الْبُعْدَ مُجَوِّزٌ لِلتَّيَمُّمِ مُطْلَقًا وَفِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ مَعْزِيًّا إلَى الْمُجْتَبَى وَيَتَخَالَجُ فِي قَلْبِي فِيمَا إذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ إنْ أَخَّرَ الصَّلَاةَ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ بِقُرْبٍ مِنْ الْمَاءِ بِمَسَافَةٍ أَقَلَّ مِنْ مِيلٍ لَكِنْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الصَّلَاةِ بِالْوُضُوءِ فِي الْوَقْتِ الْأَوْلَى أَنْ يُصَلِّيَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ مُرَاعَاةً لِحَقِّ الْوَقْتِ وَتَجَنُّبًا عَنْ الْخِلَافِ اهـ.
وَذَكَرَ فِي الْمَنَاقِبِ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ أَوَّلُ وَاقِعَةٍ خَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ أُسْتَاذَه حَمَّادًا فَصَلَّى حَمَّادٌ بِالتَّيَمُّمِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَوَجَدَ أَبُو حَنِيفَةَ الْمَاءَ فِي آخِرِ الْوَقْتِ وَصَلَّاهَا، وَكَانَ ذَلِكَ غُرَّةَ اجْتِهَادِهِ فَقَبِلَهَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ وَصَوَّبَهُ فِيهِ، وَكَانَتْ هَذِهِ الصَّلَاةُ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ، وَكَانَ خُرُوجُهُمَا لِأَجْلِ تَشْيِيعِ الْأَعْمَشِ.
(قَوْلُهُ: وَصَحَّ قَبْلَ الْوَقْتِ وَلِفَرْضَيْنِ) أَيْ صَحَّ التَّيَمُّمُ قَبْلَ الْوَقْتِ وَلِفَرْضَيْنِ اعْلَمْ أَنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ بِلَا شَكٍّ اتِّفَاقًا لَكِنْ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْبَدَلِ فِي مَوْضِعَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْخِلَافُ فِيهِ لِأَصْحَابِنَا مَعَ الشَّافِعِيِّ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: هُوَ بَدَلٌ مُطْلَقٌ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ وَلَيْسَ بِضَرُورِيٍّ وَيَرْتَفِعُ بِهِ الْحَدَثُ إلَى وَقْتِ وُجُودِ الْمَاءِ لَا أَنَّهُ مُبِيحٌ لِلصَّلَاةِ مَعَ قِيَامِ الْحَدَثِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ هُوَ بَدَلٌ ضَرُورِيٌّ مُبِيحٌ مَعَ قِيَامِ الْحَدَثِ حَقِيقَةً فَلَا يَجُوزُ قَبْلَ الْوَقْتِ وَلَا يُصَلِّي بِهِ أَكْثَرَ مِنْ فَرِيضَةٍ عِنْدَهُ وَعِنْدَنَا يَجُوزُ وَفِي إنَاءَيْنِ طَاهِرٍ وَنَجَسٍ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ؛ وَلِهَذَا يَبْنِي الْخِلَافَ تَارَةً عَلَى أَنَّهُ رَافِعٌ لِلْحَدَثِ عِنْدَنَا مُبِيحٌ عِنْدَهُ لَا رَافِعٌ وَتَارَةً عَلَى أَنَّهُ طَهَارَةٌ ضَرُورِيَّةٌ عِنْدَهُ مُطْلَقَةٌ عِنْدَنَا وَاقْتَصَرَ عَلَى الثَّانِي صَاحِبُ الْهِدَايَةِ وَيَدْفَعُ مَبْنَى الشَّافِعِيِّ الْأَوَّلَ بِأَنَّ اعْتِبَارَ الْحَدَثِ مَانِعِيَّةٌ عَنْ الصَّلَاةِ شَرْعِيَّةٌ لَا يُشْكِلُ مَعَهُ أَنَّ التَّيَمُّمَ رَافِعٌ لِارْتِفَاعِ ذَلِكَ الْمَنْعِ بِهِ، وَهُوَ الْحَقُّ إنْ لَمْ يَقُمْ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ دَلِيلٌ وَتَغَيُّرُ الْمَاءِ بِرَفْعِ الْحَدَثِ إنَّمَا يَسْتَلْزِمُ اعْتِبَارَهُ نَازِلًا عَنْ وَصْفِهِ الْأَوَّلِ بِوَاسِطَةِ إسْقَاطِ الْفَرْضِ لَا بِوَاسِطَةِ إزَالَةِ وَصْفٍ حَقِيقِيٍّ مُدَنِّسٍ وَيُدْفَعُ الثَّانِي بِأَنَّهُ طَهُورٌ حَالَ عَدَمِ الْمَاءِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «التُّرَابُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ» وَقَالَ فِي حَدِيثِ الْخَصَائِصِ فِي الصَّحِيحَيْنِ «وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» يُرِيدُ بِهِ مُطَهِّرًا، وَإِلَّا لَمَا تَحَقَّقَتْ الْخُصُوصِيَّةُ؛ لِأَنَّ طَهَارَةَ الْأَرْضِ بِالنِّسْبَةِ إلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ ثَابِتَةٌ، وَإِذَا كَانَ مُطَهِّرًا فَتَبْقَى طَهَارَتُهُ إلَى وُجُودِ غَايَتِهَا مِنْ وُجُودِ الْمَاءِ أَوْ نَاقِضٍ آخَرَ الثَّانِي الْخِلَافُ فِيهِ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْبَدَلِيَّةُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ وَهُمَا التَّيَمُّمُ وَالْوُضُوءُ وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ جَوَازُ اقْتِدَاءِ الْمُتَوَضِّئِ بِالْمُتَيَمِّمِ فَأَجَازَاهُ وَمَنَعَهُ وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَقَاسَ الشَّافِعِيُّ كَمَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ عَدَمَ جَوَازِهِ قَبْلَ الْوَقْتِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ طَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ قَبْلَ الْوَقْتِ وَقَالَ النَّوَوِيُّ إنَّهُمْ وَافَقُونَا عَلَيْهِ وَمَنَعَ أَئِمَّتُنَا الْحُكْمَ فِي الْمَقِيسِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَنَا جَوَازُ وُضُوئِهَا قَبْلَ الْوَقْتِ وَلَا يَنْتَقِضُ بِالدُّخُولِ وَلَئِنْ سَلَّمَ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِنَقْضِهَا بِالدُّخُولِ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ طَهَارَةَ الْمُسْتَحَاضَةِ قَدْ وُجِدَ مَا يُنَافِيهَا، وَهُوَ سَيَلَانُ الدَّمِ وَالتَّيَمُّمُ لَمْ يُوجَدْ لَهُ رَافِعٌ بَعْدَهُ، وَهُوَ الْحَدَثُ أَوْ وُجُودُ الْمَاءِ فَيَبْقَى عَلَى مَا كَانَ كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ بَلْ أَقْوَى؛ لِأَنَّ الْمَسْحَ مُؤَقَّتٌ بِمُدَّةٍ قَلِيلَةٍ وَالشَّارِعُ جَوَّزَ التَّيَمُّمَ وَلَوْ إلَى عَشْرِ حِجَجٍ مَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ وَقَوْلُهُمْ لَا ضَرُورَةَ قَبْلَهُ مَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّ الْمَنْدُوبَ التَّطَهُّرُ قَبْلَ الْوَقْتِ لِيَشْتَغِلَ أَوَّلَ الْوَقْتِ بِالْأَدَاءِ وَمَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ أَثَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ مِنْ السُّنَّةِ أَنْ لَا يُصَلِّيَ بِالتَّيَمُّمِ أَكْثَرَ مِنْ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَمِنْ أَثَرِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ يَتَيَمَّمُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَإِنْ لَمْ يُحْدِثْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَمِنْ أَثَرِ عَلِيٍّ قَالَ يَتَيَمَّمُ لِكُلِّ صَلَاةٍ فَالْكُلُّ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ فِي سَنَدِ الْأَوَّلِ الْحَسَنَ بْنَ عُمَارَةَ تَكَلَّمُوا فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ مَتْرُوكٌ ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ فِي مُقَدِّمَةِ كِتَابِهِ فِي جُمْلَةِ مَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ رَوَاهُ عَنْهُ أَبُو يَحْيَى الْجُمَّانِيُّ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ وَفِي سَنَدِ الثَّانِي عَامِرٌ ضَعَّفَهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَفِي سَمَاعِهِ عَنْ نَافِعٍ نَظَرٌ وَقَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ الرِّوَايَةُ فِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ لَا تَصِحُّ وَفِي السَّنَدِ الثَّالِثِ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ وَالْحَارِثُ الْأَعْوَرُ وَهُمَا ضَعِيفَانِ مَعَ أَنَّ ظَاهِرَهُمَا مَتْرُوكٌ، فَإِنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ أَكْثَرَ مِنْ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ النَّوَافِلِ مَعَ
ــ
[منحة الخالق]
الْإِلْزَامِ اهـ أَيْ أَنَّهُ مُحْتَمِلٌ فَلِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ إنَّهُ دَلِيلٌ لِي أَيْضًا.
[التَّيَمُّمُ قَبْلَ الْوَقْتِ]
(قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْمَنْدُوبَ التَّطَهُّرُ قَبْلَ الْوَقْتِ) قَالَ الرَّمْلِيُّ: هَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ التَّيَمُّمَ قَبْلَ الْوَقْتِ مَنْدُوبٌ وَقَلَّ مَنْ صَرَّحَ بِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute