الْعِبْرَةَ لِوَقْتِ الْجِنَايَةِ، وَتَحَوُّلُ الْوَلَاءِ بِسَبَبٍ حَادِثٍ فَلَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ تِلْكَ الْجِنَايَةِ فَلَا يَتَبَدَّلُ، وَإِنْ لَمْ يَتَبَدَّلْ حَالُ الْقَاتِلِ، وَلَكِنْ ظَهَرَتْ حَالَةٌ خَفِيَتْ فِيهِ تَحَوَّلَتْ الْجِنَايَةُ إلَى الْأُخْرَى وَقَعَ الْقَضَاءُ بِهَا أَوْ لَمْ يَقَعْ، وَذَلِكَ مِثْلُ دَعْوَةِ وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ وَوَلَدِ الْمُكَاتَبِ إذَا مَاتَ الْمُكَاتَبُ عَنْ وَفَاءٍ، وَأَمَرَ الرَّجُلُ الصَّبِيَّ بِالْجِنَايَةِ، وَلَوْ لَمْ يَتَبَدَّلْ حَالُ الْجَانِي، وَلَمْ يَظْهَرْ فِيهِ الْحَالَةُ الْحَقِيقِيَّةُ، وَلَكِنَّ الْعَاقِلَةَ تَبَدَّلَتْ كَانَ الِاعْتِبَارُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الْقَضَاءَ لَا غَيْرُ فَإِنْ قُضِيَ بِهَا عَلَى الْأَوَّلِ لَمْ تَنْتَقِلْ إلَى الثَّانِي، وَإِلَّا قُضِيَ بِهَا عَلَى الثَّانِيَةِ، وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ دِيوَانِ أَهْلِ الْكُوفَةِ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ دِيوَانِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا لَكِنْ لَحِقَ الْعَاقِلَةَ زِيَادَةٌ أَوْ نُقْصَانٌ اشْتَرَكُوا فِي حُكْمِ الْجِنَايَةِ قَبْلَ الْقَضَاءِ، وَبَعْدَهُ إلَّا فِيمَا سَبَقَ أَدَاؤُهُ فَمَنْ أَحْكَمَ هَذَا الْفَصْلَ، وَتَأَمَّلَ فِيهِ أَمْكَنَهُ تَخْرِيجُ الْمَسَائِلِ وَرَدُّ كُلِّ وَاقِعَةٍ مِنْ النَّظَائِرِ وَالْأَضْدَادِ إلَى أَصْلِهَا قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ هَذَا مُخَالِفٌ لِمَا سَبَقَ فِي أَوَّلِ بَابِ جِنَايَةِ الْمَمْلُوكِ إنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ لَا يَتَعَاقَلُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَجَوَابُهُ أَنَّ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْغَالِبِ. اهـ.
أَقُولُ: يَأْبَى هَذَا الْجَوَابَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ هُنَا فَلَا عَاقِلَةَ بَعْدَ قَوْلِهِ أَنَّهُمْ لَا يَتَعَاقَلُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ لِأَنَّ النَّكِرَةَ الْمَنْفِيَّةَ تُفِيدُ الْعُمُومَ عَلَى مَا عُرِفَ فَالْأَوْلَى فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ هُنَاكَ نَفْيُ الْوُقُوعِ أَيْ لَمْ يَقَعْ التَّعَاقُلُ فِيمَا بَيْنَهُمْ.
وَالْمُرَادُ هُنَا بَيَانُ الْجَوَازِ أَيْ لَوْ وَقَعَ التَّعَاقُلُ فِيمَا بَيْنَهُمْ جَازَ وَلَا يَضُرُّهُ اخْتِلَافُ مِلَلِهِمْ فَتَبَصَّرْ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
[كِتَابُ الْوَصَايَا]
قَالَ الشُّرَّاحُ: إيرَادُ كِتَابِ الْوَصَايَا فِي آخِرِ الْكِتَابِ ظَاهِرُ الْمُنَاسَبَةِ إذْ آخِرُ الْأَحْوَالِ فِي الْآدَمِيِّ فِي الدُّنْيَا الْمَوْتُ وَالْوَصِيَّةُ مُعَامَلَةٌ وَقْتَ الْمَوْتِ أَقُولُ: يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ كِتَابَ الْوَصَايَا لَيْسَ بِمَوْرُودٍ فِي آخِرِ هَذَا الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا الْمَوْرُودُ فِي آخِرِهِ كِتَابُ الْخُنْثَى كَمَا تَرَى نَعَمْ إنَّ كَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِ التَّصَانِيفِ أَوْرَدُوهُ فِي آخِرِ كُتُبِهِمْ لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي شَرْحِ هَذَا الْكِتَابِ، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ مِنْ قِبَلِ الشُّرَّاحِ حَمْل الْآخَرِ فِي قَوْلِهِمْ فِي آخِرِ الْكِتَابِ عَلَى الْإِضَافِيِّ فَإِنَّ آخِرَهُ الْحَقِيقِيُّ، وَإِنْ كَانَ كِتَابَ الْخُنْثَى إلَّا أَنَّ كِتَابَ الْوَصَايَا أَيْضًا آخِرُهُ بِالْإِضَافَةِ إلَى مَا قَبْلَهُ حَيْثُ كَانَ فِي قُرْبِ آخِرِهِ الْحَقِيقِيِّ، وَمِنْ هَذَا تَرَى الْقَوْمَ يَقُولُونَ وَقَعَ هَذَا فِي أَوَائِلِ كَذَا أَوْ أَوَاخِرِهِ فَإِنَّ صِيغَةَ الْجَمْعِ لَا تَتَمَشَّى فِي الْأَوَّلِ الْحَقِيقِيِّ وَالْآخِرِ الْحَقِيقِيِّ، وَإِنَّمَا الْمُخَلِّصُ فِي ذَلِكَ تَعْمِيمُ الْأَوَّلِ، وَالْآخِرُ لِلْحَقِيقِيِّ وَالْإِضَافِيِّ، وَالْكَلَامُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ فِي تَفْسِيرِهَا لُغَةً، وَالثَّانِي فِي تَفْسِيرُهَا شَرْعًا وَالثَّالِثُ فِي سَبَبِ الْمَشْرُوعِيَّةِ، وَالرَّابِعُ فِي رُكْنِهَا، وَالْخَامِسُ فِي شَرْطِهَا، وَالسَّادِسُ فِي صِفَتِهَا، وَالسَّابِعُ فِي حُكْمِهَا، وَالثَّامِنُ فِي دَلِيلِ مَشْرُوعِيَّتِهَا أَمَّا الْوَصِيَّةُ فِي اللُّغَةِ فَهِيَ اسْمٌ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ التَّوْصِيَةُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {حِينَ الْوَصِيَّةِ} [المائدة: ١٠٦] ثُمَّ سُمِّيَ الْمُوصَى بِهِ وَصِيَّةً.
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا} [النساء: ١٢] وَفِي الشَّرِيعَةِ (الْوَصِيَّةُ تَمْلِيكٌ مُضَافٌ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ) بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ سَوَاءٌ كَانَتْ ذَلِكَ فِي الْأَعْيَانِ أَوْ فِي الْمَنَافِعِ كَذَا فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ أَقُولُ: وَهَذَا التَّعْرِيفُ لَيْسَ بِجَامِعٍ لِأَنَّهُ لَا يَشْمَلُ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالدَّيْنَ الَّذِي فِي ذِمَّتِهِ، وَلَوْ قَالَ الْمُؤَلِّفُ هِيَ طَلَبُ بَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْعِبَادِ مَا لَمْ يَصِلْهُمَا أَوْ تَمْلِيكٌ إلَى آخِرِهِ لَكَانَ أَوْلَى لَا يُقَالُ إدْخَالٌ أَوْ فِي الْحُدُودِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْحُدُودَ الْحَقِيقِيَّةَ وَلَا تَعَدُّدَ فِيهَا لِأَنَّا نَقُولُ إذَا أُرِيدَ تَعْرِيفُ الْحَقِيقَةِ فِي ضِمْنِ الْأَفْرَادِ جَازَ ذَلِكَ كَمَا تَقَرَّرَ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ثُمَّ الْوَصِيَّةُ، وَالتَّوْصِيَةُ، وَكَذَا الْإِيصَاءُ فِي اللُّغَةِ طَلَبُ فِعْلٍ مِنْ غَيْرِهِ لِيَفْعَلَهُ فِي غَيْبَتِهِ حَالَ حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَفِي الشَّرِيعَةِ تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ عَلَى سَبِيلِ التَّبَرُّعِ عَيْنًا كَانَ أَوْ مَنْفَعَةً هَذَا هُوَ التَّعْرِيفُ الْمَذْكُورُ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ، وَذُكِرَ فِي الْإِيضَاحِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ هِيَ مَا أَوْجَبَهُ الْإِنْسَانُ فِي مَالِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ وَالْوَصِيَّةُ بِهَذَا الْمَعْنَى هِيَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهَا بِأَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، وَأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى جَوَازَهَا فَعَلَى هَذَا يَكُونُ بَعْضُ الْمَسَائِلِ مِثْلَ مَسْأَلَةِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ الْعِبَادِ، وَالْمَسَائِلُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْوَصِيِّ مَذْكُورَةٌ فِي كِتَابِ الْوَصَايَا بِطَرِيقِ التَّطَفُّلِ لَكِنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ كَمَا أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ فِي الشَّرْعِ لِلْمَعْنَى الْمَذْكُورِ مَوْضُوعَةٌ فِيهِ أَيْضًا لِطَلَبِ شَيْءٍ مِنْ غَيْرِهِ لِيَفْعَلَهُ بَعْدَ مَمَاتِهِ فَقَدْ نُقِلَ هَذَا عَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ لَكِنْ يُشْتَرَطُ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الْإِيصَاءِ بِاللَّامِ فِي الْمَعْنَى الْأَوَّلِ.
وَبِإِلَى فِي الْمَعْنَى الثَّانِي فَحِينَئِذٍ يَكُونُ ذِكْرُ الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى أَنَّهَا مِنْ فُرُوعِ الْمَعْنَى الثَّانِي لَا عَلَى سَبِيلِ التَّطَفُّلِ إلَى هُنَا لَفْظُهُ ثُمَّ إنَّ سَبَبَ الْوَصِيَّةِ سَبَبُ سَائِرِ التَّبَرُّعَاتِ، وَهُوَ إرَادَةُ تَحْصِيلِ الذِّكْرِ الْحَسَنِ فِي الدُّنْيَا وَوُصُولِ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ فِي الْعُقْبَى.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute