للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مَا ذَكَرْنَا وَلِاحْتِمَالِ أَنَّهُ سَكِرَ مِنْ الْمُبَاحِ وَفِي الظَّهِيرِيَّةِ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ شَرِبَهَا، وَالْآخَرُ أَنَّهُ قَاءَهَا لَمْ يُحَدَّ، وَإِذَا شَرِبَ قَوْمٌ نَبِيذًا فَسَكِرَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ دُونَ الْبَعْضِ حُدَّ مَنْ سَكِرَ، وَأَمَّا إذَا رَجَعَ عَنْ الْإِقْرَارِ فَلِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَيُعْمَلُ الرُّجُوعُ فِيهِ كَسَائِرِ الْحُدُودِ وَهَذَا لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فَصَارَتْ شُبْهَةً، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَأَمَّا إذَا أَقَرَّ وَهُوَ سَكْرَانُ فَلِزِيَادَةِ احْتِمَالِ الْكَذِبِ فِي إقْرَارِهِ فَيُحْتَالُ لِلدَّرْءِ؛ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَأَشَارَ إلَى أَنَّ كُلَّ حَدٍّ كَانَ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُ السَّكْرَانِ بِهِ، وَإِنَّ مَا لَمْ يَكُنْ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِهِ كَحَدِّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّهُ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ، وَالسَّكْرَانُ فِيهِ كَالصَّاحِي عُقُوبَةً عَلَيْهِ كَمَا فِي سَائِر تَصَرُّفَاتِهِ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ إقْرَارَهُ بِالْحُدُودِ لَا يَصِحُّ إلَّا حَدُّ الْقَذْفِ وَإِقْرَارُهُ بِسَبَبِ الْقِصَاصِ وَسَائِرُ الْحُقُوقِ مِنْ الْمَالِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ وَغَيْرِهَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهَا لَا تَقْبَلُ الرُّجُوعَ وَلِذَا إذَا أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ وَلَمْ يُقْطَعْ لِسُكْرِهِ أُخِذَ مِنْهُ الْمَالُ وَصَارَ ضَامِنًا لَهُ، وَأَمَّا ارْتِدَادُهُ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ فَلَا تَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ مِنْ بَابِ الِاعْتِقَادِ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعَ السُّكْرِ قَالَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ هَذَا فِي الْحُكْمِ أَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ كَانَ فِي الْوَاقِعِ قَصَدَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ ذَاكِرًا لِمَعْنَاهُ كَفَرَ وَإِلَّا فَلَا وَفِي التَّبْيِينِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ارْتِدَادُهُ كُفْرٌ ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَةِ.

وَأَمَّا إذَا أَسْلَمَ يَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ كَإِسْلَامِ الْمُكْرَهِ اهـ.

وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ أَنَّ إسْلَامَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ وَقَيَّدَ بِالْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ شَهِدُوا عَلَيْهِ بِالشُّرْبِ وَهُوَ سَكْرَانُ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ وَكَذَا بِالزِّنَا وَهُوَ سَكْرَانُ كَمَا إذَا زَنَى وَهُوَ سَكْرَانُ وَكَذَا بِالسَّرِقَةِ وَهُوَ سَكْرَانُ وَيُحَدُّ بَعْدَ الصَّحْوِ وَيُقْطَعُ؛ لِأَنَّ الْإِنْشَاءَ لَا يَحْتَمِلُ الْكَذِبَ فَيُعْتَبَرُ فِعْلُهُ فِيمَا يَنْفُذُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَاعْتِقَادٍ وَهَذَا كُلُّهُ إذَا سَكِرَ مِنْ الْمُحَرَّمِ، وَأَمَّا إذَا سَكِرَ بِالْمُبَاحِ كَشُرْبِ الْمُضْطَرِّ، وَالْمُكْرَهِ، وَالْمُتَّخَذُ مِنْ الْحُبُوبِ، وَالْعَسَلِ، وَالدَّوَاءِ، وَالْبَنْجِ فَلَا تُعْتَبَرُ تَصَرُّفَاتُهُ كُلُّهَا؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِغْمَاءِ لِعَدَمِ الْجِنَايَةِ وَفِي الْخَانِيَّةِ، وَإِنْ زَالَ عَقْلُهُ بِالْبَنْجِ فَطَلَّقَ إنْ كَانَ حِينَ تَنَاوُلِهِ الْبَنْجَ عَلِمَ أَنَّهُ بَنْجٌ يَقَعْ الطَّلَاقُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ لَا يَقَعْ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَقَعُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ اهـ.

وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَنْجَ حَلَالٌ مُطْلَقًا عَلَى الصَّحِيحِ وَقَوْلُهُ بِأَنْ زَالَ عَقْلُهُ بَيَانُ حَدِّ السُّكْرِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ السَّكْرَانُ مِنْ النَّبِيذِ الَّذِي يُحَدُّ هُوَ الَّذِي لَا يَعْقِلُ مَنْطِقًا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا وَلَا يَعْقِلُ الرَّجُلَ مِنْ الْمَرْأَةِ وَلَا الْأَرْضَ مِنْ السَّمَاءِ وَقَالَا: هُوَ الَّذِي يَهْذِي وَيَخْتَلِطُ كَلَامُهُ غَالِبًا، فَإِنْ كَانَ نِصْفُهُ مُسْتَقِيمًا فَلَيْسَ بِسَكْرَانَ؛ لِأَنَّهُ السَّكْرَانُ فِي الْعُرْفِ وَإِلَيْهِ مَالَ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ وَلَهُ أَنْ يُؤْخَذَ فِي أَسْبَابِ الْحُدُودِ بِأَقْصَاهَا دَرْءًا لِلْحَدِّ وَنِهَايَةُ السَّكْرَانِ يَغْلِبُ السُّرُورُ عَلَى الْعَقْلِ فَيَسْلُبُهُ الْمَيْزَ بَيْنَ شَيْءٍ وَشَيْءٍ وَمَا دُونَ ذَلِكَ لَا يَعْرَى عَنْ شُبْهَةِ الصَّحْوِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْقَدَحِ الْمُسْكِرِ فِي حَقِّ الْحُرْمَةِ مَا قَالَاهُ بِالْإِجْمَاعِ أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ وَفِي الْخَانِيَّةِ وَبِقَوْلِهِمَا أَفْتَى الْمَشَايِخُ وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ وَاخْتَارُوهُ لِلْفَتْوَى لِضَعْفِ دَلِيلِ الْإِمَامِ وَاسْتَدَلَّ لَهُ فِي الظَّهِيرِيَّةِ بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ مَنْ بَاتَ سَكْرَانًا بَاتَ عَرُوسًا لِلشَّيْطَانِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَغْتَسِلَ إذَا أَصْبَحَ فَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ السَّكْرَانَ مَنْ لَا يَحُسُّ بِشَيْءٍ مِمَّا يُصْنَعُ بِهِ وَحَكَى أَنَّ أَئِمَّةَ بَلْخٍ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يُسْتَقْرَأُ سُورَةً مِنْ الْقُرْآنِ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَقْرَأَهَا فَلَيْسَ بِسَكْرَانَ

ــ

[منحة الخالق]

(قَوْلُهُ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَنْجَ حَلَالٌ مُطْلَقًا) أَيْ سَوَاءٌ عَلِمَ بِهِ أَوْ لَا وَلَمْ يَذْكُرْ مَا إذَا سَكِرَ مِنْهُ وَفِي التَّتَارْخَانِيَّة وَلَوْ سَكِرَ مِنْ نَبِيذِ الْعَسَلِ أَوْ الذُّرَةِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ أَوْ مِنْ الْبَنْجِ أَوْ لَبَنِ الرِّمَاكِ لَمْ يُحَدَّ ثُمَّ قَالَ وَفِي جَامِعِ الْجَوَامِعِ وَجَدْت بِخَطِّ شَيْخِي فِي زَمَانِنَا الْفَتْوَى عَلَى أَنَّ مَنْ سَكِرَ مِنْ الْبَنْجِ يُحَدَّ اهـ.

وَمِثْلُهُ فِي الْقُهُسْتَانِيِّ عَنْ النِّهَايَةِ وَفِي الْعِنَايَةِ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلْإِمَامِ الْمَحْبُوبِيِّ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّكْرَ الْحَاصِلَ مِنْ الْبَنْجِ حَرَامٌ وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَنْجَ مُبَاحٌ وَلَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا. اهـ. .

وَفِي حَاشِيَةِ أَبِي السُّعُودِ بَعْدَ نَقْلِهِ عَنْ الْمُؤَلِّفِ تَصْحِيحُ الْحِلِّ وَيُخَالِفُهُ مَا جَزَمَ بِهِ فِي التَّنْوِيرِ مِنْ كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ بِحُرْمَتِهِ، وَنَصُّهُ: وَيَحْرُمُ أَكْلُ الْبَنْجِ وَالْحَشِيشَةِ وَالْأَفْيُونِ لَكِنْ دُونَ حُرْمَةِ الْخَمْرِ. اهـ.

قُلْت التَّوْفِيقُ بَيْنَهُمَا مُمْكِنٌ بِمَا نَقَلَهُ شَيْخُنَا عَنْ الْقُهُسْتَانِيِّ آخِرَ كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ وَنَصُّهُ أَنَّ الْبَنْجَ أَحَدُ نَوْعَيْ الْقَتِّ حَرَامٌ؛ لِأَنَّهُ يُزِيلُ الْعَقْلَ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى بِخِلَافِ نَوْعٍ آخَرَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ مُبَاحٌ كَالْأَفْرِيتِ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ اخْتَلَّ الْعَقْلُ لَكِنَّهُ لَا يُزِيلُ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ مَا فِي الْهِدَايَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ إبَاحَةِ الْبَنْجِ كَمَا فِي شَرْحِ اللُّبَابِ (قَوْلُهُ: وَمَا دُونَ ذَلِكَ لَا يَعْرَى عَنْ شُبْهَةِ الصَّحْوِ) أَيْ فَيَنْدَرِئُ بِهِ الْحَدُّ قَالَ فِي الْعِنَايَةِ وَلِهَذَا وَافَقَهُمَا فِي السُّكْرِ الَّذِي يَحْرُمُ عِنْدَهُ الْقَدَحُ الْمُسْكِرُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ هُوَ اخْتِلَاطُ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ النِّهَايَةِ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ يُوجَدُ بِالِاخْتِلَاطِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْقَدَحِ السُّكْرُ فِي حَقِّ الْحُرْمَةِ مَا قَالَاهُ بِالْإِجْمَاعِ أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اعْتَقَدَ حُرْمَةَ الْقَدَحِ الَّذِي يَلْزَمُ الْهَذَيَانُ وَاخْتِلَاطُ الْكَلَامِ عِنْدَهُ يَمْتَنِعُ عَنْهُ فَلَمَّا امْتَنَعَ وَهُوَ الْأَدْنَى فِي حَدِّ السُّكْرِ كَانَ مُمْتَنِعًا عَنْ الْأَعْلَى فِيهِ وَهُوَ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.

<<  <  ج: ص:  >  >>