لَا يَتَأَتَّى إلَّا فِي الْكَلْبِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْأُلُوفُ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ ذَوَاتِ الْأَنْيَابِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِأَلُوفَةٍ، وَالْفَرْقُ الْأَوَّلُ يَتَأَتَّى فِي الْكُلِّ لِأَنَّ بَدَنَ كُلِّ ذِي نَابٍ يَحْتَمِلُ الضَّرْبَ فَأَمْكَنَ تَعْلِيمُهُ بِالضَّرْبِ إلَى أَنْ يَتْرُكَ الْأَكْلَ قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَهَذَا الْفَرْقُ لَا يَتَأَتَّى فِي الْفَهْدِ وَالنَّمِرِ فَإِنَّهُ مُتَوَحِّشٌ كَالْبَازِ ثُمَّ الْحُكْمُ فِيهِ وَفِي الْكَلْبِ سَوَاءٌ فَالْمُعْتَمَدُ هُوَ الْأَوَّلُ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْكَلْبَ فِي اللُّغَةِ يَقَعُ عَلَى كُلِّ سَبُعٍ وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِمَّا ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ الْكَلْبَ الْمَعْهُودَ بَلْ الْكَلْبُ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ فَلِهَذَا اسْتَوَوْا فِيمَا يَقَعُ بِهِ التَّعْلِيمُ وَإِنَّمَا شَرَطَ تَرْكَ الْأَكْلِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَهُوَ قَوْلُهُمَا وَرِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -؛ لِأَنَّ عِلْمَهُ يُعْرَفُ بِتَكْرَارِ التَّجَارِبِ وَالِامْتِحَانِ هُوَ مُدَّةٌ ضُرِبَتْ لِذَلِكَ كَمَا فِي قِصَّةِ السَّيِّدِ مُوسَى وَكَمَا فِي شَرْطِ الْخِيَارِ وَكَذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ» وَعَنْ الْإِمَامِ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ التَّعْلِيمُ مَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ قَدْ تَعَلَّمَ وَلَا يُقَدَّرُ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْمَقَادِيرَ تُعْرَفُ بِالنَّصِّ لَا بِالِاجْتِهَادِ وَلَا نَصَّ هُنَا فَيُفَوَّضُ إلَى رَأْيِ الْمُبْتَلَى كَمَا هُوَ عَادَتُهُ ثُمَّ إذَا تَرَكَ الْأَكْلَ ثَلَاثًا لَا يَحِلُّ الْأَوَّلُ وَلَا الثَّانِي عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِالثَّلَاثِ وَكَذَا الثَّالِثُ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُعَلَّمًا إلَّا بَعْدَ تَمَامِ الثَّلَاثِ وَقَبْلَهُ غَيْرُ مُعَلَّمٍ.
[التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الْإِرْسَالِ وَمِنْ الْجَرْحِ فِي الصَّيْد]
قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَا بُدَّ مِنْ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الْإِرْسَالِ وَمِنْ الْجَرْحِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ أَعْضَائِهِ) أَمَّا التَّسْمِيَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: ١٢١] وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَإِذَا ذَكَرْتَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَيْهِ وَجَرَحَ فَكُلْ» .
وَأَطْلَقَ فِي قَوْلِهِ " وَلَا بُدَّ مِنْ التَّسْمِيَةِ " فَشَمِلَ مَا إذَا كَانَ الْمَرْمِيُّ إلَيْهِ يَحْتَاجُ إلَى التَّسْمِيَةِ أَوْ لَا كَالسَّمَكِ، وَقَدْ شُرِطَ فِي الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي حَتَّى لَوْ رَمَى إلَى السَّمَكِ وَتَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا فَأَصَابَ يَحِلُّ أَكْلُهُ فَلَوْ قَالَ " فِي صَيْدِ الْبَرِّ " لَكَانَ أَوْلَى وَسَيَأْتِي عَنْ قَاضِي خان وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُسَمِّي يَعْقِلُ التَّسْمِيَةَ فَلَا يُؤْكَلُ صَيْدُ صَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ إذَا كَانَا لَا يَعْقِلَانِ التَّسْمِيَةَ أَمَّا إذَا كَانَا يَعْقِلَانِهَا أَكَلَ، وَيُؤْكَلُ صَيْدُ الْأَخْرَسِ وَالْكِتَابِيِّ لِأَنَّ الْمِلَّةَ تَكْفِي عَنْ التَّلَفُّظِ عِنْدَ الْعَجْزِ وَلَوْ سَمَّى النَّصْرَانِيُّ بِاسْمِ الْمَسِيحِ لَمْ يُؤْكَلْ، وَالصَّابِئَةُ إنْ أَقَرُّوا بِكِتَابِيٍّ وَنَبِيٍّ يُؤْكَلُ صَيْدُهُمْ وَإِلَّا فَلَا وَظَاهِرُ عِبَارَةِ الْمُؤَلِّفِ الِاكْتِفَاءُ بِالْجَرْحِ سَالِمًا أَوْ لَا لَكِنْ قَالَ فِي الْمُحِيطِ إنْ جَرَحَهُ وَلَمْ يُدْمِهِ اخْتَلَفُوا فِيهِ قِيلَ لَا يَحِلُّ وَقِيلَ يَحِلُّ وَقِيلَ إنْ كَانَتْ الْجِرَاحَةُ صَغِيرَةً لَا يَحِلُّ إذَا لَمْ يَرْمِ وَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً يَحِلُّ وَأَمَّا الْجَرْحُ فَالْمَذْكُورُ هُنَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ رَوَاهُ الْحَسَنُ عَنْهُمَا وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: ٤] مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ بِالْجَرْحِ فَمَنْ شَرَطَهُ فَقَدْ زَادَ عَلَى النَّصِّ وَهُوَ نَسْخُ مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ وَكَذَا مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ عَدِيٍّ وَثَعْلَبَةَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُطْلَقٌ فَيَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ وَالْإِلْزَامُ نَسَخَهُ بِالرَّأْيِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ، وَجْهُ الظَّاهِرِ قَوْله تَعَالَى {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: ٤] وَهُوَ يُشِيرُ إلَى مَا قُلْنَا وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ إخْرَاجُ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ وَهُوَ يَخْرُجُ بِالْجَرْحِ عَادَةً وَلَا يَخْتَلِفُ عَنْهُ إلَّا نَادِرًا فَأُقِيمَ الْجَرْحُ مَقَامَهُ كَمَا فِي الذَّكَاةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَالرَّمْيِ بِالسَّهْمِ، وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَجْرَحْهُ صَارَ مَوْقُوذَةً وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ بِالنَّصِّ وَمَا تُلِيَ مُطْلَقٌ، وَكَذَا مَا رُوِيَ فَحَمَلْنَاهُ عَلَى الْمُقَيَّدِ لِاتِّحَادِ الْوَاقِعَةِ وَإِنَّمَا لَمْ يُحْمَلْ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِيمَا إذَا اخْتَلَفَتْ الْحَوَادِثُ أَوْ كَانَ التَّقْيِيدُ وَالْإِطْلَاقُ مِنْ جِهَةِ السَّبَبِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ مِنْ جِهَةِ الْحُكْمِ وَالْحَادِثَةُ وَاحِدَةٌ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ، وَلَوْ سَمَّى حَالَةَ الْإِرْسَالِ فَقَتَلَ الْكُلَّ حَلَّتْ وَلَوْ قَتَلَ الْكُلَّ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ حَلَّ بِخِلَافِ مَا إذَا ذَبَحَ شَاتَيْنِ بِتَسْمِيَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْحِلَّ فِي بَابِ الصَّيْدِ يَحْصُلُ بِالْإِرْسَالِ فَتُشْتَرَطُ التَّسْمِيَةُ وَقْتَ الْإِرْسَالِ وَالْإِرْسَالُ وُجِدَ وَقْتَ تَسْمِيَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا لَوْ رَمَى سَهْمًا إلَى صَيْدٍ فَنَفَذَ، وَأَصَابَ صَيْدًا آخَرَ بِخِلَافِ مَا لَوْ ذَبَحَ شَاةً أُخْرَى؛ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ صَارَتْ مَذْبُوحَةً بِفِعْلٍ غَيْرِ الْأَوَّلِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَسْمِيَةٍ أُخْرَى وَلَوْ أَضْجَعَ شَاتَيْنِ وَذَبَحَهُمَا بِتَسْمِيَةٍ وَاحِدَةٍ حَلَّا.
قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - (فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ الْبَازِي أُكِلَ وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ الْكَلْبُ أَوْ الْفَهْدُ لَا) وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: يُؤْكَلُ وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ الْكَلْبُ كَالْبَازِي لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ ثَعْلَبَةَ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي كِلَابًا مُكَلَّبَةً فَأَفْتِنِي فِي صَيْدِهَا فَقَالَ إنْ كَانَتْ لَك كِلَابٌ مُكَلَّبَةٌ فَكُلْ مَا أَمْسَكَتْ عَلَيْكَ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ» وَفِعْلُ الْكَلْبِ إنَّمَا صَارَ ذَكَاةً لِعِلْمِهِ وَبِالْأَكْلِ لَا يَعُودُ جَاهِلًا فَصَارَ كَالْبَازِي وَلَنَا مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ عَدِيٍّ وقَوْله تَعَالَى {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: ٣] وَقَوْلُهُ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذَا أَرْسَلْتَ كِلَابَكَ الْمُعَلَّمَةَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى فَكُلْ مَا أَمْسَكْنَ عَلَيْك إلَّا أَنْ يَأْكُلَ الْكَلْبُ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنِّي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute