«أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْغِيبَةُ تُفْطِرُ الصَّائِمَ» وَلَمْ يَعْرِفْ النَّسْخَ وَلَا تَأْوِيلَهُ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ وَاجِبُ الْعَمَلِ بِهِ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَامِّيِّ الْعَمَلُ بِالْحَدِيثِ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَلَوْ لَمَسَ امْرَأَةً أَوْ قَبَّلَهَا بِشَهْوَةٍ أَوْ اكْتَحَلَ فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ يُفَطِّرُهُ ثُمَّ أَفْطَرَ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ إلَّا إذَا اسْتَفْتَى فَقِيهًا فَأَفْتَاهُ بِالْفِطْرِ أَوْ بَلَغَهُ خَبَرٌ فِيهِ وَلَوْ نَوَى الصَّوْمَ قَبْلَ الزَّوَالِ ثُمَّ أَفْطَرَ لَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا كَذَا فِي الْمُحِيطِ وَقَدْ عُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ مَذْهَبَ الْعَامِّيِّ فَتْوَى مُفْتِيهِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِمَذْهَبٍ وَلِهَذَا قَالَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ الْحُكْمُ فِي حَقِّ الْعَامِّيِّ فَتْوَى مُفْتِيهِ وَفِي الْبَدَائِعِ وَلَوْ دَهَنَ شَارِبَهُ فَظَنَّ أَنَّهُ أَفْطَرَ فَأَكَلَ عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَإِنْ اسْتَفْتَى فَقِيهًا أَوْ تَأَوَّلَ حَدِيثًا؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُشْتَبَهُ وَكَذَا لَوْ اغْتَابَ. اهـ.
وَفِي التَّبْيِينِ أَنَّ عَلَيْهِ عَامَّةَ الْمَشَايِخِ وَهُوَ فِي الْغِيبَةِ مُخَالِفٌ لِمَا فِي الْمُحِيطِ وَالظَّاهِرُ تَرْجِيحُ مَا فِي الْمُحِيطِ لِلشُّبْهَةِ وَفِي النِّهَايَةِ وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمُفْتِي مِمَّنْ يُؤْخَذُ مِنْهُ الْفِقْهُ وَيُعْتَمَدُ عَلَى فَتْوَاهُ فِي الْبَلْدَةِ وَحِينَئِذٍ تَصِيرُ فَتْوَاهُ شُبْهَةً وَلَا مُعْتَبَرَ بِغَيْرِهِ وَأَمَّا النَّائِمَةُ أَوْ الْمَجْنُونَةُ إذَا أَكَلَتَا بَعْدَمَا جُومِعَتَا فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ حَصَلَ بِالْجِمَاعِ قَبْلَ الْأَكْلِ كَالْمُخْطِئِ وَلَا كَفَّارَةَ لِعَدَمِ الْجِنَايَةِ فَالْأَكْلُ بَعْدَهُ لَيْسَ بِإِفْسَادٍ وَصُورَتُهَا فِي النَّائِمَةِ ظَاهِرٌ وَفِي الْمَجْنُونَةِ بِأَنْ نَوَتْ الصَّوْمَ ثُمَّ جُنَّتْ بِالنَّهَارِ وَهِيَ صَائِمَةٌ فَجَامَعَهَا إنْسَانٌ فَإِنَّ الْجُنُونَ لَا يُنَافِي الصَّوْمَ إنَّمَا يُنَافِي شَرْطَهُ أَعْنِي النِّيَّةَ وَقَدْ وَجَبَ فِي حَالِ الْإِفَاقَةِ فَلَا يَجِبُ قَضَاءُ ذَلِكَ الْيَوْمِ إذَا أَفَاقَتْ فَإِذَا جُومِعَتْ قَضَتْهُ لِطُرُّوِّ الْمُفْسِدِ عَلَى صَوْمٍ صَحِيحٍ وَبِهَذَا انْدَفَعَ مَا قِيلَ إنَّهَا كَانَتْ فِي الْأَصْلِ الْمَجْبُورَةَ أَيْ الْمُكْرَهَةَ فَصَحَّفَهَا الْكَاتِبُ إلَى الْمَجْنُونَةِ لِإِمْكَانِ تَوْجِيهِهَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ) عُقِدَ لِبَيَانِ مَا يُوجِبُهُ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ بَعْدَمَا ذَكَرَ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ (قَوْلُهُ وَمَنْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمِ النَّحْرِ أَفْطَرَ وَقَضَى) ؛ لِأَنَّهُ نَذْرٌ بِصَوْمٍ مَشْرُوعٍ وَالنَّهْيُ لِغَيْرِهِ وَهُوَ تَرْكُ إجَابَةِ دَعْوَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَصِحُّ نَذْرُهُ لَكِنْ يُفْطِرُ احْتِرَازًا عَنْ الْمَعْصِيَةِ الْمُجَاوِرَةِ ثُمَّ يَقْضِي إسْقَاطًا لِلْوَاجِبِ وَإِنْ صَامَ فِيهِ يَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ؛ لِأَنَّهُ أَدَّاهُ كَمَا الْتَزَمَ. أَشَارَ بِصَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ إلَى كُلِّ صَوْمٍ كُرِهَ تَحْرِيمًا وَبِالصَّوْمِ إلَى الِاعْتِكَافِ فَلَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمِ النَّحْرِ صَحَّ وَلَزِمَهُ الْفِطْرُ وَالْقَضَاءُ فَإِنْ اعْتَكَفَ فِيهِ بِالصَّوْمِ صَحَّ كَمَا فِي الْوَلْوَالِجيَّةِ وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ أَفْطَرَ عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ خُرُوجًا عَنْ الْمَعْصِيَةِ وَقَوْلُهُ فِي النِّهَايَةِ الْأَفْضَلُ الْفِطْرُ تَسَاهُلٌ أَطْلَقَ فَشَمِلَ مَا إذَا قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ غَدٍ فَوَافَقَ يَوْمَ النَّحْرِ أَوْ صَرَّحَ فَقَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ يَوْمِ النَّحْرِ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُصَرِّحَ بِذِكْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ أَوْ لَا فِي الْكَشْفِ وَغَيْرِهِ وَاعْلَمْ بِأَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ شَرْطَ لُزُومِ النَّذْرِ ثَلَاثَةٌ كَوْنُ الْمَنْذُورِ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ وَكَوْنُهُ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ وَكَوْنُ الْوَاجِبِ مَقْصُودًا لِنَفْسِهِ قَالُوا فَخَرَجَ بِالْأَوَّلِ النَّذْرُ بِالْمَعْصِيَةِ وَالثَّانِي نَحْوُ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَالثَّالِثِ مَا كَانَ مَقْصُودًا لِغَيْرِهِ حَتَّى لَوْ نَذَرَ الْوُضُوءَ لِكُلِّ صَلَاةٍ لَمْ يَلْزَمْ وَكَذَا لَوْ نَذَرَ سَجْدَةَ التِّلَاوَةِ وَفِي الْوَاقِعَاتِ وَلَوْ نَذَرَ تَكْفِينَ مَيِّتٍ لَمْ يَلْزَمْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ مَقْصُودَةٍ كَالْوُضُوءِ مَعَ تَصْرِيحِهِمْ هُنَا بِصِحَّةِ النَّذْرِ بِيَوْمِ
ــ
[منحة الخالق]
(قَوْلُهُ: وَفِي التَّبْيِينِ أَنَّ عَلَيْهِ عَامَّةَ الْمَشَايِخِ) وَفِي الْخَانِيَّةِ قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا وَفَصْلُ الْحِجَامَةِ سَوَاءٌ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا. وَعَامَّةُ الْعُلَمَاءِ قَالُوا: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ عَلَى كُلِّ حَالٍ اعْتَمَدَ حَدِيثًا أَوْ فَتْوًى؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى تَرْكِ الْعَمَلِ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ. وَقَالُوا: أَرَادَ بِهِ ذَهَابَ الْآخَرِ وَلَيْسَ فِي هَذَا قَوْلٌ مُعْتَبَرٌ فَهَذَا ظَنٌّ مَا اسْتَنَدَ إلَى دَلِيلٍ؛ فَلَا يُورِثُ شُبْهَةً اهـ.
وَمَا رَجَّحَهُ الْمُؤَلِّفُ مَشَى عَلَيْهِ فِي الْمُلْتَقَى (قَوْلُهُ: وَهُوَ فِي الْغَيْبَةِ مُخَالِفٌ لِمَا فِي الْمُحِيطِ) وَكَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الِادِّهَانِ مُخَالِفٌ لِمَا فِي الْخَانِيَّةِ حَيْثُ قَالَ وَكَذَا الَّذِي اكْتَحَلَ أَوْ ادَّهَنَ نَفْسَهُ أَوْ شَارِبَهُ ثُمَّ أَكَلَ مُتَعَمِّدًا عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ إلَّا إذَا كَانَ جَاهِلًا فَاسْتَفْتَى فَأُفْتِيَ لَهُ بِالْفِطْرِ فَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ اهـ.
وَعَلَيْهِ مَشَى فِي الْإِمْدَادِ مُسْتَدْرِكًا عَلَى مَا فِي الْبَدَائِعِ (قَوْلُهُ: وَفِي الْمَجْنُونَةِ بِأَنْ نَوَتْ إلَخْ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ تَبَعًا لِلنِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا قَدْ تَكَلَّمُوا فِي صِحَّةِ صَوْمِهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تُجَامِعُ الْجُنُونَ وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ سُلَيْمَانَ الْجُرْجَانِيِّ قَالَ لَمَّا قَرَأْت عَلَى مُحَمَّدٍ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ قُلْت لَهُ كَيْفَ تَكُونُ صَائِمَةً وَهِيَ مَجْنُونَةٌ فَقَالَ دَعْ هَذَا فَإِنَّهُ انْتَشَرَ فِي الْأُفُقِ فَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ كَأَنَّهُ كَتَبَ فِي الْأَصْلِ مَجْبُورَةً وَظَنَّ الْكَاتِبُ مَجْنُونَةً وَلِهَذَا قَالَ دَعْ فَإِنَّهُ انْتَشَرَ فِي الْأُفُقِ وَأَكْثَرُهُمْ قَالُوا: تَأْوِيلُهُ أَنَّهَا كَانَتْ عَاقِلَةً بَالِغَةً فِي أَوَّلِ النَّهَارِ ثُمَّ جُنَّتْ فَجَامَعَهَا زَوْجُهَا ثُمَّ أَفَاقَتْ وَعَلِمَتْ بِمَا فَعَلَ الزَّوْجُ اهـ.
قَالَ فِي النَّهْرِ وَهَذَا يَقْتَضِي عَدَمَ تَصْحِيفِهَا وَجَزَمَ فِي الْفَتْحِ بِأَنَّهَا مُصَحَّفَةٌ مِنْ الْكَاتِبِ مُسْتَنِدًا لِمَا مَرَّ. قَالَ: وَتَرَكَهَا مُحَمَّدٌ بَعْدَ التَّصْحِيفِ لِإِمْكَانِ تَوْجِيهِهَا اهـ.
وَهَذَا يُفِيدُ رَفْعَ الْخِلَافِ السَّابِقِ إذْ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ تَصْحِيفِهَا وَتَأْوِيلِهَا وَبِهِ انْدَفَعَ دَفْعُ الْمُؤَلِّفِ لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ مَا عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ لَيْسَ نَصًّا فِي أَنَّ الْكَاتِبَ صَحَّفَهَا بَلْ وَقَعَتْ عَنْ مُحَمَّدٍ كَذَلِكَ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يُصْلِحْهَا لِانْتِشَارِهَا وَإِمْكَانِ تَأْوِيلِهَا وَأَيْضًا اسْتِعْمَالُهُ مَجْبُورَةً بِمَعْنَى مُجْبَرٍ ضَعِيفٌ.
[فَصْلٌ مَا يُوجِبُهُ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ]
(فَصْلٌ فِي النَّذْرِ)