للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كُلِّ حَقٍّ لَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ وَلَا تُقْبَلُ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَمِنْهَا كِتَابُ الْوَكَالَةِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ وَتَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِالْخُصُومَةِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ، وَكَذَا بِإِيفَائِهَا وَاسْتِيفَائِهَا إلَّا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَإِنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَصِحُّ بِاسْتِيفَائِهَا مَعَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ عَنْ الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّهَا تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَكَذَا فِي كِتَابِ الدَّعْوَى وَمِنْهَا كِتَابُ الْجِنَايَاتِ فَإِنَّهُ صَرَّحَ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْهُ بِعَدَمِ ثُبُوتِ الْقِصَاصِ بِالشُّبْهَةِ بَلْ جَعَلَهَا أَصْلًا مُؤَثِّرًا فِي سُقُوطِ الْقِصَاصِ وَفَرَّعَ عَلَيْهِ كَثِيرًا مِنْ مَسَائِلِ سُقُوطِ الْقِصَاصِ بِتَحَقُّقِ نَوْعٍ مِنْ الشُّبْهَةِ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا لَا يَخْفَى عَلَى النَّاظِرِ فِي تَمَامِ ذَلِكَ الْكِتَابِ، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَيْدَ الْخَالِصَةِ فِي قَوْلِهِ أَمَّا الْحُدُودُ الْخَالِصَةُ لِلَّهِ تَعَالَى فَشُرِعَتْ زَوَاجِرَ مُسْتَدْرَكٌ فَإِنَّ حَدَّ الْقَذْفِ غَيْرُ خَالِصٍ لِلَّهِ تَعَالَى بَلْ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقُّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ.

كَمَا صَرَّحُوا بِهِ عَلَى أَنَّهُ زَاجِرٌ لَا يَثْبُتُ بِالشُّبْهَةِ وَلَا تَكُونُ إشَارَةُ الْأَخْرَسِ حُجَّةً فِيهِ أَيْضًا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ لَا يَثْبُتُ بِالشُّبْهَةِ فِيمَا مَرَّ آنِفًا فَلَا يَتِمُّ التَّفْرِيقُ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ وَقَوْلُ الْمُؤَلِّفِ الْإِشَارَةُ وَالْكِتَابَةُ كَالْبَيَانِ دَلَّتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّ الْإِشَارَةَ مُعْتَبَرَةٌ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْكِتَابَةِ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ أَشَارَ وَكَتَبَ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ وَلَنَا فِي دَعْوَى الْجَمِيعِ بَيْنَهُمَا نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَإِذَا كَانَ الْأَخْرَسُ يَكْتُبُ أَوْ يُومِئُ وَكَلِمَةُ أَوَّلًا حَدُّ الشَّيْئَيْنِ لَا لِلْجَمْعِ عَلَى أَنَّا نَقُولُ قَالَ فِي الْأَصْلِ وَإِنْ كَانَ الْأَخْرَسُ لَا يَكْتُبُ وَكَانَتْ لَهُ إشَارَةٌ تُعْرَفُ فِي نِكَاحِهِ وَطَلَاقِهِ وَشِرَائِهِ وَبَيْعِهِ فَهُوَ جَائِزٌ وَيُعْلَمُ مِنْ إشَارَةِ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ الْإِشَارَةَ مِنْ الْأَخْرَسِ لَا تُعْتَبَرُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ حُكْمُ إشَارَةِ الْأَخْرَسِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكْتُبَ فَافْهَمْ إلَى هُنَا قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (لَا فِي حَدٍّ) يَعْنِي إشَارَتَهُ لَا تَكُونُ كَالْبَيَانِ فِي الْحُدُودِ لِأَنَّهَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبْهَةِ لِكَوْنِهَا حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِهَا وَلَعَلَّهُ كَانَ مُصَدِّقًا لِلْقَاذِفِ إنْ قَذَفَ هُوَ فَلَا يَتَيَقَّنُ بِطَلَبِهِ الْحَدُّ وَإِنْ كَانَ هُوَ الْقَاذِفَ فَقَذْفُهُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ وَالْحَدُّ لَا يَجِبُ إلَّا بِالْقَذْفِ بِصَرِيحِ الزِّنَا، وَفِي الْقِصَاصِ اُعْتُبِرَ طَلَبُهُ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ وَهَذَا لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَثْبُتُ بِبَيَانٍ فِيهِ شُبْهَةٌ.

أَلَا تَرَى أَنَّ الشُّهُودَ لَوْ شَهِدُوا بِالْوَطْءِ الْحَرَامِ أَوْ أَقَرَّ هُوَ بِالْوَطْءِ الْحَرَامِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَلَوْ شَهِدُوا بِالْقَتْلِ الْمُطْلَقِ أَوْ أَقَرَّ بِمُطْلَقِ الْقَتْلِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَإِنْ لَمْ يُقِرَّ بِالتَّعَمُّدِ وَهَذَا لِأَنَّ الْقِصَاصَ فِيهِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ؛ لِأَنَّهُ شُرِعَ جَابِرًا فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ مَعَ الشُّبْهَةِ كَسَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ الَّتِي هِيَ حَقُّ الْعَبْدِ، أَمَّا الْحُدُودُ الْخَالِصَةُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى جُعِلَتْ زَاجِرَةً لَيْسَ فِيهَا مَعْنَى الْبَدَلِيَّةِ أَصْلًا فَلَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ أَنَّ الْكِتَابَ مِنْ الْغَائِبِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي قِصَاصٍ يَجِبُ عَلَيْهِ وَيُحْتَمَلُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ فِي الْأَخْرَسِ كَذَلِكَ فَيَكُونُ فِي الْغَائِبِ وَالْأَخْرَسِ رِوَايَتَانِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُفَارِقًا لِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْغَائِبَ يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ فِي الْجُمْلَةِ فَيُعْتَبَرُ بِالنُّطْقِ وَلَا كَذَلِكَ الْأَخْرَسُ لِتَعَذُّرِ وُجُودِ النُّطْقِ فِي حَقِّهِ لِلْآفَةِ الَّتِي بِهِ فَدَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّ الْإِشَارَةَ مُعْتَبَرَةٌ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْكِتَابَةِ، بِخِلَافِ مَا ذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مِنْ أَنَّ الْإِشَارَةَ لَا تُعْتَبَرُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْكِتَابَةِ قَالُوا: لِأَنَّ الْإِشَارَةَ حُجَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ وَلَا ضَرُورَةَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْكِتَابَةِ قُلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُجَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ فَفِي الْكِتَابَةِ زِيَادَةُ بَيَانٍ لَمْ تُوجَدْ فِي الْإِشَارَةِ؛ لِأَنَّ قَصْدَ الْبَيَانِ فِي الْكِتَابَةِ مَعْلُومَةٌ حِسًّا وَعَيَانًا، وَفِي الْإِشَارَةِ زِيَادَةُ أَثَرٍ لَمْ تُوجَدْ فِي الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْبَيَانِ هُوَ الْكَلَامُ؛ لِأَنَّهُ وُضِعَ لَهُ وَالْإِشَارَةُ أَقْرَبُ إلَيْهِ لِأَنَّ الْعِلْمَ الْحَاصِلَ بِهَا حَاصِلٌ بِمَا هُوَ مُفَصَّلٌ بِالتَّكَلُّمِ وَهُوَ إشَارَتُهُ بِيَدِهِ أَوْ بِرَأْسِهِ صَارَتْ أَقْرَبَ إلَى النُّطْقِ مِنْ آثَارِ الْأَقْلَامِ فَاسْتَوَيَا وَلَا يُقَدَّمُ عَلَى الْآخَرِ بَلْ يُخَيَّرُ وَلِهَذَا ذَكَرَهُ بِكَلِمَةِ أَوْ الَّتِي لِلتَّخْيِيرِ وَقَالُوا فِيمَنْ صَمَتَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ الْحُكْمُ كَالْمُعْتَقَلِ اللِّسَانِ.

[[مسائل متفرقة في التحري في الذكاة والنجاسة]]

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (غَنَمٌ مَذْبُوحَةٌ وَمَيِّتَةٌ فَإِنْ كَانَتْ الْمَذْبُوحَةُ أَكْثَرَ تَحَرَّى وَأَكَلَ وَإِلَّا لَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ الْأَكْلُ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ وَلَنَا أَنَّ الْغَلَبَةَ تَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الضَّرُورَةِ فِي إفَادَةِ الْإِبَاحَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَسْوَاقَ الْمُسْلِمِينَ لَا تَخْلُو عَنْ الْمُحَرَّمِ مِنْ مَسْرُوقٍ وَمَغْصُوبٍ وَمَعَ ذَلِكَ يُبَاحُ التَّنَاوُلُ اعْتِمَادًا عَلَى الظَّاهِرِ وَهَذَا لِأَنَّ الْقَلِيلَ مِنْهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ وَلَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ دَفْعًا لِلْحَرَجِ كَقَلِيلِ النَّجَاسَةِ فِي الْبَدَنِ أَوْ الثَّوْبِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْمَيْتَةُ أَكْثَرَ أَوْ اسْتَوَيَا؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إلَيْهِ فَيُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ فَلَا تُؤْكَلُ قَالَ فِي الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ النِّهَايَةِ طُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الثِّيَابِ فَإِنَّ الْمُسَافِرَ إذَا كَانَ مَعَهُ ثَوْبَانِ أَحَدُهُمَا نَجِسٌ وَالْآخَرُ طَاهِرٌ وَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَهُمَا وَلَيْسَ مَعَهُ ثَوْبٌ غَيْرُهُمَا فَإِنَّهُ يَتَحَرَّى وَيُصَلِّي فِي الَّذِي يَقَعُ تَحَرِّيهِ أَنَّهُ طَاهِرٌ

<<  <  ج: ص:  >  >>