لِصِحَّةِ الْأَدَاءِ بَلْ رُكْنُهُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، وَأَمَّا الْعَدَالَةُ فَلَيْسَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْأَدَاءِ وَإِنَّمَا ظُهُورُهَا شَرْطُ وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى الْقَاضِي كَمَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ الْبَدَائِعِ وَلِهَذَا قَالَ فِي الْهِدَايَةِ لَوْ قَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِ صَحَّ عِنْدَنَا زَادَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ وَكَانَ الْقَاضِي عَاصِيًا قَالَ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْفَاسِقَ إذَا كَانَ وَجِيهًا فِي النَّاسِ كَمُبَاشِرِي السُّلْطَانِ وَالْمَكَسَةِ وَغَيْرِهِمْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَأْجَرُ لِشَهَادَةِ الزُّورِ لِوَجَاهَتِهِ وَيَمْتَنِعُ عَنْ الْكَذِبِ لِمُرُوءَتِهِ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ هَذَا تَعْلِيلٌ لِمُقَابَلَةِ النَّصِّ فَلَا يُقْبَلُ اهـ.
وَفَسَّرَ فِي الْعِنَايَةِ الْوَجِيهَ بِأَنْ يَكُونَ ذَا قَدْرٍ وَشَرَفٍ وَفَسَّرَ الْمُرُوءَةَ بِالْإِنْسَانِيَّةِ قَالَ وَالْهَمْزَةُ وَتَشْدِيدُ الْوَاوِ فِيهِمَا لُغَتَانِ اهـ.
وَعَلَى هَذَا فَمَا فِي الْقُنْيَةِ شَارِبُ الْخَمْرِ يَسْتَحْيِ وَيَرْتَدِعُ إذَا زُجِرَ فَلِلْقَاضِي أَنْ يَقْبَلَ شَهَادَتَهُ إنْ كَانَ ذَا مُرُوءَةٍ وَتَحَرَّى فِي مَقَالَتِهِ فَوَجَدَهُ صَادِقًا اهـ. مَحْمُولٌ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ.
(قَوْلُهُ وَسَأَلَ عَنْ الشُّهُودِ سِرًّا وَعَلَنًا فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ) أَيْ وَسَأَلَ الْقَاضِي عَنْهُمْ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْحُجَّةِ وَهِيَ شَهَادَةُ الْعُدُولِ فَيَتَعَرَّفُ عَنْ الْعَدَالَةِ وَفِيهِ صَوْنُ قَضَائِهِ عَنْ الْبُطْلَانِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقْتَصِرُ الْحَاكِمُ عَلَى ظَاهِرِ الْعَدَالَةِ فِي الْمُسْلِمِ وَلَا يَسْأَلُ حَتَّى بِطَعْنِ الْخَصْمِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «النَّاسُ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إلَّا مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ» وَمِثْلُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ هُوَ الِانْزِجَارُ عَمَّا هُوَ مُحَرَّمٌ دَيْنُهُ وَبِالظَّاهِرِ كِفَايَةً إذْ لَا وُصُولَ إلَى الْقَطْعِ إلَّا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَإِنَّهُ يَسْأَلُ عَنْهُمْ لِلِاحْتِيَالِ فِي إسْقَاطِهَا فَيَسْتَقْصِي وَلِأَنَّ الشُّبْهَةَ فِيهَا دَارِئَةٌ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إنْ طَعَنَ الْخَصْمُ سَأَلَ عَنْهُمْ فِي الْكُلِّ وَإِلَّا سَأَلَ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَفِي غَيْرِهَا مَحَلُّ الِاخْتِلَافِ وَقِيلَ هَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ كَذَا فِي الْهِدَايَةِ وَمَحَلُّ السُّؤَالِ عَلَى قَوْلِهِمَا عِنْدَ جَهْلِ الْقَاضِي بِحَالِهِمْ وَلِذَا قَالَ فِي الْمُلْتَقَطِ الْقَاضِي إذَا عَرَفَ الشُّهُودَ بِجَرْحٍ أَوْ عَدَالَةٍ لَا يَسْأَلُ عَنْهُمْ اهـ.
وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُؤَلِّفُ صِفَةَ السُّؤَالِ وَصَرَّحَ فِي الْهِدَايَةِ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ شَرْطٌ أَوْ لَا وَفِي الْمُلْتَقَطِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ التَّزْكِيَةُ بِدْعَةٌ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَوْ قَضَى الْقَاضِي بِغَيْرِ تَزْكِيَةِ الشُّهُودِ أَجْزَأَتْ. اهـ.
فَأَفَادَ أَنَّ السُّؤَالَ لَيْسَ بِشَرْطِ صِحَّةٍ عِنْدَهُمَا خُصُوصًا قَدَّمْنَا عَنْ الْهِدَايَةِ أَنَّهُ لَوْ قَضَى بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِ يَصِحُّ عِنْدَنَا مِنْ غَيْرِ حِكَايَةِ خِلَافٍ فَكَيْفَ إذَا قَضَى بِشَهَادَةِ الْمَسْتُورِ فَلَوْ قَضَى ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ الشُّهُودَ فَسَقَةٌ لَمْ يُنْقَضْ الْقَضَاءُ وَفِي الْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ مِنْ الْحُدُودِ لَوْ قَضَى بِالْحَدِّ بِبَيِّنَةٍ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُمْ فُسَّاقٌ بَعْدَمَا رُجِمَ فَإِنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ الْخَطَأُ بِيَقِينٍ اهـ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ لَوْ قَضَى فِي الْحُدُودِ قَبْلَ السُّؤَالِ بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ وَإِنْ كَانَ آثِمًا فَقَوْلُهُ فِي الْهِدَايَةِ يُشْتَرَطُ الِاسْتِقْصَاءُ مَعْنَاهُ يَجِبُ وَمَعْنَى قَوْلِ الْإِمَامِ يَقْتَصِرُ الْحَاكِمُ يَجُوزُ اقْتِصَارُهُ لَا أَنَّهُ يَجِبُ اقْتِصَارُهُ وَفِي التَّهْذِيبِ لِلْقَلَانِسِيِّ وَفِي زَمَانِنَا لَمَّا تَعَذَّرَتْ التَّزْكِيَةُ بِغَلَبَةِ الْفِسْقِ اخْتَارَ الْقُضَاةُ كَمَا اخْتَارَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى اسْتِحْلَافَ الشُّهُودِ لِغَلَبَةِ الظَّنِّ اهـ.
قُلْتُ: وَلَا يُضَعِّفُهُ مَا فِي الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ كَالْخُلَاصَةِ وَالْبَزَّازِيَّةِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَمِينَ عَلَى الشَّاهِدِ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ ظُهُورِ عَدَالَتِهِ وَالْكَلَامُ عِنْدَ خَفَائِهَا خُصُوصًا فِي زَمَانِنَا أَنَّ الشَّاهِدَ مَجْهُولُ الْحَالِ وَكَذَا الْمُزَكِّي غَالِبًا وَالْمَجْهُولُ لَا يَعْرِفُ الْمَجْهُولَ وَفِي الْمُلْتَقَطِ عَنْ غَسَّانِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ قَدِمْت الْكُوفَةَ قَاضِيًا عَلَيْهَا فَوَجَدْت فِيهَا مِائَةً وَعِشْرِينَ عَدْلًا فَطَلَبْت أَسْرَارَهُمْ فَرَدَدْتهمْ إلَى سِتَّةٍ ثُمَّ أَسْقَطْت أَرْبَعَةً فَلَمَّا رَأَيْت ذَلِكَ اسْتَعْفَيْت وَاعْتَزَلْت.
قَالَ الْفَقِيهُ لَوْ اسْتَقْصَى الْقَاضِي مِثْلَ ذَلِكَ لَضَاقَ الْأَمْرُ وَلَا يُوجَدُ مُؤْمِنٌ بِغَيْرِ عَيْبٍ كَمَا قِيلَ
فَلَسْت بِمُسْتَبِقٍ أَخًا لَا تَلُمْهُ ... عَلَى شُعْثٍ أَيُّ الرِّجَالِ الْمُهَذِّبُ
وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّى مِنْكُمْ السَّرَائِرَ وَذَوَى عَنْكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ اهـ.
ثُمَّ التَّزْكِيَةُ
ــ
[منحة الخالق]
[شَرَطَ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا لَفْظَ أَشْهَدُ بِالْمُضَارِعِ الشَّهَادَة]
(قَوْلُهُ لَوْ قَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِ صَحَّ عِنْدَنَا) قَالَ الرَّمْلِيُّ وَفِي جَامِعِ الْفَتَاوَى وَأَمَّا شَهَادَةُ الْفَاسِقِ فَإِنْ تَحَرَّى الْقَاضِي الصِّدْقَ فِي شَهَادَتِهِ تُقْبَلُ وَإِلَّا فَلَا
(قَوْلُهُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقْتَصِرُ الْحَاكِمُ عَلَى ظَاهِرِ الْعَدَالَةِ) قَالَ الرَّمْلِيُّ أَيْ يَجُوزُ لَهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى سَبِيلِ الْجَوَازِ لَا الْوُجُوبِ (قَوْلُهُ وَلَا يَسْأَلُ حَتَّى يَطْعَنَ الْخَصْمُ) قَالَ الرَّمْلِيُّ وَلَوْ بِالْجَرْحِ الْمُجَرَّدِ وَلَا يُنَافِيهِ قَوْلُهُ فِيمَا يَأْتِي وَلَا يَسْمَعُ الْقَاضِي الشَّهَادَةَ عَلَى جَرْحٍ مُجَرَّدٍ؛ لِأَنَّ عَدَمَ سَمَاعِهَا لِعَدَمِ دُخُولِهِ تَحْتَ الْحُكْمِ وَإِلَّا فَالْخَبَرُ عَنْ فِسْقِ الشُّهُودِ يَمْنَعُ الْقَاضِيَ عَنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ وَالْحُكْمِ بِهَا فَالطَّعْنُ بِهِ مَسْمُوعٌ مِنْهُ قَبْلَ التَّزْكِيَةِ وَسَيَظْهَرُ مِنْ مَسَائِلِ الطَّعْنِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (قَوْلُهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَوْ قَضَى الْقَاضِي بِغَيْرِ تَزْكِيَةِ الشُّهُودِ أَجْزَأَتْ) قَالَ الرَّمْلِيُّ عِبَارَةُ الْقُدُورِيِّ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا بُدَّ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُمْ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ الْقَاضِيَ يَأْثَمُ بِتَرْكِ السُّؤَالِ وَلَا يُنَافِيهِ الْإِجْزَاءُ تَأَمَّلْ (قَوْلُهُ وَفِي التَّهْذِيبِ لِلْقَلَانِسِيِّ إلَخْ) قَالَ الْعَلَّامَةُ الْمَقْدِسِيَّ بَعْدَ ذِكْرِ مَا فِي التَّهْذِيبِ لَا يَخْفَى أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا فِي الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ وَلَا يُقَالُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ لِأَنَّ الشَّاهِدَ مَجْهُولٌ كَالْمُزَكِّي غَالِبًا وَالْمَجْهُولُ لَا يَعْرِفُ الْمَجْهُولَ؛ لِأَنَّا نَقُولُ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكِنْ قَالَ الْفَقِيهُ لَوْ اسْتَقْصَى مِثْلَ ذَلِكَ لَضَاقَ الْأَمْرُ وَلَا يُوجَدُ مُؤْمِنٌ بِغَيْرِ عَيْبٍ كَمَا قِيلَ
وَمَنْ ذَا الَّذِي تَرْضَى سَجَايَاهُ كُلَّهَا ... كَفَى الْمَرْءُ نُبْلًا أَنْ تُعَدَّ مَعَايِبُهُ
نَقَلَهُ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ