وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[مَسَائِلُ شَتَّى]
[إيمَاءُ الْأَخْرَسِ وَكِتَابَتُهُ ومسائل متفرقة تتعلق بالكتابة والشهادة]
(مَسَائِلُ شَتَّى)
قَدْ كَانَتْ عَادَةُ الْمُصَنَّفِينَ أَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ آخِرَ الْكِتَابِ مَا لَمْ يُذْكَرْ فِي الْأَبْوَابِ السَّابِقَةِ مِنْ الْمَسَائِلِ اسْتِدْرَاكًا لِلْفَائِتِ وَيُتَرْجِمُونَ لِتِلْكَ الْمَسَائِلِ بِمَسَائِلَ شَتَّى أَوْ بِمَسَائِلَ مَنْثُورَةٍ فَعَمِلَ الْمُصَنِّفُ هُنَا أَيْضًا كَذَلِكَ جَرْيًا عَلَى عَادَتِهِمْ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ مَسَائِلُ شَتَّى أَيْ مُتَفَرِّقَةٍ وَهُوَ جَمْعُ شَتِيتٍ وَهُوَ التَّفَرُّقُ فَإِنْ قُلْت جَاءَنِي الْقَوْمُ شَتَّى يَكُونُ نَصْبًا عَلَى الْحَالِ أَيْ مُتَفَرِّقِينَ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (إيمَاءُ الْأَخْرَسِ وَكِتَابَتُهُ كَالْبَيَانِ بِخِلَافِ مُعْتَقَلِ اللِّسَانِ فِي وَصِيَّتِهِ وَنِكَاحٍ وَطَلَاقٍ وَبَيْعٍ وَشِرَاءٍ وَقَوَدٍ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا فَرْقَ بَيْنَ مُعْتَقَلِ اللِّسَانِ وَالْأَخْرَسِ، وَلَنَا أَنَّ الْإِشَارَةَ إنَّمَا تَقُومُ مَقَامَ الْعِبَارَةِ إذَا صَارَتْ مَعْهُودَةً وَذَلِكَ فِي الْأَخْرَسِ دُونَ مُعْتَقَلِ اللِّسَانِ حَتَّى لَوْ امْتَدَّ ذَلِكَ وَصَارَتْ إشَارَتُهُ مَعْهُودَةً صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْأَخْرَسِ، وَقَدَّرَ مُدَّةَ الِامْتِدَادِ فِي الْمُحِيطِ بِشَهْرٍ وَفِي جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَقَدَّرَ التُّمُرْتَاشِيُّ الِامْتِدَادَ بِسَنَةٍ وَذَكَرَ الْحَاكِمُ أَبُو مُحَمَّدٍ رِوَايَةً عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَالَ إذَا دَامَتْ الْعُقْلَةُ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ يَجُوزُ إقْرَارُهُ بِالْإِشَارَةِ وَيَجُوزُ الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ النُّطْقِ بِمَعْنًى لَا يُرْجَى زَوَالُهُ فَكَانَ كَالْأَخْرَسِ قَالَ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى وَأَطْلَقَ فِي الْأَخْرَسِ فَشَمِلَ الْأَصْلِيَّ وَالْعَارِضَ وَالْمُرَادُ الْأَصْلِيُّ أَمَّا الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ التَّقْصِيرَ جَاءَ مِنْ قِبَلِهِ حَيْثُ أَخَّرَ الْوَصِيَّةَ إلَى هَذَا الْوَقْتِ بِخِلَافِ الْأَخْرَسِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَفْرِيطَ مِنْ جِهَتِهِ وَلِأَنَّ الْعَارِضَ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ دُونَ الْأَصْلِ فَلَا يُقَاسُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَإِذَا كَانَ إيمَاءُ الْأَخْرَسِ وَكِتَابَتُهُ كَالْبَيَانِ وَهُوَ النُّطْقُ بِاللِّسَانِ تَلْزَمُهُ الْأَحْكَامُ بِالْإِشَارَةِ وَالْكِتَابَةِ حَتَّى يَجُوزَ نِكَاحُهُ وَطَلَاقُهُ وَعِتْقُهُ وَبَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ تَكُونُ بَيَانًا مِنْ الْقَادِرِ عَلَى النُّطْقِ فَالْعَاجِزُ أَوْلَى وَلِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَّنَ الشَّهْرَ بِالْإِشَارَةِ حَيْثُ قَالَ «الشَّهْرُ هَكَذَا وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ» قَالُوا وَالْكِتَابُ مِمَّنْ يَأْتِي بِمَنْزِلَةِ الْخِطَابِ مِمَّنْ ذَكَرَ أَقُولُ: فِيهِ شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى بَعْضِ الْمُدَّعِي وَلَا يَدُلُّ عَلَى بَعْضِهِ الْآخَرِ بَلْ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ فَإِنَّ كِتَابَةَ الْأَخْرَسِ حُجَّةٌ فِيمَا سِوَى الْحُدُودِ وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي الْحُدُودِ، وَهَذَا الدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ كَوْنِهَا فِي الْحُدُودِ إذْ لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الْحُدُودِ وَمَا سِوَاهَا بَلْ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا حُجَّةً فِي الْحُدُودِ أَيْضًا إذَا كَانَتْ مُسْتَبِينَةً مَرْسُومَةً وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النُّطْقِ فِي الْغَائِبِ وَالْحَاضِرِ عَلَى مَا قَالُوا، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ بِمَنْزِلَةِ النُّطْقِ فِي حَقِّ الْحَاضِرِ أَيْضًا لَمْ يَكُنْ حُجَّةً ضَرُورَةً فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُجَّةً فِي الْحُدُودِ أَيْضًا كَمَا كَانَ النُّطْقُ حُجَّةً فِيهَا فَلْيُتَأَمَّلْ فِي الْمَخْلَصِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الدَّلَالَةَ كَالْبَيَانِ هُوَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلَّغَ الرِّسَالَةَ بِالْكِتَابِ كَالْخِطَابِ فَإِذَا كَانَ خِطَابًا فِي حَقِّ الْقَادِرِ فَفِي حَقِّ الْأَخْرَسِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ عَجْزَهُ ظَاهِرٌ وَأَلْزَمُ عَادَةً؛ لِأَنَّ الْغَائِبَ يَقْدِرُ عَلَى الْحُضُورِ بَلْ يَقْدِرُ ظَاهِرًا وَالْأَخْرَسُ لَا يَقْدِرُ عَلَى نُطْقٍ وَالظَّاهِرُ بَقَاؤُهُ عَلَى الدَّوَامِ، ثُمَّ الْكِتَابُ عَلَى ثَلَاثَةِ مَرَاتِبَ مُسْتَبِينٌ وَمَرْسُومٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُعَنْوَنًا أَيْ مُصَدَّرٌ بِالْعِنْوَانِ وَهُوَ أَنْ يَكْتُبَ فِي صَدْرِهِ مِنْ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ فِي سَيْرِ الْكُتُبِ فَيَكُونُ هَذَا كَالنُّطْقِ فَيَلْزَمُ حُجَّةً وَمُسْتَبِينٌ غَيْرُ مَرْسُومٍ كَالْكِتَابَةِ عَلَى الْجُدْرَانِ وَأَوْرَاقِ الْأَشْجَارِ أَوْ عَلَى الْكَاغِدِ لَا عَلَى وَجْهِ الرَّسْمِ فَإِنَّ هَذَا يَكُونُ لَغْوًا؛ لِأَنَّهُ لَا عُرْفَ فِي إظْهَارِ الْأَمْرِ بِهَذَا الطَّرِيقِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً إلَّا بِانْضِمَامِ شَيْءٍ آخَرَ إلَيْهِ كَالْبَيِّنَةِ وَالْإِشْهَادِ عَلَيْهِ وَالْإِمْلَاءِ عَلَى الْغَيْرِ حَتَّى يَكْتُبَهُ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ قَدْ تَكُونُ تَجْرِبَةً وَقَدْ تَكُونُ لِلتَّحْقِيقِ وَبِهَذِهِ الْإِشَارَةِ تَتَبَيَّنُ الْجِهَةُ وَقِيلَ الْإِمْلَاءُ مِنْ غَيْرِ إشْهَادٍ لَا يَكُونُ حُجَّةً وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَغَيْرُ مُسْتَبِينٍ كَالْكِتَابَةِ عَلَى الْهَوَاءِ أَوْ الْمَاءِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ كَلَامٍ غَيْرِ مَسْمُوعٍ وَلَا يَثْبُتُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَحْكَامِ وَإِنْ نَوَى، وَقَوْلُ الْمُؤَلِّفِ وَقَوَدٍ وَعَلَّلَ فِي الْهِدَايَةِ بِأَنَّ الْقِصَاصَ فِيهِ مَعْنَى الْعِوَضِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ شُرِعَ جَابِرًا فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ مَعَ الشُّبْهَةِ كَسَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ الَّتِي هِيَ حَقُّ الْعَبْدِ بِخِلَافِ الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ لِلَّهِ تَعَالَى فَشُرِعَتْ زَوَاجِرَ وَلَيْسَ فِيهَا مَعْنَى الْعِوَضِيَّةِ فَلَا تَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ.
أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ مَا ذُكِرَ هَا هُنَا مِنْ جَوَازِ ثُبُوتِ الْقِصَاصِ مَعَ الشُّبْهَةِ مُخَالِفٌ لِمَا صَرَّحَ بِهِ فِيمَا مَرَّ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنْهَا كِتَابُ الْكَفَالَةِ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ وَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْكُلِّ عَلَى الدَّرْءِ فَلَا يَجِبُ فِيهَا الِاسْتِيثَاقُ وَمِنْهَا كِتَابُ الشَّهَادَاتِ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ وَلَا تُقْبَلُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّ شُبْهَةَ الْبَدَلِيَّةِ لِقِيَامِهَا مَقَامَ شَهَادَةِ الرِّجَالِ فَلَا تُقْبَلُ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ ثُمَّ قَالَ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ جَائِزَةٌ فِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute