وَلَكِنَّ الْقَاضِيَ إذَا أَرَادَ أَنْ يُقَامَ بِحَضْرَتِهِ يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْغَامِدِيَّةِ أَوْ يَبْعَثُ أَمِينًا كَمَا فَعَلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي مَاعِزٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
(فَصْلٌ فِي التَّعْزِيرِ) .
هُوَ تَأْدِيبٌ دُونَ الْحَدِّ وَأَصْلُهُ مِنْ الْعَزْرِ بِمَعْنَى الرَّدِّ وَالرَّدْعِ كَذَا فِي الْمُغْرِبِ وَفِي ضِيَاءِ الْحُلُومِ هُوَ ضَرْبٌ دُونَ الْحَدِّ لِلتَّأْدِيبِ. وَالتَّعْزِيرُ التَّعْظِيمُ وَالنَّصْرُ قَالَ تَعَالَى {وَتُعَزِّرُوهُ} [الفتح: ٩] اهـ.
فَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا فِي ضِيَاءِ الْحُلُومِ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ وَمَا فِي الْمُغْرِبِ مَعْنَاهُ الشَّرْعِيُّ فَإِنَّهُ شَرْعًا لَا يَخْتَصُّ بِالضَّرْبِ بَلْ قَدْ يَكُونُ بِهِ وَقَدْ يَكُونُ بِالصَّفْعِ وَبِفَرْكِ الْأُذُنِ وَقَدْ يَكُونُ بِالْكَلَامِ الْعَنِيفِ وَقَدْ يَكُونُ بِنَظَرِ الْقَاضِي إلَيْهِ بِوَجْهٍ عَبُوسٍ وَذَكَرَ أَبُو الْيُسْرِ وَالسَّرَخْسِيُّ أَنَّهُ لَا يُبَاحُ التَّعْزِيرُ بِالصَّفْعِ لِأَنَّهُ مِنْ أَعْلَى مَا يَكُونُ مِنْ الِاسْتِخْفَافِ فَيُصَانُ عَنْهُ أَهْلُ الْغَفْلَةِ كَذَا فِي الْمُجْتَبَى وَفِي ضِيَاءِ الْحُلُومِ الصَّفْعُ الضَّرْبُ عَلَى الْقَفَا وَلَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ التَّعْزِيرَ بِأَخْذِ الْمَالِ وَقَدْ قِيلَ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ التَّعْزِيرَ مِنْ السُّلْطَانِ بِأَخْذِ الْمَالِ جَائِزٌ كَذَا فِي الظَّهِيرِيَّةِ وَفِي الْخُلَاصَةِ سَمِعْت عَنْ ثِقَةٍ أَنَّ التَّعْزِيرَ بِأَخْذِ الْمَالِ إنْ رَأَى الْقَاضِي ذَلِكَ أَوْ الْوَالِي جَازَ وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ رَجُلٌ لَا يَحْضُرُ الْجَمَاعَةَ يَجُوزُ تَعْزِيرُهُ بِأَخْذِ الْمَالِ اهـ.
وَأَفَادَ فِي الْبَزَّازِيَّةِ أَنَّ مَعْنَى التَّعْزِيرِ بِأَخْذِ الْمَالِ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ إمْسَاكُ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ عَنْهُ مُدَّةً لِيَنْزَجِرَ ثُمَّ يُعِيدُهُ الْحَاكِمُ إلَيْهِ لَا أَنْ يَأْخُذَهُ الْحَاكِمُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِبَيْتِ الْمَالِ كَمَا يَتَوَهَّمُهُ الظَّلَمَةُ إذْ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَخْذُ مَالِ أَحَدٍ بِغَيْرِ سَبَبٍ شَرْعِيٍّ وَفِي الْمُجْتَبَى لَمْ يَذْكُرْ كَيْفِيَّةَ الْأَخْذِ وَأَرَى أَنْ يَأْخُذَهَا فَيُمْسِكَهَا فَإِنْ أَيِسَ مِنْ تَوْبَتِهِ يَصْرِفُهَا إلَى مَا يَرَى وَفِي شَرْحِ الْآثَارِ التَّعْزِيرُ بِالْمَالِ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَ. اهـ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَذْهَبَ عَدَمُ التَّعْزِيرِ بِأَخْذِ الْمَالِ، وَأَمَّا التَّعْزِيرُ بِالشَّتْمِ فَلَمْ أَرَهُ إلَّا فِي الْمُجْتَبَى قَالَ وَفِي شَرْحِ أَبِي الْيُسْرِ التَّعْزِيرُ بِالشَّتْمِ مَشْرُوعٌ وَلَكِنْ بَعْدَ أَنْ لَا يَكُونَ قَاذِفًا اهـ.
وَصَرَّحَ السَّرَخْسِيُّ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي التَّعْزِيرِ شَيْءٌ مُقَدَّرٌ بَلْ هُوَ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الزَّجْرُ وَأَحْوَالُ النَّاسِ مُخْتَلِفَةٌ فِيهِ وَفِي الشَّافِي التَّعْزِيرُ عَلَى مَرَاتِبِ أَشْرَافِ الْأَشْرَافِ وَهُمْ الْعُلَمَاءُ وَالْعَلَوِيَّةُ بِالْإِعْلَامِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لَهُ الْقَاضِي: إنَّكَ تَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا فَيَنْزَجِرُ بِهِ وَتَعْزِيرُ الْأَشْرَافِ وَهُمْ الْأُمَرَاءُ وَالدَّهَاقِينَ بِالْإِعْلَامِ وَالْجَرِّ إلَى بَابِ الْقَاضِي وَالْخُصُومَةِ وَتَعْزِيرُ الْأَوْسَاطِ وَهُمْ السُّوقَةُ بِالْجَرِّ وَالْحَبْسِ وَتَعْزِيرُ الْأَخِسَّةِ بِهَذَا كُلِّهِ وَبِالضَّرْبِ. اهـ.
وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَيْسَ مُفَوَّضًا إلَى رَأْيِ الْقَاضِي
ــ
[منحة الخالق]
[فَصْلٌ فِي التَّعْزِيرِ]
(قَوْلُهُ فَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا فِي ضِيَاءِ الْحُلُومِ إلَخْ) قَالَ فِي النَّهْرِ وَفِي الْقَامُوسِ إنَّهُ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَضْدَادِ يُطْلَقُ عَلَى التَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ وَعَلَى التَّأْدِيبِ وَعَلَى أَشَدِّ الضَّرْبِ وَعَلَى ضَرْبِهِ دُونَ الْحَدِّ اهـ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْمَكِّيُّ الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْأَخِيرَ غَلَطٌ لِأَنَّ هَذَا وَضْعٌ شَرْعِيٌّ لَا لُغَوِيٌّ إذْ لَمْ يُعْلَمْ إلَّا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ فَكَيْفَ نُسِبَ إلَى أَهْلِ اللُّغَةِ الْجَاهِلِينَ بِذَلِكَ مِنْ أَصْلِهِ وَاَلَّذِي فِي الصِّحَاحِ بَعْدَ تَفْسِيرِهِ بِالضَّرْبِ وَمِنْهُ سُمِّيَ ضَرْبُ مَا دُونَ الْحَدِّ تَعْزِيرًا فَأَشَارَ إلَى أَنَّ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ الشَّرْعِيَّةَ مَنْقُولَةٌ عَنْ الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ بِزِيَادَةِ قَيْدٍ هُوَ كَوْنُ ذَلِكَ الضَّرْبِ دُونَ الْحَدِّ الشَّرْعِيِّ فَهُوَ كَلَفْظِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَنَحْوِهِمَا الْمَنْقُولَةِ لِوُجُودِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ فِيهَا وَزِيَادَةً وَهَذِهِ دَقِيقَةٌ مُهِمَّةٌ تَفَطَّنَ لَهَا صَاحِبُ الصِّحَاحِ وَغَفَلَ عَنْهَا صَاحِبُ الْقَامُوسِ وَقَدْ وَقَعَ لَهُ نَظِيرُ ذَلِكَ كَثِيرًا وَهُوَ غَلَطٌ يَتَعَيَّنُ التَّفَطُّنُ لَهُ اهـ.
(قَوْلُهُ: فَيُصَانُ عَنْهُ أَهْلُ الْغَفْلَةِ) كَذَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَفِي بَعْضِهَا الْقِبْلَةُ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِأَنَّ الصَّفْعَ شُرِعَ لِأَهْلِ الذَّمَّةِ عِنْدَ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ تَأَمَّلْ (قَوْلُهُ: وَصَرَّحَ السَّرَخْسِيُّ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي التَّعْزِيرِ شَيْءٌ مُقَدَّرٌ إلَخْ) أَيْ فِي أَنْوَاعِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ بِالضَّرْبِ وَغَيْرِهِ أَمَّا إنْ اقْتَضَى رَأْيُهُ الضَّرْبَ فَلَا يَزِيدُ عَلَى تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ كَمَا يَأْتِي عَنْ الْفَتْحِ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَأَكْثَرُ التَّعْزِيرِ إلَخْ (قَوْلُهُ: وَأَحْوَالُ النَّاسِ فِيهِ مُخْتَلِفَةٌ) فَمِنْهُمْ مَنْ يَنْزَجِرُ بِالنَّصِيحَةِ وَمِنْهُمْ بِاللَّطْمَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْتَاجُ إلَى الضَّرْبِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْتَاجُ إلَى الْحَبْسِ كَذَا فِي الْفَتْحِ
(قَوْلُهُ: وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَيْسَ مُفَوَّضًا إلَخْ) قَالَ فِي النَّهْرِ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ مَا فِي الشَّافِي عَلَى إطْلَاقِهِ فَإِنَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَشْرَفِ الْأَشْرَافِ لَوْ ضَرَبَ غَيْرَهُ فَأَدْمَاهُ لَا يُكْتَفَى بِتَعْزِيرِهِ بِقَوْلِ الْقَاضِي مَا مَرَّ إذْ لَا يَنْزَجِرُ بِذَلِكَ وَقَدْ رَأَيْت بَعْضَ الْقُضَاةِ مِنْ الْإِخْوَانِ مَنْ أَدَّبَهُ بِالضَّرْبِ بِذَلِكَ وَأَرَى أَنَّهُ صَوَابٌ اهـ.
أَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَا فِي الشَّافِي بَيَانًا لِمَا تَضَمَّنَهُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ قَالَ الزَّيْلَعِيُّ ثُمَّ هُوَ قَدْ يَكُونُ بِالْحَبْسِ وَقَدْ يَكُونُ بِالصَّفْعِ وَبِتَعْرِيكِ الْأُذُنِ وَقَدْ يَكُونُ بِالْكَلَامِ الْعَنِيفِ أَوْ بِالضَّرْبِ وَقَدْ يَكُونُ بِنَظَرِ الْقَاضِي إلَيْهِ بِوَجْهٍ عَبُوسٍ وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مُقَدَّرٌ وَإِنَّمَا هُوَ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ عَلَى مَا يَقْتَضِي جِنَايَتَهُمْ فَإِنَّ الْعُقُوبَةَ فِيهِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْجِنَايَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَبْلُغَ غَايَةَ التَّعْزِيرِ فِي الْكَبِيرَةِ كَمَا إذَا أَصَابَ مِنْ الْأَجْنَبِيَّةِ كُلَّ مُحَرَّمٍ سِوَى الْجِمَاعِ أَوْ جَمَعَ السَّارِقُ الْمَتَاعَ فِي الدَّارِ وَلَمْ يُخْرِجْهُ وَكَذَا يَنْظُرُ فِي أَحْوَالِهِمْ فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَنْزَجِرُ بِالْيَسِيرِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَنْزَجِرُ إلَّا بِالْكَثِيرِ وَذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ التَّعْزِيرَ عَلَى مَرَاتِبَ إلَخْ فَقَوْلُهُ وَذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ إلَخْ