الْمَذْبُوحُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: ٣] وَلِأَنَّ الْمُحَرَّمَ هُوَ الدَّمُ الْمَسْفُوحُ وَبِالذَّبْحِ يَقَعُ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّحْمِ فَيَطْهُرُ بِهِ إنْ كَانَ غَيْرَ مَأْكُولٍ وَيُقَالُ: ذَكَاءُ السِّنِّ بِالْمَدِّ لِنِهَايَةِ الشَّبَابِ، وَذَكَاةُ النَّارِ بِالْقَصْرِ لِتَمَامِ اشْتِعَالِهَا، وَهِيَ اخْتِيَارِيَّةٌ وَاضْطِرَارِيَّةٌ فَالْأَوَّلُ الْجَرْحُ مَا بَيْنَ اللَّبَّةِ وَاللَّحْيَيْنِ وَالثَّانِي الْجَرْحُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ الْبَدَنِ وَهَذَا كَالْبَدَلِ عَنْ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْأَوَّلِ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَبْلَغُ فِي إخْرَاجِ الدَّمِ مِنْ الثَّانِي فَلَا يُتْرَكُ إلَّا بِالْعَجْزِ عَنْهُ وَيُكْتَفَى بِالثَّانِي لِلضَّرُورَةِ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِحَسَبِ الْوُسْعِ وَذَهَبَ الْعِرَاقِيُّونَ مِنْ مَشَايِخِنَا إلَى أَنَّ الذَّبْحَ مَحْظُورٌ عَقْلًا لِمَا فِيهِ مِنْ إيلَامِ الْحَيَوَانِ وَلَكِنَّ الشَّرْعَ أَحَلَّهُ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ فِي الْمَبْسُوطِ: وَهَذَا عِنْدِي بَاطِلٌ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يَتَنَاوَلُ اللَّحْمَ قَبْلَ الْبِعْثَةِ وَلَا يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ ذَبَائِحَ الْمُشْرِكِينَ لِذَبْحِهِمْ بِأَسْمَاءِ آلِهَتِهِمْ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ كَانَ يَصْطَادُ وَيَذْبَحُ بِنَفْسِهِ وَمَا كَانَ يَفْعَلُ مَا هُوَ الْمَحْظُورُ عَقْلًا كَالْكَذِبِ وَالظُّلْمِ وَالسَّفَهِ.
[ذَبِيحَةُ مُسْلِمٍ وَكِتَابِيٍّ]
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَحَلَّ ذَبِيحَةُ مُسْلِمٍ وَكِتَابِيٍّ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: ٥] وَالْمُرَادُ بِهِ ذَبَائِحُهُمْ لِأَنَّ مُطْلَقَ الطَّعَامِ غَيْرِ الْمُذَكَّى يَحِلُّ مِنْ أَيِّ كَافِرٍ وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا فَرْقَ فِي الْكِتَابِيِّ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذِمِّيًّا، أَوْ حَرْبِيًّا، وَيُشْتَرَطُ أَنْ لَا يُذْكَرَ فِيهِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى لَوْ ذَكَرَ الْكِتَابِيُّ الْمَسِيحَ، أَوْ عُزَيْرًا لَا يَحِلُّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة: ١٧٣] وَهُوَ كَالْمُسْلِمِ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَوْ أَهَلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ لَا يَحِلُّ قَالَ فِي الْعِنَايَةِ الْكِتَابِيُّ إذَا أَتَى بِالذَّبِيحَةِ مَذْبُوحَةً أَكَلْنَا فَلَوْ ذَبَحَ بِالْحُضُورِ فَلَا بُدَّ مِنْ الشَّرْطِ وَهُوَ أَنْ لَا يَذْكُرَ غَيْرَ اسْمِ اللَّهِ وَلَا فَرْقَ فِي الذَّابِحِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ صَبِيًّا، أَوْ مَجْنُونًا قَالَ فِي النِّهَايَةِ الْمُرَادُ بِالْمَجْنُونِ الْمَعْتُوهُ لِأَنَّ الْمَجْنُونَ لَا قَصْدَ لَهُ وَلَا بُدَّ مِنْ التَّسْمِيَةِ وَهِيَ الْقَصْدُ وَهُوَ أَنْ يَعْقِلَهَا.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَصَبِيٍّ وَامْرَأَةٍ وَأَخْرَسَ وَأَقْلَفَ) يَعْنِي تَحِلُّ ذَبِيحَةُ هَؤُلَاءِ وَالْمُرَادُ بِالصَّبِيِّ الَّذِي يَعْقِلُ التَّسْمِيَةَ وَيَضْبِطُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَا يَحِلُّ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ عَلَى الذَّبِيحَةِ شَرْطٌ بِالنَّصِّ وَذَلِكَ بِالْعَقْدِ وَصِحَّةُ الْعَقْدِ بِالْمَعْرِفَةِ وَالضَّبْطُ هُوَ أَنْ يَعْلَمَ شَرَائِطَ الذَّبْحِ مِنْ فَرْيِ الْأَوْدَاجِ وَالتَّسْمِيَةِ وَالْمَعْتُوهُ كَالصَّبِيِّ إذَا كَانَ ضَابِطًا وَالْقُلْفَةُ وَلَا الْفِرَاسَةُ لَا تَحِلُّ بِذَلِكَ فَيَحِلُّ وَالْأَخْرَسُ عَاجِزٌ عَنْ الذِّكْرِ فَيَكُونُ مَعْذُورًا وَتَقُومُ الْمِلَّةُ مَقَامَهُ كَالنَّاسِي بَلْ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَلْزَمُ.
[ذَبِيحَة الْمَجُوسِيِّ وَالْوَثَنِيِّ وَالْمُرْتَدِّ وَالْمُحْرِمِ وَتَارِكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا]
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لَا مَجُوسِيٍّ وَوَثَنِيٍّ وَمُرْتَدٍّ وَمُحْرِمٍ وَتَارِكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا) يَعْنِي لَا تَحِلُّ ذَبِيحَةُ هَؤُلَاءِ أَمَّا الْمَجُوسِيُّ فَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ غَيْرَ نَاكِحِي نِسَائِهِمْ وَلَا آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ» وَلِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ دِينٌ سَمَاوِيٌّ فَانْعَدَمَ التَّوْحِيدُ اعْتِقَادًا وَدَعْوَى، وَالْوَثَنِيُّ كَالْمَجُوسِيِّ فِيمَا ذَكَرْنَا لِأَنَّهُ مُشْرِكٌ مِثْلُهُ، وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَلِأَنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى مَا انْتَقَلَ إلَيْهِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ نِكَاحُهُ بِخِلَافِ الْيَهُودِيِّ إذَا تَنَصَّرَ وَبِالْعَكْسِ أَوْ تَنَصَّرَ الْمَجُوسِيُّ، أَوْ تَهَوَّدَ لِأَنَّهُ يُقَرُّ عَلَى مَا انْتَقَلَ إلَيْهِ عِنْدَنَا فَتُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ وَلَوْ تَمَجَّسَ الْيَهُودِيُّ لَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ وَلَا فَرْقَ فِي الْمُرْتَدِّ بَيْنَ أَنْ يَرْتَدَّ إلَى دِينِ الْيَهُودِيَّةِ أَوْ النَّصْرَانِيَّةِ، أَوْ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ كَذَا فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ وَالْمُتَوَلِّدُ بَيْنَ الْكِتَابِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ يُعْتَبَرُ كِتَابِيًّا، وَأَمَّا الْمُحْرِمُ فَالْمُرَادُ بِهِ فِي حَقِّ الصَّيْدِ لِأَنَّ ذَبِيحَتَهُ فِي حَقِّ الصَّيْدِ لَا تُؤْكَلُ لِأَنَّ فِعْلَهُ فِيهِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَكَذَا الْحَلَالُ فِي حَقِّ صَيْدِ الْحَرَمِ وَكَذَا الْكِتَابِيُّ لَوْ ذَبَحَ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ، وَأَمَّا تَارِكُ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: ١٢١] وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَك الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ» الْحَدِيثَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ تُؤْكَلُ قَيَّدْنَا بِقَوْلِنَا عَمْدًا لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ نَاسِيًا يَحِلُّ أَكْلُهَا وَهُوَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالْمَشَايِخُ: إنَّ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا لَا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ حَتَّى لَوْ قَضَى الْقَاضِي بِجَوَازِ بَيْعِهِ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ، وَلَوْ ذَبَحَ شَاتَيْنِ فَسَمَّى عَلَى الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ تَحِلُّ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ وَلَوْ رَمَى سَهْمًا إلَى صُيُودٍ فَأَثْخَنَ الْكُلَّ يَكْفِيهِ تَسْمِيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ حَصَلَ بِهَا ذَكَاةُ صُيُودٍ كَثِيرَةٍ، فَأَمَّا ذَبْحُ الشَّاةِ الثَّانِيَةِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَسْمِيَةٍ ثَانِيَةٍ حَتَّى لَوْ أَضْجَعَ شَاتَيْنِ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى وَذَبَحَهُمَا بِحَدِيدَةٍ يَحِلَّانِ بِتَسْمِيَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَوْ أَضْجَعَ شَاةً لِيَذْبَحَهَا، ثُمَّ أَلْقَى تِلْكَ السِّكِّينَ وَأَخَذَ سِكِّينًا أُخْرَى فَذَبَحَ بِهَا لَا بَأْسَ بِهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَخَذَ سَهْمًا فَوَضَعَ ذَلِكَ وَرَفَعَ آخَرَ وَلَمْ يُسَمِّ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ فِي الذَّكَاةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ مَشْرُوعَةٌ عَلَى الذَّبْحِ لَا عَلَى آلَتِهِ وَالذَّبِيحَةُ لَمْ تَتَغَيَّرْ، وَفِي الذَّكَاةِ الِاضْطِرَارِيَّةِ التَّسْمِيَةُ عَلَى الْآلَةِ لَا عَلَى الذَّبِيحَةِ وَالْآلَةُ قَدْ تَغَيَّرَتْ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَلَوْ أَضْجَعَ شَاةً وَسَمَّى فَأَرْسَلَهَا وَأَخَذَ غَيْرَهَا وَذَبَحَهَا بِتِلْكَ التَّسْمِيَةِ لَمْ تَجُزْ وَلَوْ رَمَى إلَى صَيْدٍ فَأَصَابَ آخَرَ يَحِلُّ لِمَا بَيَّنَّا. سَمَّى وَاشْتَغَلَ بِآخَرَ
إنْ كَانَ قَلِيلًا كَمَا لَوْ كَلَّمَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute