تَعَالَى مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ، وَكَوْنُهُ عَالِمًا بِالْحَدِيثِ مَتْنًا وَسَنَدًا وَنَاسِخًا وَمَنْسُوخًا وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ بَعْدَ صِحَّةِ الْعَقِيدَةِ عِلْمُ الْكَلَامِ وَلَا تَفَارِيعُ الْفِقْهِ وَلَا الذُّكُورَةُ وَالْحُرِّيَّةُ وَلَا الْعَدَالَةُ فَلِلْفَاسِقِ الِاجْتِهَادُ لِيَعْمَلَ بِنَفْسِهِ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَلَا يَعْمَلُ بِهِ، وَيُشْتَرَطُ كَوْنُهُ عَالِمًا بِوُجُوهِ الْقِيَاسِ وَفِي الْحَقِيقَةِ اشْتِرَاطُ عِلْمِهِ بِالْأُصُولِ يُغْنِي عَنْهُ، وَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْإِجْمَاعِ وَمَوَاقِعِهِ وَمِنْ مَعْرِفَةِ عَادَاتِ النَّاسِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الشَّرَائِطَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ شَرْطًا، وَأَمَّا رُكْنُهُ فَالْمُجْتَهِدُ وَهُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ وَالْمُجْتَهَدُ فِيهِ وَهُوَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ ظَنِّيٌّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ
قَوْلُهُ (وَالْمُفْتِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَكَذَا) أَيْ مَوْثُوقًا بِهِ فِي دِينِهِ وَعَفَافِهِ إلَى آخِرِهِ، وَأَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا قَالَ فِي الْفَتْحِ الْقَدِيرِ وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي الْقَاضِي ذُكِرَ فِي الْمُفْتِي فَلَا يُفْتِي إلَّا الْمُجْتَهِدُ، وَقَدْ اسْتَقَرَّ رَأْيُ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى أَنَّ الْمُفْتِيَ هُوَ الْمُجْتَهِدُ فَأَمَّا غَيْرُ الْمُجْتَهِدِ مِمَّنْ يَحْفَظُ أَقْوَالَ الْمُجْتَهِدِ فَلَيْسَ مُفْتِيًا، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ إذَا سُئِلَ أَنْ يَذْكُرَ قَوْلَ الْمُجْتَهِدِ كَأَبِي حَنِيفَةَ عَلَى جِهَةِ الْحِكَايَةِ فَعَرَفَ أَنَّ مَا يَكُونُ فِي زَمَانِنَا مِنْ فَتْوَى الْمَوْجُودِينَ لَيْسَ بِفَتْوَى بَلْ هُوَ نَقْلُ كَلَامِ الْمُفْتِي لِيَأْخُذَ بِهِ الْمُسْتَفْتِيَ، وَطَرِيقُ نَقْلِهِ لِذَلِكَ عَنْ الْمُجْتَهِدِ أَحَدُ أَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ سَنَدٌ فِيهِ، أَوْ يَأْخُذُهُ مِنْ كِتَابٍ مَعْرُوفٍ تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي نَحْوُ كُتُبِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَنَحْوِهَا مِنْ التَّصَانِيفِ الْمَشْهُورَةِ لِلْمُجْتَهِدَيْنِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ أَوْ الْمَشْهُورِ هَكَذَا ذَكَرَ الرَّازِيّ فَعَلَى هَذَا لَوْ وَجَدَ بَعْضَ نُسَخِ النَّوَادِرِ فِي زَمَانِنَا لَا يَحِلُّ عَزْوُ مَا فِيهَا إلَى مُحَمَّدٍ وَلَا إلَى أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَشْتَهِرْ فِي عَصْرِنَا فِي دِيَارِنَا، وَلَمْ تُتَدَاوَلْ نَعَمْ إذَا وُجِدَ النَّقْلُ عَنْ النَّوَادِرِ مَثَلًا فِي كِتَابٍ مَشْهُورٍ مَعْرُوفٍ كَالْهِدَايَةِ وَالْمَبْسُوطِ كَانَ ذَلِكَ تَعْوِيلًا عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابِ، فَلَوْ كَانَ حَافِظًا لِلْأَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفَةِ لِلْمُجْتَهِدِينَ وَلَا يَعْرِفُ الْحُجَّةَ وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الِاجْتِهَادِ لِلتَّرْجِيحِ لَا يُقْطَعُ بِقَوْلٍ مِنْهَا يُفْتَى بِهِ بَلْ يَحْكِيهَا لِلْمُسْتَفْتِي فَيَخْتَارُ الْمُسْتَفْتِي مَا يَقَعُ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ الْأَصْوَبُ.
ذَكَرَهُ فِي بَعْضِ الْجَوَامِعِ، وَعِنْدِي لَا يَجِبُ عَلَيْهِ حِكَايَةُ كُلِّهَا بَلْ يَكْفِيهِ أَنْ يَحْكِيَ قَوْلًا مِنْهَا فَإِنَّ الْمُقَلِّدَ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ أَيَّ مُجْتَهِدٍ شَاءَ، فَإِذَا ذَكَرَ أَحَدَهَا فَقَلَّدَهُ حَصَلَ الْمَقْصُودُ نَعَمْ لَا يُقْطَعُ عَلَيْهِ فَيَقُولُ جَوَابُ مَسْأَلَتِكَ كَذَا، بَلْ يَقُولُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ حُكْمُ هَذَا كَذَا نَعَمْ لَوْ حَكَى الْكُلَّ فَالْأَخْذُ بِمَا يَقَعُ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ أَصْوَبُ أَوْلَى، وَإِلَّا فَالْعَامِّيُّ لَا عِبْرَةَ بِمَا يَقَعُ فِي قَلْبِهِ مِنْ صَوَابِ الْحُكْمِ وَخَطَئِهِ، وَعَلَى هَذَا إذَا اسْتَفْتَى فَقِيهَيْنِ أَعْنِي مُجْتَهِدَيْنِ فَاخْتَلَفَا عَلَيْهِ الْأَوْلَى بِأَنْ يَأْخُذَ بِمَا يَمِيلُ إلَيْهِ قَلْبُهُ مِنْهُمَا، وَعِنْدِي أَنَّهُ لَوْ أَخَذَ بِقَوْلِ الَّذِي لَا يَمِيلُ إلَيْهِ قَلْبُهُ جَازَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَيْلَ وَعَدَمَهُ سَوَاءٌ، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ تَقْلِيدُ مُجْتَهِدٍ، وَقَدْ فَعَلَ أَصَابَ ذَلِكَ الْمُجْتَهِدُ أَوْ أَخْطَأَ وَقَالُوا الْمُنْتَقِلُ مِنْ مَذْهَبٍ إلَى مَذْهَبٍ بِاجْتِهَادٍ وَبُرْهَانٍ آثِمٌ يَسْتَوْجِبُ التَّعْزِيرَ فَبِلَا اجْتِهَادٍ وَبُرْهَانٍ أَوْلَى وَلَا بُدَّ أَنْ يُرَادَ بِهَذَا الِاجْتِهَادِ مَعْنَى التَّحَرِّي وَتَحْكِيمِ الْقَلْبِ؛ لِأَنَّ الْعَامِّيَّ لَيْسَ لَهُ اجْتِهَادٌ، ثُمَّ حَقِيقَةُ الِانْتِقَالِ إنَّمَا
ــ
[منحة الخالق]
إذَا تَعَيَّنَ لِلْقَضَاءِ وَجَبَ عَلَيْهِ قَبُولُهُ وَإِذَا تَرَكَهُ أَثِمَ وَمَا لَمْ يَتَعَيَّنْ فَالتَّرْكُ أَفْضَلُ، وَإِذَا كَانَ الْجَاهِلُ أَهْلًا لِلْقَضَاءِ فَمَتَى يَتَعَيَّنُ قَالَ فِي النَّهْرِ وَأَقُولُ: وُجُودُ الْجَاهِلِ لَا يَمْنَعُ مِنْ تَعَيُّنِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ، وَلَمْ يَقْبَلْ أَثِمَ وَإِنْ وُجِدَ جَاهِلٌ تَصِحُّ تَوْلِيَتُهُ
(قَوْلُهُ ثُمَّ حَقِيقَةُ الِانْتِقَالِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إلَخْ) قَالَ الرَّمْلِيُّ قَالَ فِي تَصْحِيحِ الْقُدُورِيِّ وَقَالَ الْأُصُولِيُّونَ أَجْمَعُ: لَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْ التَّقْلِيدِ بَعْدَ الْعَمَلِ بِالِاتِّفَاقِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ فِي الْمَذْهَبِ وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الْخَطِيبُ فِي كِتَابِ الْفَتَاوَى وَالْمُفْتِي عَلَى مَذْهَبٍ إذَا أَفْتَى بِكَوْنِ الشَّيْءِ كَذَا عَلَى مَذْهَبِ إمَامٍ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ وَيُفْتِي بِخِلَافِهِ؛ لِأَنَّهُ مَحْضُ تَشَهٍّ، وَقَالَ أَيْضًا إنَّهُ بِالْتِزَامِهِ مَذْهَبَ إمَامٍ يُكَلَّفُ بِهِ مَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ غَيْرُهُ، وَالْمُقَلَّدُ لَا يَظْهَرُ لَهُ اهـ.
قُلْت: وَفِي التَّحْرِيرِ لِابْنِ الْهُمَامِ مَسْأَلَةٌ لَا يَرْجِعُ فِيمَا قَلَّدَ فِيهِ أَيْ عَمِلَ بِهِ اتِّفَاقًا، وَهَلْ يُقَلَّدُ غَيْرُهُ فِي غَيْرِهِ الْمُخْتَارُ نَعَمْ لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَفْتُونَ مَرَّةً وَاحِدًا وَمَرَّةً غَيْرَهُ غَيْرَ مُلْتَزِمِينَ مُفْتِيًا وَاحِدًا فَلَوْ الْتَزَمَ مَذْهَبًا مُعَيَّنًا كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فَهَلْ يَلْزَمُهُ الِاسْتِمْرَارُ عَلَيْهِ فَقِيلَ نَعَمْ، وَقِيلَ لَا وَقِيلَ كَمَنْ لَمْ يَلْتَزِمْ إنْ عَمِلَ بِحُكْمٍ تَقْلِيدًا لَا يَرْجِعُ عَنْهُ وَفِي غَيْرِهِ لَهُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ، وَهُوَ الْغَالِبُ عَلَى الظَّنِّ لِعَدَمِ مَا يُوجِبُهُ شَرْعًا، وَيَتَخَرَّجُ مِنْهُ جَوَازُ اتِّبَاعِهِ لِلرُّخَصِ وَلَا يَمْنَعُ مِنْهُ مَانِعٌ شَرْعِيٌّ إذْ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَسْلُكَ الْأَخَفَّ عَلَيْهِ إذَا كَانَ لَهُ إلَيْهِ سَبِيلٌ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ عَمِلَ بِآخَرَ فِيهِ اهـ.
وَلِلشَّيْخِ حَسَنٍ الشُّرُنْبُلَالِيُّ رِسَالَةٌ سَمَّاهَا الْعِقْدَ الْفَرِيدَ فِي جَوَازِ التَّقْلِيدِ وَذَكَرَ فِيهَا مَا حَاصِلُهُ أَنَّ دَعْوَى الِاتِّفَاقِ عَلَى عَدَمِ الرُّجُوعِ فِيمَا قَلَّدَ فِيهِ ذَكَرَهَا الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَتَبِعَهُمَا فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ وَغَيْرِهِ، وَذَكَرَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ أَبِي شَرِيفٍ أَنَّ فِي كَلَامِ غَيْرِهِمَا مَا يُشْعِرُ بِإِثْبَاتِ الْخِلَافِ بَعْدَ الْعَمَلِ فَلَهُ التَّقْلِيدُ بَعْدَهُ بِقَوْلِ غَيْرِهِ، وَذَكَرَ مِثْلَهُ عَنْ الزَّرْكَشِيّ الْعَلَّامَةُ ابْنُ أَمِيرِ الْحَاجِّ وَالسَّيِّدِ بَادْشَاهْ فِي شَرْحِهِمَا عَلَى التَّحْرِيرِ أَيْ فَيَجُوزُ اتِّبَاعُ الْقَائِلِ بِالْجَوَازِ، وَأَيْضًا الْقَوْلُ بِالْمَنْعِ لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ؛ لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا بَقِيَ مِنْ آثَارِ الْفِعْلِ السَّابِقِ أَثَرٌ يُؤَدِّي إلَى تَلْفِيقِ الْعَمَلِ بِشَيْءٍ مُرَكَّبٍ مِنْ مَذْهَبَيْنِ كَتَقْلِيدِ الشَّافِعِيِّ فِي مَسْحِ بَعْضِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute