إلَّا جِلْدَهُ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ لَحْمِهِ لَا لِكَرَامَتِهِ آيَةُ نَجَاسَتِهِ لَكِنَّ بَيْنَ الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ جَلْدَةٌ رَقِيقَةٌ تَمْنَعُ تَنَجُّسَ الْجِلْدِ بِاللَّحْمِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِنَجَاسَةِ السُّؤْرِ إلَّا بِهَذَا الطَّرِيقِ اهـ.
وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْعِنَايَةِ حَاصِلَ هَذَا الْإِشْكَالِ وَذَكَرَ أَنَّهَا نُكْتَةٌ لَا بَأْسَ بِالتَّنْبِيهِ عَلَيْهَا ثَمَّ قَالَ وَحَلُّهَا أَنَّ الْمُرَادَ بِاللَّحْمِ الطَّاهِرِ الْمُتَوَلِّدِ مِنْهُ اللُّعَابُ مَا يَحِلُّ أَكْلُهُ بَعْدَ الذَّبْحِ، وَبِالنَّجَسِ مَا يُقَابِلُهُ، وَهَذَا لِأَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي النَّجَاسَةِ الْمُجَارَةِ بِالدَّمِ الْمَسْفُوحِ قَبْلَ الذَّبْحِ، فَإِنَّ الشَّاةَ لَا تُؤْكَلُ إذَا مَاتَتْ حَتْفَ أَنْفِهَا وَاشْتَرَكَا فِي الطَّهَارَةِ بَعْدَهُ لِزَوَالِ الْمُنَجِّسِ، وَهُوَ الدَّمُ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا إلَّا أَنَّ الشَّاةَ تُؤْكَلُ بَعْدَ الذَّبْحِ دُونَ الْكَلْبِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا أَيْضًا فِي الظَّاهِرِ إلَّا اخْتِلَاطُ اللُّعَابِ الْمُتَوَلِّدِ مِنْ اللَّحْمِ فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ اللُّعَابَ الْمُتَوَلِّدَ مِنْ لَحْمِ مَأْكُولٍ بَعْدَ الذَّبْحِ طَاهِرٌ بِلَا كَرَاهَةٍ دُونَ غَيْرِهِ إضَافَةً لِلْحُكْمِ إلَى الْفَارِقِ صِيَانَةً لِحُكْمِ الشَّرْعِ عَنْ الْمُنَاقَضَةِ ظَاهِرًا هَذَا مَا سَنَحَ لِي اهـ.
وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الْجَوَابِ، فَإِنَّ قَوْلَ الزَّيْلَعِيِّ وَالْحُرْمَةُ لَا تُوجِبُ النَّجَاسَةَ يَرُدُّهُ بَلْ الْجَوَابُ الصَّحِيحُ مَا فِي شَرْحِ الْوِقَايَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْحُرْمَةَ إذَا لَمْ تَكُنْ لِلْكَرَامَةِ، فَإِنَّهَا آيَةُ النَّجَاسَةِ لَكِنَّ فِيهِ شُبْهَةَ أَنَّ النَّجَاسَةَ لِاخْتِلَاطِ الدَّمِ بِاللَّحْمِ إذْ لَوْلَا ذَلِكَ بَلْ نَجَاسَتُهُ لِذَاتِهِ لَكَانَ نَجِسَ الْعَيْنِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَغَيْرُ مَأْكُولِ اللَّحْمِ إذَا كَانَ حَيًّا فَلُعَابُهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ اللَّحْمِ الْحَرَامِ الْمَخْلُوطِ بِالدَّمِ فَيَكُونُ نَجِسًا لِاجْتِمَاعِ الْأَمْرَيْنِ أَمَّا فِي مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَلَمْ يُوجَدْ إلَّا أَحَدُهُمَا، وَهُوَ الِاخْتِلَاطُ بِالدَّمِ فَلَمْ يُوجِبْ نَجَاسَةَ السُّؤْرِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ بِانْفِرَادِهَا ضَعِيفَةٌ إذْ الدَّمُ الْمُسْتَقِرُّ فِي مَوْضِعِهِ لَمْ يُعْطِ لَهُ حُكْمَ النَّجَاسَةِ فِي الْحَيِّ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ حَيًّا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُذَكًّى كَانَ نَجِسًا سَوَاءٌ كَانَ مَأْكُولَ اللَّحْمِ أَوْ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ حَرَامًا بِالْمَوْتِ فَالْحُرْمَةُ مَوْجُودَةٌ مَعَ اخْتِلَاطِ الدَّمِ فَيَكُونُ نَجِسًا، فَإِذَا كَانَ مُذَكًّى كَانَ طَاهِرًا أَمَّا فِي مَأْكُولِ اللَّحْمِ؛ فَلِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ الْحُرْمَةُ وَلَا اخْتِلَاطُ الدَّمِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ؛ فَلِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الِاخْتِلَاطُ وَالْحُرْمَةُ الْمُجَرَّدَةُ غَيْرُ كَافِيَةٍ فِي النَّجَاسَةِ عَلَى مَا مَرَّ أَنَّهَا تَثْبُتُ بِاجْتِمَاعِ الْأَمْرَيْنِ اهـ.
فَحَاصِلُهُ أَنَّ نَجَاسَةَ اللَّحْمِ لِحُرْمَتِهِ مَعَ اخْتِلَاطِ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ بِهِ، وَقَدْ فُقِدَ الثَّانِي فِي الْمُذَكَّى مِنْ السِّبَاعِ فَكَانَ طَاهِرًا وَاجْتَمَعَا فِي حَالَتَيْ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ فَكَانَ نَجِسًا وَفُقِدَ الْأَوَّلُ فِي الشَّاةِ حَالَةَ الْحَيَاةِ وَالذَّكَاةِ فَكَانَ طَاهِرًا وَاجْتَمَعَا حَالَةَ الْمَوْتِ فَكَانَ نَجِسًا فَظَهَرَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ طَهَارَةَ الْعَيْنِ لَا تَسْتَلْزِمُ طَهَارَةَ اللَّحْمِ؛ لِأَنَّ السِّبَاعَ طَاهِرَةُ الْعَيْنِ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا كَمَا نَقَلَهُ بَعْضُهُمْ مَعَ أَنَّ لَحْمَهَا نَجِسٌ فَثَبَتَ بِهَذَا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْكَلْبَ طَاهِرُ الْعَيْنِ وَلَحْمَهُ نَجِسٌ وَنَجَاسَةُ سُؤْرِهِ لِنَجَاسَةِ لَحْمِهِ لَكِنْ بَقِيَ هَاهُنَا كَلَامٌ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُمْ بَيْنَ الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ جِلْدَةٌ رَقِيقَةٌ تَمْنَعُ تَنَجُّسَ الْجِلْدِ بِاللَّحْمِ مُشْكِلٌ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي طَهَارَةَ الْجِلْدِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى الذَّكَاةِ أَوْ الدِّبَاغَةِ كَمَا لَا يَخْفَى وَفِي مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ نَجَاسَةَ سُؤْرِ السِّبَاعِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهَا خَفِيفَةٌ أَمْ غَلِيظَةٌ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةِ الْأُصُولِ غَلِيظَةٌ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ سُؤْرَ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ كَبَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ كَذَا فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ وَمِمَّا سَيَأْتِي فِي سَبَبِ التَّغْلِيظِ وَالتَّخْفِيفِ يَظْهَرُ وَجْهُ كُلٍّ مِنْ الرِّوَايَتَيْنِ فَاَلَّذِي يَظْهَرُ تَرْجِيحُ الْأُولَى لِمَا عُرِفَ مِنْ أَصْلِهِ
(قَوْلُهُ: وَالْهِرَّةُ وَالدَّجَاجَةُ الْمُخَلَّاةُ وَسِبَاعُ الطَّيْرِ وَسَوَاكِنُ الْبُيُوتِ مَكْرُوهٌ) أَيْ سُؤْرُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مَكْرُوهٌ، وَفِي التَّبْيِينِ وَإِعْرَابُهُ بِالرَّفْعِ أَجْوَدُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي الْمُسْتَصْفَى وَيَعْنِي مِنْ السُّؤْرِ الْمَكْرُوهِ أَنَّهُ طَاهِرٌ لَكِنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَتَوَضَّأَ بِغَيْرِهِ اهـ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَكْرُوهَ إذَا أُطْلِقَ فِي كَلَامِهِمْ فَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّحْرِيمُ إلَّا أَنْ يَنُصَّ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ فَقَدْ قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي الْمُسْتَصْفَى: لَفْظُ الْكَرَاهَةِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُرَادُ بِهَا التَّحْرِيمُ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: قُلْت لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا قُلْت فِي شَيْءٍ أَكْرَهُ فَمَا رَأْيُك فِيهِ قَالَ: التَّحْرِيمُ اهـ.
وَقَدْ صَرَّحُوا بِالْخِلَافِ فِي كَرَاهَةِ سُؤْرِ الْهِرَّةِ فَمِنْهُمْ كَالطَّحَاوِيِّ وَمَنْ مَالَ إلَى أَنَّهَا كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ نَظَرَ إلَى حُرْمَةِ لَحْمِهَا، وَمِنْهُمْ كَالْكَرْخِيِّ مَنْ مَالَ إلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ نَظَرًا إلَى أَنَّهَا لَا تَتَحَامَى النَّجَاسَةَ قَالُوا، وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَا فِي الْأَصْلِ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَإِنْ تَوَضَّأَ بِغَيْرِهِ أَحَبُّ
ــ
[منحة الخالق]
(قَوْلُهُ: وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الْجَوَابِ إلَخْ) أَقُولُ: يُمْكِنُ إرْجَاعُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْعِنَايَةِ إلَى مَا قَالَهُ فِي شَرْحِ الْوُقَايَةِ مِنْ أَنَّ الْعِلَّةَ الْحُرْمَةُ مَعَ اخْتِلَاطِ الدَّمِ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ.
فَإِنَّهُ بَعْدَ مَا ذَكَرَ اشْتَرَاكَ الْمَأْكُولِ وَغَيْرِهِ فِي النَّجَاسَةِ الْمُجَاوِرَةِ بِالدَّمِ ذَكَرَ انْفِرَادَ غَيْرِ الْمَأْكُولِ بِالْحُرْمَةِ فَقَدْ اجْتَمَعَ فِي غَيْرِ الْمَأْكُولِ الْأَمْرَانِ بِخِلَافِ الْمَأْكُولِ فَكَانَتْ النَّجَاسَةُ فِي الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي ثُمَّ أَوْضَحَهُ بِقَوْلِهِ فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ اللُّعَابَ الْمُتَوَلِّدَ مِنْ لَحْمٍ مَأْكُولٍ بَعْدَ الذَّبْحِ طَاهِرٌ أَيْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ إلَّا الِاخْتِلَاطُ بِالدَّمِ وَقَوْلُهُ دُونَ غَيْرِهِ أَيْ دُونَ الْمُتَوَلِّدِ مِنْ لَحْمٍ مَأْكُولٍ بِأَنْ كَانَ مُتَوَلِّدًا مِنْ لَحْمٍ حَرَامٍ غَيْرِ مَأْكُولٍ، فَإِنَّ لُعَابَهُ غَيْرُ طَاهِرٍ لِتَوَلُّدِهِ مِنْ لَحْمٍ حَرَامٍ فَقَدْ اجْتَمَعَ فِيهِ الشَّيْئَانِ فَمُؤَدَّى الْكَلَامَيْنِ مُتَّحِدٌ إلَّا أَنَّ عِبَارَةَ شَرْحِ الْوُقَايَةِ أَصْرَحُ.