للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مِنْ دَفْعِ الْعَارِ عَنْهُ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ رُجُوعُهُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ، وَالتَّقَادُمُ غَيْرُ مَانِعٍ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ وَلِأَنَّ الدَّعْوَى فِيهِ شَرْطٌ فَيُحْمَلُ تَأْخِيرُهُمْ عَلَى انْعِدَامِ الدَّعْوَى فَلَا يُوجِبُ تَفْسِيقَهُمْ وَلَا يَرِدُ حَدُّ السَّرِقَةِ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى لَيْسَ بِشَرْطٍ لِلْحَدِّ؛ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا مَرَّ، وَإِنَّمَا شَرْطٌ لِلْمَالِ وَلِأَنَّ الْحُكْمَ يُدَارُ عَلَى كَوْنِ الْحَدِّ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يُعْتَبَرُ وُجُودُ التُّهْمَةِ فِي كُلِّ فَرْدٍ وَلِأَنَّ السَّرِقَةَ تُقَامُ عَلَى الِاسْتِشْرَارِ عَلَى غِرَّةٍ مِنْ الْمَالِكِ فَيَجِبُ عَلَى الشَّاهِدِ إعْلَامُهُ وَبِالْكِتْمَانِ يَصِيرُ فَاسِقًا آثِمًا وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِكَوْنِ التَّقَادُمِ مُبْطِلًا لَهَا إلَى أَنَّ التَّقَادُمَ يَمْنَعُ الْإِقَامَةَ بَعْدَ الْقَضَاءِ حَتَّى لَوْ هَرَبَ بَعْدَ مَا ضُرِبَ بَعْضَ الْحَدِّ ثُمَّ أُخِذَ بَعْدَ مَا تَقَادَمَ الزَّمَانُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْإِمْضَاءَ مِنْ الْقَضَاءِ فِي بَابِ الْحُدُودِ فَلَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ الشَّهَادَةِ حَالَ الِاسْتِيفَاءِ وَبِالتَّقَادُمِ لَمْ تَبْقَ الشَّهَادَةُ فَلَا يَصِحُّ هَذَا الْقَضَاءُ الَّذِي هُوَ الِاسْتِيفَاءُ وَقَيَّدَ بِالشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِسَبَبِ حَدٍّ مُتَقَادِمٍ حُدَّ لِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُعَادِي نَفْسَهُ إلَّا فِي حَدِّ الشُّرْبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، فَإِنَّ التَّقَادُمَ فِيهِ يُبْطِلُ الْإِقْرَارَ كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ.

وَلَمْ يُفَسِّرْ الْمُصَنِّفُ التَّقَادُمَ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ الْأَعْظَمَ لَمْ يُقَدِّرْهُ بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا فَوَّضَهُ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي فِي كُلِّ عَصْرٍ لَكِنَّ الْأَصَحَّ مَا عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُقَدَّرُ بِشَهْرٍ؛ لِأَنَّ مَا دُونَهُ عَاجِلٌ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْهَا أَيْضًا وَقَدْ اعْتَبَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ أَيْضًا وَعِنْدَهُمَا هُوَ مُقَدَّرٌ بِزَوَالِ الرَّائِحَةِ فَلَوْ شَهِدُوا عَلَيْهِ بِالشُّرْبِ بَعْدَهَا لَا تُقْبَلُ وَقَدْ جَزَمَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِهِ فَظَاهِرُهُ كَغَيْرِهِ أَنَّهُ الْمُخْتَارُ فَعُلِمَ أَنَّ الْأَصَحَّ اعْتِبَارُ الشَّهْرِ إلَّا فِي شُرْبِ الْخَمْرِ وَلَمْ يَسْتَثْنِ الْمُصَنِّفُ كَوْنَ التَّقَادُمِ لِبُعْدِ الْمَكَانِ عَنْ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الْعُذْرَ لَا يَخْتَصُّ بِهِ بَلْ يَكُونُ بِنَحْوِ مَرَضٍ أَوْ خَوْفِ طَرِيقٍ وَحَاصِلُهُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مَنَعَ الشَّاهِدَ مِنْ الْمُسَارَعَةِ إلَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَهُوَ عُذْرٌ بِقَدْرِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ وُجُوبَ الْحَدِّ عَلَى الشُّهُودِ إذَا شَهِدُوا بِزِنًا مُتَقَادِمٍ وَذَكَرَ فِي الْخَانِيَّةِ لَوْ شَهِدُوا بِزِنًا مُتَقَادِمٍ اخْتَلَفُوا فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ يُحَدُّ الشُّهُودُ حَدَّ الْقَذْفِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يُحَدُّونَ اهـ.

(قَوْلُهُ: وَيَضْمَنُ الْمَالَ) يَعْنِي فِي صُورَةِ شَهَادَتِهِمْ بِسَرِقَةٍ مُتَقَادِمَةٍ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى شَرْطٌ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ فَتَأْخِيرُ الشَّاهِدِ لِتَأْخِيرِ الدَّعْوَى لَا يَلْزَمُ فِيهِ تَفْسِيقٌ وَلَا تُهْمَةٌ وَلِذَا لَمْ يَبْطُلْ حَدُّ الْقَذْفِ بِالتَّقَادُمِ إنْ كَانَ الْغَالِبُ فِيهِ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْأَصَحِّ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى الدَّعْوَى أَطْلَقَهُ فَشَمِلَ مَا إذَا كَانَ تَأْخِيرُ الشَّهَادَةِ لِعَدَمِ الدَّعْوَى بِسَبَبِ عَدَمِ عِلْمِ صَاحِبِ الْمَالِ أَوْ لِطَلَبِهِ السَّتْرَ أَوْ لِكِتْمَانِ الشَّهَادَةِ بَعْدَ طَلَبِهِ الشَّهَادَةَ مِنْهُ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا تُقْبَلَ شَهَادَتُهُمْ فِي حَقِّ الْمَالِ أَيْضًا فِي الْوَجْهِ الثَّانِي لِفِسْقِهِمْ بِالْكِتْمَانِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُمْ بِضَمَانِ الْمَالِ مَعَ تَصْرِيحِهِمْ بِوُجُودِ التُّهْمَةِ فِي شَهَادَتِهِمْ مَعَ التَّقَادُمِ مُشْكِلٌ لِتَصْرِيحِهِمْ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ بِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ لِلْمُتَّهَمِ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي الْأَمْوَالِ أَوْ فِي غَيْرِهَا إلَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّ التُّهْمَةَ غَيْرُ مُحَقَّقَةٍ، وَإِنَّمَا الْمَوْجُودُ الشُّبْهَةُ، وَالْمَالُ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ بِخِلَافِ الْحَدِّ.

(قَوْلُهُ: وَلَوْ أَثْبَتُوا زِنَاهُ بِغَائِبَةٍ حُدَّ بِخِلَافِ السَّرِقَةِ) أَيْ لَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ سَرَقَ مِنْ فُلَانٍ وَهُوَ غَائِبٌ لَمْ يُقْطَعْ، وَالْفَرْقُ أَنَّ بِالْغَيْبَةِ تَنْعَدِمُ الدَّعْوَى وَهِيَ شَرْطٌ فِي السَّرِقَةِ دُونَ الزِّنَا وَبِالْحُضُورِ يُتَوَهَّمُ دَعْوَى الشُّبْهَةِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْمَوْهُومِ؛ لِأَنَّهُ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ وَاعْتِبَارُهَا يُؤَدِّي إلَى سَدِّ بَابِ الْحُدُودِ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ فَرُجُوعُهُ شُبْهَةٌ فَيُدْرَأُ بِهِ الْحَدُّ وَاحْتِمَالُ رُجُوعِهِ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ فَلَا يَسْقُطُ وَكَذَا الْبَيِّنَةُ يُحْتَمَلُ رُجُوعُهَا فَرُجُوعُهَا حَقِيقَةً شُبْهَةٌ وَاحْتِمَالُهُ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِفُلَانَةَ وَهِيَ غَائِبَةٌ، فَإِنَّهُ يُحَدُّ بِالْأَوْلَى وَلِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «رَجَمَ مَاعِزًا، وَالْغَامِدِيَّةَ حِينَ أَقَرَّا بِالزِّنَا بِغَائِبَيْنِ» وَقَيَّدَ بِالزِّنَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقِصَاصُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ وَكَانَ أَحَدُهُمَا غَائِبًا لَا يَتَمَكَّنُ الْحَاضِرُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ لِاحْتِمَالِ الْعَفْوِ مِنْ الْغَائِبِ وَهُوَ حَقِيقَةُ الْمُسْقِطِ فَاحْتِمَالُهُ يَكُونُ شُبْهَةَ الْمُسْقِطِ لَا شُبْهَةَ الشُّبْهَةِ.

[أَقَرَّ بِالزِّنَا بِمَجْهُولَةٍ]

(قَوْلُهُ: وَإِنْ أَقَرَّ بِالزِّنَا بِمَجْهُولَةٍ حُدَّ، وَإِنْ شَهِدُوا بِذَلِكَ لَا) أَيْ شَهِدُوا عَلَيْهِ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ لَا يَعْرِفُونَهَا لَا يُحَدُّ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا

ــ

[منحة الخالق]

(قَوْلُهُ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يُحَدُّونَ) أَقُولُ: هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ فَقَدْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ فِي الْكَافِي حَيْثُ قَالَ وَإِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى رَجُلٍ بِزِنًا قَدِيمٍ لَمْ آخُذْ بِشَهَادَتِهِمْ وَلَا أَحَدِهِمْ. اهـ. وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ، فَإِنَّ شَهَادَتَهُمْ كَامِلَةٌ.

<<  <  ج: ص:  >  >>