مَاتَ الرَّاهِنُ بَاعَ وَصِيُّهُ الرَّهْنَ وَقَضَى الدَّيْنَ) ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوصِي وَكَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الرَّهْنَ فَكَذَا الْوَصِيَّةُ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَصِيٌّ نَصَبَ الْقَاضِي لَهُ وَصِيًّا وَأَمَرَ بِبَيْعِهِ) وَفَعَلَ ذَلِكَ إلَى الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ نُصِبَ نَاظِرًا لِحُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ إذَا عَجَزُوا عَنْ النَّظَرِ؛ لِأَنْفُسِهِمْ، وَقَدْ تَعَيَّنَ النَّظَرُ فِي نَصِيبِ الْوَصِيِّ لِيُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ لِغَيْرِهِ وَيَسْتَوْفِي حُقُوقَهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَوْ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ فَرَهَنَ الْوَصِيُّ بَعْضَ التَّرِكَةِ عِنْدَ غَرِيمٍ لَهُ مِنْ غُرَمَائِهِ لَمْ يَجُزْ وَلِلْآخَرِينَ أَنْ يَرُدُّوهُ؛ لِأَنَّهُ إيثَارٌ لِبَعْضِ الْغُرَمَاءِ بِالْإِيفَاءِ الْحُكْمِيِّ فَأَشْبَهَهُ الْإِيثَارُ بِالْإِيفَاءِ الْحَقِيقِيِّ وَالْجَامِعُ مَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ إبْطَالِ حَقِّ غَيْرِهِ مِنْ الْغُرَمَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَيِّتَ بِنَفْسِهِ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ بِمَرَضِ مَوْتِهِ فَكَذَا مَنْ قَامَ مَقَامَهُ.
وَإِنْ قُضِيَ دَيْنُهُمْ قَبْلَ أَنْ يَرُدُّوهُ جَازَ لِزَوَالِ الْمَانِعِ وَوُصُولِ حَقِّهِمْ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ غَرِيمٌ آخَرُ جَازَ الرَّهْنُ اعْتِبَارًا بِالْإِيفَاءِ الْحَقِيقِيِّ وَبِيعَ فِي دِينِهِ؛ لِأَنَّهُ يُبَاعُ فِيهِ قَبْلَ الرَّهْنِ فَكَذَا بَعْدَهُ، وَإِذَا ارْتَهَنَ الْوَصِيُّ بِدَيْنٍ لِلْمَيِّتِ عَلَى رَجُلٍ جَازَ؛ لِأَنَّهُ اسْتِيفَاءٌ فَيَمْلِكُهُ وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَفَرِّقَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي أَوَاخِرِ الْكُتُبِ]
(فَصْلٌ) هَذَا الْفَصْلُ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَفَرِّقَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي أَوَاخِرِ الْكُتُبِ فَلِذَا أَخَّرَهُ اسْتِدْرَاكًا لِمَا فَاتَهُ فِيمَا سَبَقَ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (رَهَنَ عَصِيرًا قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ بِعَشَرَةٍ فَتَخَمَّرَ، ثُمَّ تَخَلَّلَ وَهُوَ يُسَاوِي عَشَرَةً فَهُوَ رَهْنٌ بِعَشَرَةٍ) يَعْنِي إذَا رَهَنَ عِنْدَ مُسْلِمٍ عَصِيرًا إلَى آخِرِهَا قَالُوا مَا كَانَ مَحِلًّا لِلْبَيْعِ بَقَاءً يَكُونُ مَحِلًّا لِلرَّهْنِ بَقَاءً كَمَا أَنَّ مَا يَكُونُ مَحِلًّا لِلْبَيْعِ ابْتِدَاءً يَكُونُ مَحِلًّا لِلرَّهْنِ ابْتِدَاءً وَالْخَمْرُ مَحَلٌّ لِلْبَيْعِ بَقَاءً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَحِلًّا لَهُ ابْتِدَاءً أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَوْ كَانَ مَدَارُ مَسْأَلَتِنَا الْمَذْكُورَةِ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ مِنْ التَّعْلِيلِ لَمَا ظَهَرَ فَائِدَةُ قَوْلِهِ، ثُمَّ صَارَ خَلًّا فِي وَضْعِ مَسْأَلَةٍ بَلْ كَانَ يَكْفِي أَنْ يُقَالَ وَمَنْ رَهَنَ عَصِيرًا بِعَشَرَةٍ فَتَخَمَّرَ فَهُوَ رَهْنٌ بِعَشَرَةٍ لِكِفَايَةِ التَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ بِعَيْنِهِ فِي إثْبَاتِ هَذَا الْمَعْنَى الْعَامِّ فَتَأَمَّلْ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ مَا يَرْجِعُ إلَى الْمَحِلِّ فَالِابْتِدَاءُ وَالْبَقَاءُ فِيهِ سَوَاءٌ فَمَا بَالُ هَذَا تَخَلَّفَ عَنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ، وَقَالَ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ كَذَلِكَ فِيمَا يَكُونُ الْمَحِلُّ بَاقِيًا وَهَاهُنَا يَتَبَدَّلُ الْمَحِلُّ حُكْمًا بِتَبَدُّلِ الْوَصْفِ فَكَذَلِكَ تَخَلَّفَ عَنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ اهـ.
أَقُولُ: قَوْلُهُ: ثُمَّ تَخَلَّلَ وَهِيَ تُسَاوِي عَشَرَةً يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ الْقِيمَةُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْمُعْتَبَرُ الْقَدْرُ؛ لِأَنَّ الْعَصِيرَ وَالْخَلَّ مِنْ الْمُقَدَّرَاتِ؛ لِأَنَّهُ إمَّا مَكِيلٌ أَوْ مَوْزُونٌ وَفِيهَا نُقْصَانُ الْقِيمَةِ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ الدَّيْنِ كَمَا مَرَّ فِي انْكِسَارِ الْقُلْبِ وَإِنَّمَا يُوجِبُ الْخِيَارَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ الْغَايَةَ فِيهِ مُجَرَّدُ الْوَصْفِ وَفَوَاتُ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ الْوَصْفِ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ شَيْءٍ مِنْ الدَّيْنِ بِإِجْمَاعٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ أَنَّهُ إنْ نَقَصَ شَيْءٌ مِنْ الْقَدْرِ سَقَطَ بِقَدْرِهِ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ وَإِلَّا فَلَا وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ، ثُمَّ تَخَلَّلَ إلَى أَنَّ الْمَرْهُونَ عِنْدَهُ مُسَلَّمٌ وَالرَّاهِنُ فَلَوْ كَانَ ذِمِّيًّا قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ رَهَنَ ذِمِّيٌّ مِنْ ذِمِّيٍّ خَمْرًا فَصَارَتْ خَلًّا لَا يَنْقُصُ مِنْ قِيمَتِهِ بِقَدْرِهِ وَيَبْقَى رَهْنًا؛ لِأَنَّ بِالتَّغْيِيرِ مِنْ وَصْفِ الْمَرَارَةِ إلَى الْحُمُوضَةِ نَقَصَتْ الْمَالِيَّةُ عِنْدَهُمْ وَمُقَوِّمُهَا مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ بِحَالِهَا وَبِتَبَدُّلِ الصِّفَةِ لَا يَبْطُلُ الرَّهْنُ كَمَا لَوْ كَانَ الرَّهْنُ قُلْبًا فَانْكَسَرَ وَبَقِيَ الْوَزْنُ عَلَى حَالِهِ.
ثُمَّ عِنْدَهُمَا يَتَخَيَّرُ الرَّاهِنُ إنْ شَاءَ افْتَكَّهُ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ وَأَخَذَهُ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ خَمْرًا مِثْلَ خَمْرِهِ فَيَصِيرُ الْخَلُّ مِلْكًا لِلْمُرْتَهِنِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ شَاءَ افْتَكَّهُ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ، وَإِنْ شَاءَ جَعَلَهُ بِالدَّيْنِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْقُلْبِ إذَا انْكَسَرَ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ وَقَيَّدْنَا بِقَوْلِنَا رَهَنَ مُسْلِمٌ عَصِيرًا؛ لِأَنَّ رَهْنَ الْكَافِرِ الْخَمْرَ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَوْ رَهْنُ الْمُسْلِمِ الْخَمْرَ عِنْدَ كَافِرٍ بَاطِلٌ قَالَ ارْتَهَنَ الْمُسْلِمُ مِنْ كَافِرٍ خَمْرًا فَصَارَ خَلًّا فِي الرَّهْنِ بَاطِلٌ وَيَكُونُ الْخَلُّ أَمَانَةً فِي يَدِهِ لِلرَّاهِنِ وَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ قَضَاءَ دَيْنِهِ، وَإِنْ شَاءَ يَدَعُ الْخَلَّ بِدَيْنِهِ إنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْخَلِّ يَوْمَ الرَّهْنِ كَالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ يَجُوزُ أَنْ يَضْمَنَ الْخَمْرَ بِالرَّهْنِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ ضَمَانٍ وَالْمَضْمُونُ مَتَى نُصِبَ فِي يَدِ الضَّمِينِ يُخَيَّرُ مَنْ لَهُ الضَّمَانُ كَمَا لَوْ غَصَبَ الْمُسْلِمُ خَمْرًا مِنْ ذِمِّيٍّ فَصَارَتْ خَلًّا فِي يَدِهِ يُخَيَّرُ الذِّمِّيُّ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ عِنْدَ أَهْلِ الذِّمَّةِ يَصْلُحُ لِمَنَافِعَ مَا لَا يَصْلُحُ لَهُ الْخَلُّ وَلَا وَجْهَ فَصَارَ الْخَمْرُ كَالْهَالِكِ مِنْ وَجْهٍ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُرْتَهِنَ خَمْرًا مِثْلَ خَمْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مَنْهِيٌّ عَنْ تَمْلِيكِ الْخَمْرِ، وَلَا وَجْهَ أَنْ يُتْرَكَ الْخَلَّ عَلَيْهِ وَيَضْمَنَ النُّقْصَانَ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا. وَالْأَوْجَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْخَلَّ وَيَضْمَنَ الدَّيْنَ كُلَّهُ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِهِ فَقُلْنَا بِأَنَّهُ يَجْعَلُهُ بِالدَّيْنِ لِيَدْفَعَ الضَّرَرَ عَنْهُ، وَلَيْسَ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فَكَذَا هَذَا، فَإِذَا وَجَبَتْ قِيمَةُ الْخَمْرِ لِلرَّاهِنِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فَلَهُ عَلَيْهِ مِثْلُ ذَلِكَ فَيَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا.
وَلَوْ ارْتَهَنَ الْكَافِرُ خَمْرًا مِنْ مُسْلِمٍ لَا يَجُوزُ وَيَكُونُ أَمَانَةً فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ لَا يَصِيرُ مَضْمُونًا عَلَى الْكَافِرِ الْمُسْلِمِ، وَإِنْ قَبَضَهَا بِجِهَةِ الضَّمَانِ كَمَا فِي الْغَصْبِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute