يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّأْخِيرُ حَتَّى يُحْضِرَ الْآخَرُ ثُبُوتَ حَقِّهِ بِيَقِينٍ وَحَقُّ الْآخَرِ مُتَرَدِّدٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا يَطْلُبَ أَوْ يَعْفُوَ مَجَّانًا أَوْ صُلْحًا فَصَارَ كَأَحَدِ الشَّفِيعَيْنِ إذَا حَضَرَ وَالْآخَرُ غَائِبٌ حَيْثُ يَقْضِي لَهُ بِالشُّفْعَةِ فِي الْكُلِّ لِمَا قُلْنَا.
ثُمَّ إذَا حَضَرَ الْآخَرُ بَعْدَمَا قُطِعَتْ لِلْآخَرِ وَطَلَبَ يَقْضِي لَهُ بِالدِّيَةِ؛ لِأَنَّ يَدَهُ وَفَاؤُهَا حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ فَيَضْمَنُهَا لِسَلَامَتِهَا لَهُ، وَلَوْ قَضَى بِالْقِصَاصِ بَيْنَهُمَا ثُمَّ عَفَا أَحَدُهُمَا قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الدِّيَةِ فَلِلْآخِرِ الْقَوَدُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَهُ الْأَرْشُ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ بِالْقَضَاءِ أَثْبَتَ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمَا فَعَادَ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى الْبَعْضِ، فَإِذَا عَفَا أَحَدُهُمَا فَقَدْ مَنَعَ الْآخَرَ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْكُلِّ وَلَهُمَا أَنَّ الْإِمْضَاءَ مِنْ الْقَضَاءِ فِي الْعُقُوبَاتِ فَالْعَفْوُ قَبْلَهُ كَالْعَفْوِ قَبْلَ الْقَضَاءِ، وَلَوْ قَطَعَ أَحَدُهُمَا يَدَ الْقَاطِعِ مِنْ الْمِرْفَقِ سَقَطَ الْقِصَاصُ لِذَهَابِ الْيَدِ الَّتِي فِيهَا الْقِصَاصُ بِالْقَطْعِ ظُلْمًا وَلَا يَنْقَلِبُ مَالًا كَمَا إذَا قَطَعَهَا أَجْنَبِيٌّ أَوْ سَقَطَتْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ وَلَهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ عَلَى حَالِهَا؛ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ قَبْلَ قَطْعِهَا وَلَا تَسْقُطُ بِالْقَطْعِ ظُلْمًا ثُمَّ الْقَاطِعُ الْأَوَّلُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَطَعَ ذِرَاعَ الْقَاطِعِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ دِيَةَ الْيَدِ وَحُكُومَةُ عَدْلٍ فِي قَطْعِ الذِّرَاعِ إلَى الْمِرْفَقِ؛ لِأَنَّ يَدَ الْقَاطِعِ كَانَتْ مَقْطُوعَةً مِنْ الْكَفِّ حِينَ قَطَعَ الْقَاطِعُ الْأَوَّلُ مِنْ الْمِرْفَقِ فَكَانَتْ كَالشَّلَّاءِ وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الْمَقْطُوعُ يَدُهُ وَاحِدًا فَقَطَعَ الْقَاطِعَ مِنْ الْمِرْفَقِ سَقَطَ حَقُّهُ فِي الْقِصَاصِ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَلِلْمَقْطُوعِ مِنْ الْمِرْفَقِ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ قَطَعَ مِنْ الْمِرْفَقِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْشَ لِمَا ذَكَرْنَا وَقَدَّمْنَا لَهُ مَزِيدَ بَيَانٍ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (، وَإِنْ أَقَرَّ عَبْدٌ بِقَتْلِ عَمْدٍ يُقْتَصُّ مِنْهُ) .
وَقَالَ زُفَرُ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ حَقِّ الْمَوْلَى فَصَارَ كَالْإِقْرَارِ بِالْقَتْلِ خَطَأً أَوْ بِالْمَالِ وَلَنَا أَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي مِثْلِهِ لِكَوْنِهِ يَلْحَقُهُ الضَّرَرُ بِهِ فَيَصِحُّ؛ وَلِأَنَّ الْعَبْدَ يَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ فِي حَقِّ الدَّمِ عَمَلًا بِآدَمِيَّتِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ إقْرَارَ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لَا يَجُوزُ، فَإِذَا صَحَّ لَزِمَهُ إبْطَالُ حَقِّ الْمَوْلَى ضَرُورَةً وَذَلِكَ لَا يَضُرُّ وَكَمْ مِنْ شَيْءٍ يَصِحُّ ضِمْنًا، وَإِنْ كَانَ لَا يَصِحُّ قَصْدًا بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ عَلَى الْمَوْلَى بِإِبْطَالِ حَقِّهِ قَصْدًا؛ لِأَنَّ مُوجَبَهُ بَيْعُ الْعَبْدِ أَوْ الِاسْتِيفَاءُ وَكَذَا إقْرَارُهُ بِالْقَتْلِ خَطَأً؛ لِأَنَّ مُوجِبَهُ دَفْعُ الْعَبْدِ أَوْ الْفِدَاءُ عَلَى الْمَوْلَى وَلَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ شَيْءٌ وَلَا يَصِحُّ سَوَاءٌ كَانَ الْعَبْدُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ أَوْ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ بَاطِلٌ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَإِنْ رَمَى رَجُلًا عَمْدًا فَنَفَذَ السَّهْمُ مِنْهُ إلَى آخَرَ يُقْتَصُّ لِلْأَوَّلِ وَلِلثَّانِي الدِّيَةُ) ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ عَمْدٌ وَالثَّانِي أَحَدُ نَوْعَيْ الْخَطَأِ، وَهُوَ الْخَطَأُ فِي الْفِعْلِ فَكَأَنَّهُ رَمَى إلَى حَرْبِيٍّ وَأَصَابَ مُسْلِمًا وَالْفِعْلُ الْوَاحِدُ يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ أَثَرِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ الْجِنَايَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ]
(فَصْلٌ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ حُكْمِ الْجِنَايَةِ الْوَاحِدَةِ شَرَعَ فِي ذِكْرِ الْجِنَايَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ؛ لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ بَعْدَ الْوَاحِدِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (، وَمَنْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ ثُمَّ قَتَلَهُ أُخِذَ بِالْأَمْرَيْنِ، وَلَوْ عَمْدَيْنِ أَوْ مُخْتَلِفَيْنِ أَوْ خَطَأَيْنِ تَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا بُرْءٌ أَوْ لَا إلَّا فِي خَطَأَيْنِ لَمْ يَتَخَلَّلْ بَيْنَهُمَا بُرْءٌ فَتَجِبُ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ كَمَنْ ضَرَبَ رَجُلًا مِائَةَ سَوْطٍ فَبَرِئَ مِنْ تِسْعِينَ وَمَاتَ مِنْ عَشَرَةٍ) يَعْنِي إذَا قَطَعَ يَدَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ يَجِبُ عَلَيْهِ مُوجِبُ الْقَطْعِ وَمُوجَبُ الْقَتْلِ إنْ كَانَا عَمْدَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا عَمْدٌ، وَالْآخَرُ خَطَأٌ أَوْ كَانَا خَطَأَيْنِ وَتَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا بُرْءٌ وَفِي خَطَأَيْنِ لَمْ يَتَخَلَّلْ بَيْنَهُمَا بُرْءٌ فَتَجِبُ عَلَيْهِ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ فَحَاصِلُهُ أَنَّ الْكُلَّ لَا يَتَدَاخَلُ إلَّا فِي خَطَأَيْنِ، فَإِنَّهُمَا يَتَدَاخَلَانِ فَيَجِبُ فِيهِمَا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ إذَا لَمْ يَتَخَلَّلْ بَيْنَهُمَا بُرْءٌ، وَإِنْ تَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا بُرْءٌ لَا يَتَدَاخَلَانِ أَمَّا الْأَوَّلُ، وَهُوَ مَا إذَا كَانَا عَمْدَيْنِ فَالْمَذْكُورُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَتَدَاخَلَانِ فَيُقْتَلُ حَدًّا وَلَا يُقْطَعُ يَدُهُ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مُمْكِنٌ لِتَجَانُسِ الْفِعْلَيْنِ وَعَدَمِ تَخَلُّلِ الْبُرْءِ بَيْنَهُمَا فَصَارَ كَالْخَطَأَيْنِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْجِرَاحَاتِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ يَقَعُ بِضَرَبَاتٍ غَالِبًا، وَاعْتِبَارُ كُلِّ ضَرْبَةٍ عَلَى حِدَتِهَا يُؤَدِّي إلَى الْجُرْحِ فَيُجْمَعُ تَيْسِيرًا إلَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ بِأَنْ يَخْتَلِفَ حُكْمُ الْفِعْلَيْنِ كَالْعَمْدِ وَالْخَطَأِ أَوْ يَتَخَلَّلُ الْبُرْءُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْبُرْءَ قَاطِعٌ لِلسِّرَايَةِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الثَّانِي تَتْمِيمًا لِلْأَوَّلِ فَيُعْتَبَرُ عَلَى حَالِهِ وَأَمْكَنَ ذَلِكَ قَبْلَ الْبُرْءِ فَصَارَ كَسِرَايَةِ الْأَوَّلِ وَلَهُ أَنَّ الْجَمْعَ مُتَعَذِّرٌ؛ لِأَنَّ حَزَّ الرَّقَبَةِ يَمْنَعُ سِرَايَةَ الْقَطْعِ كَالْبُرْءِ حَتَّى لَوْ صَدَرَ مِنْ شَخْصَيْنِ وَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْقِصَاصُ.
فَكَذَا إذَا كَانَ مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ فَتُقْطَعُ أَوَّلًا يَدُهُ ثُمَّ يَقْتُلُوهُ إنْ شَاءُوا، وَإِنْ شَاءُوا قَتَلُوهُ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ فِي الْفِعْلِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ بِالْقَتْلِ وَالْقَطْعُ بِالْقَطْعِ وَاسْتِيفَاءُ الْقَطْعِ بِالْقَتْلِ مُتَعَذِّرٌ لِاخْتِلَافِهِمَا حَقِيقَةً وَحُكْمًا؛ وَلِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ صُورَةً وَمَعْنًى يَكُونُ بِاسْتِيفَائِهِمَا وَبِالِاكْتِفَاءِ بِالْقَتْلِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute