الْإِتْلَافُ فَيَرْجِعُ إلَيْهِ بِقِيمَتِهِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الْمُكْرَهِ وَلَا يُوجِبُ وَضْعَ الْخِطَابِ عَنْهُ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ مُبْتَلًى وَالِابْتِلَاءَ يُحَقِّقُ الْخِطَابَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ أَفْعَالَهُ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ فَرْضٍ وَحَظْرٍ وَإِبَاحَةٍ وَرُخْصَةٍ وَيَأْثَمُ تَارَةً وَيُؤْجَرُ أُخْرَى فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ قَتْلُ النَّفْسِ وَقَطْعُ الطُّرُقِ وَالزِّنَا وَيُفْتَرَضُ عَلَيْهِ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ ذَلِكَ وَيُثَابُ عَلَيْهِ إنْ امْتَنَعَ وَيُبَاحُ لَهُ بِالْإِكْرَاهِ أَكْلُ الْمَيْتَةِ وَشُرْبُ الْخَمْرِ وَيُرَخَّصُ لَهُ بِإِجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ وَإِتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ وَإِفْسَادِ الصَّوْمِ وَالْجِنَايَةِ عَلَى الْإِحْرَامِ.
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مُخَاطَبٌ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (هُوَ فِعْلٌ يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ بِغَيْرِهِ فَيَزُولُ بِهِ الرِّضَا) زَادَ فِي الْمَبْسُوطِ أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَنْعَدِمَ بِهِ الْأَهْلِيَّةُ فِي حَقِّ الْمُكْرَهِ أَوْ يَسْقُطَ عَنْهُ الْخِطَابُ وَذَكَرَ فِي الْإِيضَاحِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ فِعْلٌ يُوجَدُ مِنْ الْمُكْرِهِ يَحْدُثُ فِي الْمَحَلِّ مَعْنًى يَصِيرُ بِهِ مَدْفُوعًا إلَى الْفِعْلِ الَّذِي طُلِبَ مِنْهُ وَذَكَرَ فِي الْوَافِي أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ تَهْدِيدِ غَيْرِهِ عَلَى مَا هَدَّدَ بِمَكْرُوهٍ عَلَى أَمْرٍ بِحَيْثُ يَنْتَفِي بِهِ الرِّضَا وَقَوْلُهُ فَيَزُولُ بِهِ الرِّضَا أَعَمُّ مَعَ كَوْنِهِ مَعَ فَسَادِ اخْتِيَارِهِ أَوْ مَعَ عَدَمِهِ وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى نَوْعَيْ الْإِكْرَاهِ، ثُمَّ إنَّ الشَّائِعَ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ مِنْ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ هُوَ أَنَّ الْإِكْرَاهَ نَوْعَانِ وَذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ الْبَزْدَوِيُّ فَقَالَ الْإِكْرَاهُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ نَوْعٌ يُعْدِمُ الرِّضَا وَيُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ وَهُوَ الْمُلْجِئُ وَنَوْعٌ يُعْدِمُ الرِّضَا وَلَا يُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ وَهُوَ الَّذِي لَا يُلْجِئُ وَهُوَ نَوْعٌ آخَرُ لَا يُعْدِمُ الرِّضَا وَهُوَ أَنْ يُهَدَّدَ بِحَبْسِ أَبِيهِ أَوْ ابْنِهِ وَوَلَدِهِ، وَهَذَا النَّوْعُ الثَّالِثُ أَخْرَجَهُ الْمُؤَلِّفُ وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ الْقِسْمَ الثَّالِثَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى شَرْعًا لِعَدَمِ تَرَتُّبِ أَحْكَامِ الْإِكْرَاهِ عَلَيْهِ شَرْعًا وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ الْقِسْمَ الثَّالِثَ دَاخِلٌ فِي مَعْنَى الْإِكْرَاهِ لُغَةً وَأَطْلَقَ فِي الْإِنْسَانِ فَشَمِلَ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ وَالْمَعْتُوهَ كَذَا فِي قَاضِي خَانْ، وَقَالَ فِيهِ أَيْضًا، وَلَوْ أَكْرَهَ الصَّبِيُّ أَوْ الْمَجْنُونُ أَوْ الْمَعْتُوهُ رَجُلًا عَلَى قَتْلِ آخَرَ فَقَتَلَهُ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْمَعْتُوهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ.
[شَرْطُ الْإِكْرَاهِ]
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَشَرْطُهُ قُدْرَةُ الْمُكْرِهِ عَلَى تَحْقِيقِ مَا هَدَّدَ بِهِ سُلْطَانًا كَانَ أَوْ لِصًّا أَوْ خَوْفُ الْمُكْرَهِ وُقُوعُ مَا هَدَّدَ بِهِ) يَعْنِي شَرْطُ الْإِكْرَاهِ الَّذِي هُوَ فِعْلٌ كَمَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ اسْمٌ لِفِعْلٍ يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ بِغَيْرِهِ فَيَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ مَعَ بَقَاءِ الْأَهْلِيَّةِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا مِنْ الْقَادِرِ عِنْدَ خَوْفِ الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِهِ مُلْجِئًا وَبِدُونِ ذَلِكَ لَا يَصِيرُ مُلْجِئًا وَمَا رُوِيَ عَنْ الْإِمَامِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا مِنْ السُّلْطَانِ فَذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا شَهِدَ فِي زَمَانِهِ مِنْ أَنَّ الْقُدْرَةَ وَالْمَنَعَةَ مُنْحَصِرَةٌ فِي السُّلْطَانِ وَفِي زَمَانِهِمَا كَانَ لِكُلِّ مُفْسِدٍ لَهُ قُوَّةٌ وَمَنَعَةٌ لِفَسَادِ الزَّمَانِ فَأَفْتَيَا عَلَى مَا شَهِدَا وَبِهِ يُفْتَى؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ اخْتِلَافٌ يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْحُجَّةِ وَفِي الْمُحِيطِ وَصِفَةُ الْمُكْرِهِ وَهُوَ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يُوقِعُ ذَلِكَ بِهِ لَوْ لَمْ يَفْعَلْ، وَلَوْ شَكَّ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ مَا تَوَعَّدَ بِهِ لَمْ يَكُنْ مُكْرِهًا؛ لِأَنَّ غَلَبَةَ الظَّنِّ مُعْتَبَرَةٌ عِنْدَ فَقْدِ الْأَدِلَّةِ اهـ.
لَا يُقَالُ الشَّرْطِيَّةُ تُنَافِي كَوْنَ ذَلِكَ وَصْفًا؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَا مُنَافَاةَ؛ لِأَنَّ الشَّرْطِيَّةَ بِاعْتِبَارِ الْحَاصِلِ مِنْ الْفَاعِلِ وَالْوَصْفَ بِاعْتِبَارِ الْفَاعِلِ وَفِي الْخَانِيَّةِ إذَا غَابَ الْمُكْرَهُ عَنْ بَصَرِ الْمُكْرِهِ يَزُولُ الْإِكْرَاهُ وَنَفْسُ الْأَمْرِ مِنْ السُّلْطَانِ مِنْ غَيْرِ تَهْدِيدٍ إكْرَاهٌ، وَعِنْدَهُمَا إنْ كَانَ الْمَأْمُورُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَفْعَلْ مَا أُمِرَ بِهِ يُفْعَلُ فِيهِ كَذَا كَانَ إكْرَاهًا وَفِي الْعَتَّابِيَّةِ، وَإِذَا أَخَذَهُ وَاحِدٌ فِي الطَّرِيقِ لَا يَقْدِرُ فِيهِ عَلَى غَوْثٍ يَكُونُ إكْرَاهًا اهـ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (فَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ إقْرَارٍ أَوْ إجَارَةٍ بِقَتْلٍ أَوْ ضَرْبٍ شَدِيدٍ أَوْ حَبْسٍ مَدِيدٍ خُيِّرَ بَيْنَ أَنْ يُمْضِيَ الْبَيْعَ أَوْ يَفْسَخَ) وَلَمَّا كَانَ الْإِكْرَاهُ تَارَةً يَقَعُ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ وَأُخْرَى فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقُّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ لِحَاجَةِ الْعَبْدِ إلَيْهِ قَدَّمَهُ وَلَمَّا كَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى نَوْعَيْنِ مُلْجِئٌ وَغَيْرُ مُلْجِئٍ وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُفْسِدُ الرِّضَا الَّذِي هُوَ شَرْطُ الصِّحَّةِ لِهَذِهِ الْعُقُودِ فَكَذَا ذَكَرَ الْقَتْلَ وَالضَّرْبَ وَلَمَّا كَانَ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُكْرَهَ عَلَى بَيْعِ هَذَا أَوْ بَيْعٍ وَلَمْ يُعَيَّنْ جَاءَ بِالْعِبَارَةِ مُنَكَّرَةً قَيَّدَ بِضَرْبٍ شَدِيدٍ وَحَبْسٍ مَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ أَضْرِبُك سَوْطًا أَوْ سَوْطَيْنِ أَوْ أَحْبِسُك يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إكْرَاهًا قَالَ فِي الْمُحِيطِ إلَّا إذَا قَالَ لَهُ لَأَضْرِبَنَّكَ عَلَى رَأْسِك أَوْ عَيْنِك أَوْ مَذَاكِرِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ إكْرَاهًا؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا إذَا حَصَلَ فِي هَذِهِ الْأَعْضَاءِ قَدْ يُفْضِي إلَى التَّلَفِ وَفِي الْمُحِيطِ قَالَ مَشَايِخُنَا إلَّا إذَا كَانَ الرَّجُلُ صَاحِبَ مَنْصِبٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِضَرْبِ سَوْطٍ أَوْ حَبْسِ يَوْمٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ إكْرَاهًا.
وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ مَا يَكُونُ فِي الْحَبْسِ مِنْ الْإِكْرَاهِ لِمَا يَجِيءُ بِهِ مِنْ الِاغْتِمَامِ الْبَيِّنِ وَمِنْ الضَّرْبِ مَا يَجِدُ بِهِ الْأَلَمَ الشَّدِيدَ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ حَدٌّ لَا يُزَادُ عَلَيْهِ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ فَمِنْهُمْ لَا يَتَضَرَّرُ إلَّا بِضَرْبٍ شَدِيدٍ وَحَبْسٍ مَدِيدٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَضَرَّرُ بِأَدْنَى شَيْءٍ كَالشُّرَفَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ يَتَضَرَّرُونَ بِضَرْبِ سَوْطٍ أَوْ بِفَرْكِ أُذُنِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute