَقُولَ إنْ قَتَلْته قَتَلْنَاك مُتَأَوِّلًا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ» ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى إطْلَاقِهِ مَفْسَدَةٌ وَاخْتِلَافُ الْمُفْتِينَ كَالْمُجْتَهِدِينَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

[فَصْلٌ فِي الْمُسْتَفْتِي]

يَجِبُ أَنْ يَسْتَفْتِيَ مَنْ عَرَفَ عِلْمَهُ وَعَدَالَتَهُ وَلَوْ بِإِخْبَارِ ثِقَةٍ عَارِفٍ أَوْ بِاسْتِفَاضَةٍ، وَإِلَّا بَحَثَ عَنْ ذَلِكَ فَلَوْ خَفِيَتْ عَدَالَتُهُ الْبَاطِنَةُ اكْتَفَى بِالْعَدَالَةِ الظَّاهِرَةِ وَيَعْمَلُ بِفَتْوَى عَالِمٍ مَعَ وُجُودِ أَعْلَمَ جَهِلَهُ فَإِنْ اخْتَلَفَا وَلَا نَصَّ قَدَّمَ الْأَعْلَمَ، وَكَذَا إذَا اعْتَقَدَ أَحَدَهُمَا أَعْلَمَ أَوْ أَوْرَعَ وَيُقَدَّمُ الْأَعْلَمُ عَلَى

ــ

[منحة الخالق]

الرَّأْسِ وَالْإِمَامِ مَالِكٍ فِي طَهَارَةِ الْكَلْبِ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ كَذَا ذَكَرَ الْعَلَّامَتَانِ ابْنُ حَجَرٍ وَالرَّمْلِيُّ فِي شَرْحِهِمَا عَلَى الْمِنْهَاجِ.

وَفِي كَلَامِ ابْنِ الْهُمَامِ مَا يُفِيدُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَحَلِّ أَوْ الْمُرَادُ بِمَنْعِ الْمَرْجُوعِ فِيمَا قَلَّدَ فِيهِ اتِّفَاقًا الرُّجُوعُ فِي خُصُوصِ الْعَيْنِ لَا خُصُوصِ الْجِنْسِ، وَذَلِكَ بِنَقْضِ مَا فَعَلَهُ مُقَلِّدًا فِي فِعْلِهِ إمَامًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكَ إبْطَالَهُ بِإِمْضَائِهِ كَمَا لَوْ قَضَى بِهِ فَلَوْ صَلَّى ظُهْرًا بِمَسْحِ رُبُعِ الرَّأْسِ لَيْسَ لَهُ إبْطَالُهَا بِاعْتِقَادِهِ لُزُومَ مَسْحِ الْكُلِّ، وَأَمَّا لَوْ صَلَّى يَوْمًا عَلَى مَذْهَبٍ، وَأَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ يَوْمًا آخَرَ عَلَى غَيْرِهِ فَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ اهـ.

وَقَدْ بَسَطَ الْكَلَامَ فِيهَا فَرَاجِعْهُ وَمَا ذَكَرَهُ الْمُحَقِّقُ مِنْ جَوَازِ تَتَبُّعِ الرُّخَصِ رَدَّهُ ابْنُ حَجَرٍ وَزَعَمَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ وَانْتَصَرَ لَهُ الْعَلَّامَةُ خَيْرُ الدِّينِ فِي حَاشِيَتِهِ هُنَا بِكَلَامٍ طَوِيلٍ، وَمَنَعَ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ فَرَاجِعْهُ وَيُؤَيِّدُ مَنْعَهُ مَا فِي شَرْحِ ابْنِ أَمِيرِ حَاجٍّ بَعْدَ نَقْلِهِ الْإِجْمَاعَ عَنْ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ حَيْثُ قَالَ إنْ صَحَّ احْتَاجَ إلَى جَوَابٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ لَا نُسَلِّمُ صِحَّةَ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ إذْ فِي تَفْسِيقِ الْمُتَتَبِّعِ لِلرُّخَصِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ وَحَمَلَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى الرِّوَايَةَ الْمُفَسِّقَةَ عَلَى غَيْرِ مُتَأَوِّلٍ وَلَا مُقَلِّدٍ، وَذَكَرَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إنْ قَوِيَ دَلِيلٌ أَوْ كَانَ عَامِّيًّا لَا يَفْسُقُ وَفِي رَوْضَةِ النَّوَوِيِّ وَأَصْلُهَا عَنْ حِكَايَةِ الْحَنَّاطِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ لَا يَفْسُقُ بِهِ ثُمَّ لَعَلَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى نَحْوِ مَا يَجْتَمِعُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَمْ يَقُلْ بِمَجْمُوعِهِ مُجْتَهِدٌ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ اهـ.

وَسَيَذْكُرُ الْمُؤَلِّفُ عَنْ الشَّارِحِ أَنَّ فِي فِسْقِهِ وَجْهَيْنِ أَوْجَهُهُمَا عَدَمُهُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. (قَوْلُهُ بِقَوْلِ مُجْتَهِدٍ قَوْلُهُ أَخَفُّ) قَالَ الرَّمْلِيُّ الْجُمْلَةُ مِنْ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ نَعْتٌ لِمُجْتَهِدٍ.

<<  <  ج: ص:  >  >>