وَالصِّبْيَانِ أَطْلَقَ الدَّعْوَةَ فَشَمِلَ الْحَقِيقِيَّةَ، وَالْحُكْمِيَّةَ فَالْحَقِيقِيَّةُ بِاللِّسَانِ، وَالْحُكْمِيَّةُ انْتِشَارُ الدَّعْوَةِ شَرْقًا وَغَرْبًا أَنَّهُمْ إلَى مَاذَا يَدْعُونَ وَعَلَى مَاذَا يُقَاتِلُونَ فَأُقِيمَ ظُهُورُهَا مَقَامَهَا، وَقَدْ نَصَّ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ فَقَالَ: وَإِذَا لَقِيَ الْمُسْلِمُونَ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ قَوْمًا لَمْ يَبْلُغْهُمْ الْإِسْلَامُ لَا حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا فَلَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي بِلَادِ اللَّهِ تَعَالَى مَنْ لَا شُعُورَ لَهُ بِهَذَا الْأَمْرِ فَيَجِبُ أَنَّ الْمُرَادَ غَلَبَةُ ظَنِّ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ تَبْلُغْهُمْ الدَّعْوَةُ وَفِي التَّتَارْخَانِيَّة، وَإِنْ كَانُوا قَوْمًا قَدْ بَلَغَهُمْ الْإِسْلَامُ إلَّا أَنَّهُمْ لَا يَدْرُونَ أَيَقْبَلُ الْمُسْلِمُونَ الْجِزْيَةَ أَمْ لَا فَلَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يَدْعُوهُمْ إلَى الْجِزْيَةِ. اهـ.
(قَوْلُهُ: وَنَدْعُو نَدْبًا مَنْ بَلَغَتْهُ) أَيْ الدَّعْوَةُ مُبَالَغَةً فِي الْإِنْذَارِ وَلَا يَجِبُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَغَارَ عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ غَارُّونَ وَعَهِدَ إلَى أُسَامَةَ أَنْ يُغِيرَ عَلَى أُبْنَى صَبَاحًا ثُمَّ يُحَرِّقَ، وَالْغَارَةُ لَا تَكُونُ بِدَعْوَةٍ وَأُبْنَى بِوَزْنِ حُبْلَى مَوْضِعٌ بِالشَّامِ أُطْلِقَ فِي الِاسْتِحْبَابِ وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِأَنْ لَا يَتَضَمَّنَ ضَرَرًا بِأَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُمْ بِالدَّعْوَةِ يَسْتَعِدُّونَ أَوْ يَحْتَالُونَ أَوْ يَتَحَصَّنُونَ وَغَلَبَةُ الظَّنِّ فِي ذَلِكَ بِمَا يَظْهَرُ مِنْ أَحْوَالِهِمْ كَالْعِلْمِ كَذَا فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ (قَوْلُهُ: وَإِلَّا فَنَسْتَعِينُ عَلَيْهِمْ بِاَللَّهِ تَعَالَى بِنَصْبِ الْمَجَانِيقِ وَحَرْقِهِمْ وَغَرَقِهِمْ وَقَطْعِ أَشْجَارِهِمْ وَإِفْسَادِ زُرُوعِهِمْ وَرَمْيِهِمْ، وَإِنْ تَتَرَّسُوا بِبَعْضِنَا وَنَقْصِدُهُمْ) أَيْ إنْ لَمْ يَقْبَلُوا الْجِزْيَةَ إلَى آخِرِهِ أَمَّا الِاسْتِعَانَةُ فَلِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ النَّاصِرُ لِأَوْلِيَائِهِ، وَالْمُدَمِّرُ عَلَى أَعْدَائِهِ فَيُسْتَعَانُ بِهِ فِي كُلِّ الْأُمُورِ، وَأَمَّا نَصْبُ الْمَجَانِيقِ فَلِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَصَبَهَا عَلَى الطَّائِفِ، وَأَمَّا التَّحْرِيقُ وَنَحْوُهُ فَلِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَحْرَقَ الْبُوَيْرَةَ وَأَرْسَلُوا عَلَيْهِمْ الْمَاءَ وَقَطَعُوا أَشْجَارَهُمْ وَأَفْسَدُوا زُرُوعَهُمْ؛ لِأَنَّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ إلْحَاقَ الْغَيْظِ، وَالْكَبْتِ بِهِمْ وَكَسْرَ شَوْكَتِهِمْ وَتَفْرِيقَ جَمْعِهِمْ فَيَكُونُ مَشْرُوعًا أَطْلَقَ فِي الْأَشْجَارِ فَشَمِلَ الْمُثْمِرَةَ وَغَيْرَهَا كَمَا فِي الْبَدَائِعِ.
وَأَطْلَقَ فِي جَوَازِ فِعْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَقَيَّدَهُ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ بِمَا إذَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُمْ مَأْخُوذُونَ بِغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهُمْ مَغْلُوبُونَ وَأَنَّ الْفَتْحَ بَادٍ كُرِهَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إفْسَادٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْحَاجَةِ وَمَا أُبِيحَ إلَّا لَهَا وَفِي الظَّهِيرِيَّةِ وَلَا يُسْتَحَبُّ رَفْعُ الصَّوْتِ فِي الْحَرْبِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَكْرُوهًا مِنْ وَجْهِ الدِّينِ وَلَكِنَّهُ فَشِلَ، وَالْفَشَلُ الْجُبْنُ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ وَتَحْرِيضٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَعَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادَةَ قَالَ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكْرَهُونَ الصَّوْتَ عِنْدَ ثَلَاثٍ: الْجَنَائِزُ، وَالْقِتَالُ، وَالذِّكْرُ، وَالْمُرَادُ بِالذِّكْرِ الْوَعْظُ وَقَالَ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ كَرَاهَةِ رَفْعِ الصَّوْتِ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ، وَالْوَعْظِ فَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ مَا يَفْعَلُهُ الَّذِينَ يَدَّعُونَ الْوَجْدَ، وَالْمَحَبَّةَ مَكْرُوهٌ وَلَا أَصْلَ لَهُ فِي الدِّينِ وَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّهُ يُمْنَعُ الْمُتَقَشِّفَةُ وَحَمْقَى أَهْلِ التَّصَوُّفِ مِمَّا يَعْتَادُونَهُ مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ وَتَمْزِيقِ الثِّيَابِ عِنْدَ السَّمَاعِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ فِي الدِّينِ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ، وَالْوَعْظِ فَمَا ظَنُّك عِنْدَ سَمَاعِ الْغِنَاءِ وَيُنْدَبُ لِلْمُجَاهِدِ فِي دَارِ الْحَرْبِ تَوْفِيرُ الْأَظْفَارِ، وَإِنْ كَانَ قَصُّهَا مِنْ الْفِطْرَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا سَقَطَ السِّلَاحُ مِنْ يَدِهِ وَدَنَا مِنْهُ الْعَدُوُّ رُبَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ دَفْعِهِ بِأَظَافِيرِهِ وَهُوَ نَظِيرُ قَصِّ الشَّوَارِبِ، فَإِنَّهُ سُنَّةٌ ثُمَّ الْغَازِي فِي دَارِ الْحَرْبِ مَنْدُوبٌ إلَى تَوْفِيرِهَا وَتَطْوِيلِهَا لِيَكُونَ أَهْيَبَ فِي عَيْنِ مَنْ يُبَارِزُهُ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا يُعِينُ الْمَرْءَ عَلَى الْجِهَادِ فَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَى اكْتِسَابِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إعْزَازِ الْمُسْلِمِينَ وَقَهْرِ الْمُشْرِكِينَ. اهـ.
وَأَمَّا جَوَازُ رَمْيِهِمْ، وَإِنْ تَتَرَّسُوا بِبَعْضِنَا فَلِأَنَّ فِي الرَّمْيِ دَفْعَ الضَّرَرِ الْعَامِّ بِالذَّبِّ عَنْ بَيْضَةِ الْإِسْلَامِ وَقَتْلُ الْمُسْلِمِ ضَرَرٌ خَاصٌّ وَلِأَنَّهُ قَلَّ مَا يَخْلُو حِصْنٌ عَنْ مُسْلِمٍ فَلَوْ امْتَنَعَ عَنْ اعْتِبَارِهِ لَانْسَدَّ بَابُهُ أَطْلَقَ فِي بَعْضِنَا فَشَمِلَ الْأَسِيرَ، وَالتَّاجِرَ، وَالصِّبْيَانَ لَكِنْ نَقْصِدُ الْكُفَّارَ بِالرَّمْيِ دُونَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ إنْ تَعَذَّرَ التَّمْيِيزُ فِعْلًا فَقَدْ أَمْكَنَ قَصْدًا، وَالطَّاعَةُ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ، وَأَمَّا مَا أَصَابُوهُ مِنْهُمْ لَا دِيَةَ عَلَيْهِمْ وَلَا كَفَّارَةَ؛ لِأَنَّ الْجِهَادَ فَرْضٌ، وَالْغَرَامَاتُ لَا تَقْتَرِنُ بِالْفُرُوضِ بِخِلَافِ حَالَةِ الْمَخْمَصَةِ؛ لِأَنَّهُ
ــ
[منحة الخالق]
قَبْلُ كَافٍ وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ لَيْسَ لَهُ الِامْتِنَاعُ مِنْ اتِّخَاذِهِمْ ذِمَّةً وَيَجِبُ تَقْيِيدُهُ بِمَا إذَا لَمْ يَخَفْ سُوءَ عَاقِبَةٍ مِنْهُ تَأَمَّلْ.
[وَلَا نُقَاتِلُ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ]
(قَوْلُهُ بِخِلَافِ حَالَةِ الْمَخْمَصَةِ) قَالَ فِي الْفَتْحِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَنَا فِي الْمُضْطَرِّ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَكْلُ مَالِ الْغَيْرِ مَعَ الضَّمَانِ فَلَمْ يَكُنْ فَرْضًا فَهُوَ كَالْمُبَاحِ يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ كَالْمُرُورِ فِي الطَّرِيقِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ افْتِرَاضِ الْجِهَادِ فِي نَفْيِ الضَّمَانِ. اهـ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute