لِي بِالْغَزْلِ فَأْتِنِي بِغَزْلٍ اشْتَرِيهِ فَأَتَى رَجُلٌ بِغَزْلٍ لِهَذَا الْغَزَّالِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْمُشْتَرِي فَجَعَلَ نَفْسَهُ دَلَّالًا بَيْنَهُمَا، وَاشْتَرَى ذَلِكَ الْغَزْلَ لَهُ بِأَزْيَدَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ وَصَرَفَ الْمُشْتَرِي بَعْضَهُ إلَى حَاجَتِهِ ثُمَّ عَلِمَ بِالْغَبْنِ وَبِمَا صَنَعَ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّ الْبَاقِيَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَالصَّوَابُ أَنْ يَرُدَّ الْبَاقِيَ وَمِثْلَ مَا صَرَفَ إلَى حَاجَتِهِ، وَلْيَسْتَرِدَّ جَمِيعَ الثَّمَنِ كَمَنْ اشْتَرَى بَيْتًا مَمْلُوءًا مِنْ بُرٍّ فَإِذَا فِيهِ دُكَّانٌ عَظِيمٌ فَلَهُ الرَّدُّ وَأَخْذُ جَمِيعِ الثَّمَنِ قَبْلَ إنْفَاقِ شَيْءٍ مِنْ عَيْنِهِ، وَبَعْدَهُ يَرُدُّ الْبَاقِيَ وَمِثْلَ مَا أَنْفَقَ، وَيَسْتَرِدُّ الثَّمَنَ كَذَا ذَكَرَهُ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ. اهـ.
فَقَدْ تَحَرَّرَ أَنَّ الْمَذْهَبَ عَدَمُ الرَّدِّ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ، وَلَكِنَّ بَعْضَ مَشَايِخِنَا أَفْتَى بِالرَّدِّ بِهِ، وَفِي خِزَانَة الْفَتَاوَى خُدِعَ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ فَالْمَذْهَبُ لَيْسَ لَهُ الرَّدُّ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الزَّرَنْجَرِيُّ يُفْتَى بِالرَّدِّ. اهـ.
وَبَعْضُهُمْ أَفْتَى بِهِ إنْ غَرَّهُ الْآخَرُ، وَبَعْضُهُمْ أَفْتَى بِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مِنْ عَدَمِ الرَّدِّ مُطْلَقًا، وَفِي الصَّيْرَفِيَّةِ اخْتَارَ عِمَادُ الدِّينِ الرَّدَّ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْمُشْتَرِي، وَكَذَا فِي وَاقِعَاتِ الْجَصَّاصِ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ رِوَايَاتِ الْمُضَارَبَةِ، وَبِهِ يُفْتِي، وَاخْتَارَهُ النَّسَفِيُّ وَأَبُو الْيُسْرِ الْبَزْدَوِيُّ، وَقَالَ الْإِمَامُ جَمَالُ الدِّينِ جَدِّيّ إنْ غَرَّهُ فَلَهُ الرَّدُّ، وَإِلَّا فَلَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ فَيَسِيرٌ، وَمَا لَا فَفَاحِشٌ. اهـ.
وَكَمَا يَكُونُ الْمُشْتَرِي مَغْبُوبًا مَغْرُورًا يَكُونُ الْبَائِعُ كَذَلِكَ كَمَا فِي فَتَاوَى قَارِئ الْهِدَايَةِ.
(فَصْلٌ) فِي بَيَانِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَالزِّيَادَةِ وَالْحَطِّ فِيهِمَا وَتَأْجِيلِ الدُّيُونِ
قَوْلُهُ (صَحَّ بَيْعُ الْعَقَارِ قَبْلَ قَبْضِهِ) أَيْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَا يَجُوزُ لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ، وَقِيَاسًا عَلَى الْمَنْقُول وَعَلَى الْإِجَارَةِ، وَلَهُمَا أَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحِلِّهِ وَلَا غَرَرَ فِيهِ لِأَنَّ الْهَلَاكَ فِي الْعَقَارِ نَادِرٌ بِخِلَافِ الْمَنْقُولِ، وَالْغَرَرُ الْمَنْهِيُّ غَرَرُ انْفِسَاخِ الْعَقْدِ، وَالْحَدِيثُ مَعْلُولٌ بِهِ عَمَلًا بِدَلَائِل الْجَوَازِ، وَالْإِجَارَةُ قِيلَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ، وَلَوْ سُلِّمَ فَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِي الْإِجَارَةِ الْمَنَافِعُ، وَهَلَاكُهَا غَيْرُ نَادِرٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ كَذَا فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى كَذَا فِي الْكَافِي، وَفِي الْخَانِيَّةِ لَوْ اشْتَرَى أَرْضًا فِيهَا زَرْعُ بَقْلٍ، وَدَفَعَهَا إلَى الْبَائِعِ مُعَامَلَةً بِالنِّصْفِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ آجَرَ الْأَرْضَ فَإِنْ دَفَعَ الْأَرْضَ مُعَامَلَةً يَكُونُ اسْتِئْجَارًا لِلْعَامِلِ، وَلَا يَكُونُ إجَارَةً، وَإِنَّمَا لَا يَجُوزُ لِكَوْنِهِ بَاعَ نِصْفَ الزَّرْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ أَطْلَقَهُ، وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا كَانَ لَا يُخْشَى إهْلَاكُهُ أَمَّا فِي مَوْضِعٍ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَالْمَنْقُولِ ذَكَرَهُ الْمَحْبُوبِيُّ، وَفِي الِاخْتِيَارِ حَتَّى لَوْ كَانَ عَلَى شَطِّ الْبَحْرِ أَوْ كَانَ الْمَبِيعُ عُلْوًا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ. اهـ.
وَفِي الْبِنَايَةِ إذَا كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَصِيرَ بَحْرًا أَوْ تَغْلِبَ عَلَيْهِ الرِّمَالُ لَمْ يَجُزْ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالصِّحَّةِ دُونَ النَّفَاذِ أَوْ اللُّزُومِ لِأَنَّ النَّفَاذَ، وَاللُّزُومَ مَوْقُوفَانِ عَلَى نَقْدِ الثَّمَنِ أَوْ رِضَا الْبَائِعِ، وَإِلَّا فَلِلْبَائِعِ إبْطَالُهُ، وَكَذَا كُلُّ تَصَرُّفٍ يَقْبَلُ النَّقْضَ إذَا فَعَلَهُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ فَلِلْبَائِعِ إبْطَالُهُ بِخِلَافِ مَا لَا يَقْبَلُ النَّقْضَ كَالْعِتْقِ، وَالتَّدْبِيرِ، وَالِاسْتِيلَادِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ قَيِّدَ بِالْبَيْعِ لِأَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى عَقَارًا فَوَهَبَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ مِنْ غَيْرِ الْبَائِعِ يَجُوزُ عِنْدَ الْكُلِّ كَذَا فِي الْخَانِيَّةِ.
قَوْلُهُ (لَا بَيْعُ الْمَنْقُولِ) أَيْ لَا يَصِحُّ لِنَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ، وَلِأَنَّ فِيهِ غَرَرَ انْفِسَاخِ الْعَقْدِ عَلَى اعْتِبَارِ الْهَلَاكِ، قَيِّدَ بِالْبَيْعِ لِأَنَّ هِبَتَهُ وَالتَّصَدُّقَ
ــ
[منحة الخالق]
(قَوْلُهُ وَمِثْلُ مَا صَرَفَ إلَى حَاجَتِهِ) مُقْتَضَاهُ أَنَّ الْغَزْلَ مِثْلِيٌّ لِأَنَّهُ مَوْزُونٌ لَا قِيَمِيٌّ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا يَأْتِي فِي الرِّبَا حَيْثُ عَدُّوهُ مِنْ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ، وَرَأَيْت بِخَطِّ بَعْضِ مَشَايِخِ مَشَايِخِنَا مَا نَصُّهُ: كُلُّ مَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ وَلَيْسَ فِي تَبْعِيضِهِ مَضَرَّةٌ يَعْنِي غَيْرَ الْمَصْنُوعِ فَهُوَ مِثْلِيٌّ، وَكَذَا الْعَدَدِيُّ الْمُتَقَارِبُ كَالْجَوْزِ وَالْبَيْضِ وَالْفُلُوسِ وَنَحْوِهَا، وَذَكَرَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْيُسْرِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي شَرْحِ كِتَابِ الْغَصْبِ لَيْسَ كُلُّ مَكِيلٍ مِثْلِيًّا وَلَا كُلُّ مَوْزُونٍ إنَّمَا الْمِثْلِيُّ مِنْ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ مَا هِيَ مُتَقَارِبَةٌ أَمَّا مَا هُوَ مُتَفَاوِتٌ فَلَيْسَ بِمِثْلِيٍّ فَكَانَتْ الْمَكِيلَاتُ وَالْمَوْزُونَاتُ وَالْعَدَدِيَّاتُ سَوَاءٌ عِمَادِيَّةً مِنْ أَنْوَاعِ الضَّمَانَاتِ اهـ.
قُلْتُ: وَرَأَيْت فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ وَالثَّلَاثِينَ مِنْ جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ بِرَمْزِ (فر) الْخَلُّ وَالْعَصِيرُ وَالدَّقِيقُ وَالنُّخَالَةُ وَالْجِصُّ وَالنُّورَةُ وَالْقُطْنُ وَالصُّوفُ وَغَزْلُهُ وَالتِّبْنُ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ مِثْلِيٌّ ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ بِنَحْوِ كُرَّاسَةٍ وَنِصْفٍ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي ضَمَانِ النَّسَّاجِ دَفَعَ إلَيْهِ غَزْلًا لِيَنْسِجَ فَجَحَدَ الْحَائِكُ الْغَزْلَ وَحَلَفَ ثُمَّ أَقَرَّ، وَجَاءَ بِهِ مَنْسُوجًا فَلَوْ نَسَجَهُ قَبْلَ جُحُودِهِ فَلَهُ أَجْرَهُ، وَلَوْ نَسَجَهُ بَعْدَ جُحُودِهِ ضَمِنَ غَزْلًا مِثْلَهُ لِأَنَّهُ مِثْلِيٌّ، وَلَا أَجْرَ لَهُ إلَخْ فَهَذَا صَرِيحُ النَّقْلِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ فَانْدَفَعَ قَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّهُ قِيَمِيٌّ فَتَنَبَّهْ.
[فَصْلٌ فِي بَيَانِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ قَبْلَ قَبْضِهِ]
(فَصْلٌ فِي بَيَانِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَبِيعِ)
(قَوْلُهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ آجَرَ الْأَرْضَ) الظَّاهِرُ أَنْ لَا سَاقِطَةٌ مِنْ النُّسَخِ قَبْلَ قَوْلِهِ لِأَنَّهُ (قَوْلُهُ أَوْ بَعْدَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ) الضَّمِيرُ عَائِدٌ إلَى الْقَبْضِ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ أَوْ بِمَحْذُوفٍ حَالٌ مِنْهُ أَيْ أَنَّ الْقَبْضَ الْوَاقِعَ بِلَا إذْنِ الْبَائِعِ بِمَنْزِلَةِ عَدَمِ الْقَبْضِ لِأَنَّ لِلْبَائِعِ اسْتِرْدَادَهُ لِيَحْبِسَهُ عَلَى الثَّمَنِ.