الْمَكْفُولَ بِهِ مَالٌ مُطْلَقٌ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ بِالْأَمْرِ وَعَدَمِهِ لِأَنَّهُمَا يَتَغَايَرَانِ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِالْأَمْرِ تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً وَمُعَاوَضَةٌ انْتِهَاءً وَبِغَيْرِ أَمْرٍ تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً فَبِدَعْوَاهُ أَحَدِهِمَا لَا يُقْضَى لَهُ بِالْآخَرِ، وَإِذَا قُضِيَ بِهَا بِالْأَمْرِ يَثْبُتُ أَمْرُهُ وَهُوَ يَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِالْمَالِ فَيَصِيرُ مَقْضِيًّا وَالْكَفَالَةُ بِأَمْرٍ لَا تَمَسُّ جَانِبَهُ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَمِدُ صِحَّتُهَا قِيَامَ الدَّيْنِ فِي زَعْمِ الْكَفِيلِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَيْهِ فِي الْكَفَالَةِ بِأَمْرٍ يَرْجِعُ الْكَفِيلُ بِمَا أَدَّى عَلَى الْآمِرِ، وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَرْجِعُ لِأَنَّهُ لَمَّا أَنْكَرَ فَقَدْ ظَلَمَ فِي زَعْمِهِ فَلَا يَظْلِمُ غَيْرَهُ وَنَحْنُ نَقُولُ صَارَ مُكَذِّبًا شَرْعًا فَبَطَلَ مَا زَعَمَهُ قَيَّدَ بِقَوْلِهِ لَهُ عَلَى زَيْدٍ كَذَا وَإِنَّ هَذَا كَفِيلٌ عَنْهُ يَعْنِي بِهَذَا الْمِقْدَارِ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ لَوْ كَانَتْ مُطْلَقَةً نَحْوَ أَنْ يَقُولَ كَفَلْت بِمَالِك عَلَى فُلَانٍ فَإِنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْكَفِيلِ قَضَاءٌ عَلَى الْأَصِيلِ سَوَاءٌ كَانَتْ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ؛ لِأَنَّ الطَّالِبَ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى إثْبَاتِ حَقِّهِ عَلَى الْكَفِيلِ إلَّا بَعْدَ إثْبَاتِهِ عَلَى الْأَصِيلِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْكَفِيلِ أَنَّهُ لَيْسَ لِلطَّالِبِ عَلَى الْأَصِيلِ شَيْءٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ الْكَفِيلُ خَصْمًا عَنْهُ وَإِنْ كَانَ غَائِبًا وَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا ادَّعَى عَلَى الْحَاضِرِ حَقًّا لَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ إلَّا بِإِثْبَاتِهِ عَلَى الْغَائِبِ قَالَ مَشَايِخُنَا وَهَذَا طَرِيقُ مَنْ أَرَادَ إثْبَاتَ الدَّيْنِ عَلَى الْغَائِبِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْكَفِيلِ وَالْغَائِبِ اتِّصَالٌ.
وَكَذَا إذَا خَافَ الطَّالِبُ مَوْتَ الشَّاهِدِ يَتَوَاضَعُ مَعَ رَجُلٍ وَيَدَّعِي عَلَيْهِ مِثْلَ هَذِهِ الْكَفَالَةِ فَيُقِرُّ الرَّجُلُ بِالْكَفَالَةِ وَيُنْكِرُ الدَّيْنَ فَيُقِيمُ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى الدَّيْنِ فَيُقْضَى بِهِ عَلَى الْكَفِيلِ وَالْأَصِيلِ ثُمَّ يُبَرِّئُ الْكَفِيلَ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ مُطْلَقَةٌ عَنْ الْمِقْدَارِ وَمُقَيَّدَةٌ بِهِ وَكُلٌّ عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا بِالْأَمْرِ أَوْ بِعَدَمِهِ فَلَا تَفْصِيلَ فِي الْمُطْلَقَةِ وَهِيَ الْحِيلَةُ فِي الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ وَالتَّفْصِيلُ فِي الْمُقَيَّدَةِ وَلَا تَصْلُحُ لِلْحِيلَةِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ التَّعَدِّي إلَى الْغَائِبِ كَوْنُهَا بِأَمْرِهِ وَالْحَوَالَةُ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ، وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَنَّ الْكَفَالَةَ الْمُطْلَقَةَ وَهِيَ الْحِيلَةُ فِي الْإِثْبَاتِ عَلَى الْغَائِبِ قَالَ وَلَيْسَ هُوَ الْقَضَاءُ عَلَى الْمُسَخَّرِ لِأَنَّ الْمُدَّعِي صَادِقٌ فِي دَعْوَاهُ عَلَى الْكَفِيلِ ثُمَّ يُبَرِّئُ الْمُدَّعِي الْكَفِيلَ عَنْ الْمَالِ وَالْكَفَالَةِ وَيَبْقَى الْمَالُ لَهُ عَلَى الْغَائِبِ. اهـ.
وَمِنْ هُنَا عُلِمَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ فِيمَا يَأْتِي فِي شَرْحِ قَوْلِهِ وَلَا يُقْضَى عَلَى غَائِبٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَا يَدَّعِي عَلَى الْغَائِبِ سَبَبًا لِمَا يَدَّعِي عَلَى الْحَاضِرِ أَنَّ مِنْ الصُّوَرِ الْكَفَالَةُ الْمُقَيَّدَةُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إلَى آخِرِهِ سَهْوٌ ظَاهِرٌ وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْمُطْلَقَةِ وَسَيَأْتِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي مَحَلِّهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ (وَكَفَالَتُهُ بِالدَّرَكِ تَسْلِيمٌ) لِأَنَّ الْكَفَالَةَ لَوْ كَانَتْ مَشْرُوطَةً فِي الْبَيْعِ فَتَمَامُهُ بِقَبُولِهِ ثُمَّ بِالدَّعْوَى يَسْعَى فِي نَقْضِ مَا تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ
ــ
[منحة الخالق]
عَلَيْهِ إلَى الْحُكْمِ عَلَى الْأَصِيلِ الْغَائِبِ فَيَكُونُ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ ضِمْنًا لَا قَصْدًا فَقَدْ ظَهَرَ مَا قَالَهُ الْوَانِيُّ مِنْ أَنَّ الْفَرْقَ وَاضِحٌ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَإِنَّمَا بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ لِمَا وَقَعَ فَهْمُ هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ الْإِضْرَابِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(قَوْلُهُ: وَنَحْنُ نَقُولُ صَارَ مُكَذِّبًا شَرْعًا فَبَطَلَ مَا زَعَمَهُ) اعْلَمْ أَنَّ دَعْوَى الْخَصْمِ فِي الْأُمُورِ الَّتِي تَثْبُتُ أَوَّلًا بِالْبَيِّنَةِ الَّتِي كَذَّبَهُ الشَّرْعُ بِذَلِكَ صَحِيحَةٌ لَا يُعْتَبَرُ فِيهَا التَّنَاقُضُ لِتَكْذِيبِ الشَّرْعِ كَمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، وَأَمَّا فِي الْأُمُورِ الَّتِي يَحْتَاجُ فِيهَا ثَانِيًا إلَى الدَّعْوَى وَإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فَلَيْسَتْ بِصَحِيحَةٍ كَمَا لَوْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْهُ أَمَتَهُ هَذِهِ ثُمَّ قَالَ لَسْت أَنَا بَائِعُك قَطُّ فَبَرْهَنَ عَلَيْهِ الْمُدَّعِي فَوَجَدَ عَيْبًا فَبَرْهَنَ الْبَائِعُ أَنَّهُ بَاعَهُ وَبَرِئَ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ الْبَرَاءَةَ لِلتَّنَاقُضِ، وَوَجْهُ هَذَا أَنَّ الْإِنْكَارَ مَعْدُومٌ مِنْ وَجْهٍ مَوْجُودٌ مِنْ وَجْهٍ فَيُعْمَلُ بِالْوَجْهَيْنِ فَاعْتُبِرَ عَدَمُهُ فِيمَا لَا يَحْتَاجُ إلَى الدَّعْوَى ثَانِيًا وَاعْتُبِرَ وُجُودُهُ فِيمَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا فَلْيَكُنْ هَذَا فِي ذِكْرٍ مِنْك فَإِنَّهُ كَثِيرُ النَّفْعِ، كَذَا فِي الْحَوَاشِي الْيَعْقُوبِيَّةِ. (قَوْلُهُ: وَالتَّفْصِيلُ فِي الْمُقَيَّدَةِ إلَخْ) يَعْنِي أَنَّهَا تَصْلُحُ لِلْحِيلَةِ لَوْ بِالْأَمْرِ وَإِلَّا فَلَا قَالَ فِي الْخَانِيَّةِ بَعْدَ مَا نَقَلَهُ الْمُؤَلِّفُ عَنْهَا، وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّ لَهُ عَلَى الْغَائِبِ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَأَنَّ هَذَا الرَّجُلُ كَفَلَ لِي عَنْ الْغَائِبِ بِالْأَلْفِ الَّذِي لِي عَلَيْهِ بِأَمْرِهِ فَهَذَا وَمَا تَقَدَّمَ سَوَاءٌ يَقْضِي عَلَى الْحَاضِرِ وَيَكُونُ ذَلِكَ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ وَلَوْ لَمْ يَقْبَلْ بِأَمْرِهِ وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ذَلِكَ فَبَرْهَنَ عَلَيْهِ يَقْضِي بِالْأَلْفِ عَلَى الْحَاضِرِ وَلَا يَكُونُ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ ادَّعَى الْكَفَالَةَ الْعَامَّةَ فَلَا تَفْصِيلَ.
(قَوْلُهُ: وَمِنْ هُنَا عُلِمَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ فِيمَا يَأْتِي إلَخْ) أَيْ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ قُبَيْلَ بَابَ التَّحْكِيمِ، ثُمَّ إنَّ الَّذِي رَايَتُهُ فِيهِ مُوَافِقٌ لِمَا هُنَا وَهَذَا نَصُّهُ لَوْ ادَّعَى عَلَى شَخْصٍ دَيْنًا عَلَى أَنَّهُ كَفِيلٌ عَنْ الْغَائِبِ بِأَمْرِهِ فَأَقَرَّ الْحَاضِرُ بِالْكَفَالَةِ وَأَنْكَرَ الدَّيْنَ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّ لَهُ عَلَى الْغَائِبِ أَلْفَ دِرْهَمٍ تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَيَثْبُتُ الْحَقُّ عَلَى الْغَائِبِ وَالْحَاضِرِ حَتَّى إذَا حَضَرَ الْغَائِبُ لَزِمَهُ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إعَادَةِ الْبَيِّنَةِ. اهـ. (قَوْلُهُ: وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْمُطْلَقَةِ) فِي الْحَصْرِ نَظَرٌ بَلْ فِي الْمُقَيَّدَةِ بِمِقْدَارٍ إذَا كَانَتْ بِالْأَمْرِ كَذَلِكَ كَمَا عَلِمْت نَعَمْ يَظْهَرُ التَّخْصِيصُ بِالْمُطْلَقَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ شُهُودٌ عَلَى كَوْنِ الْكَفَالَةِ بِالْأَمْرِ، أَمَّا إذَا كَانَ لَهُ شُهُودٌ عَلَيْهَا وَأَثْبَتَ ذَلِكَ عَلَى الْكَفِيلِ يَثْبُتُ عَلَى الْأَصِيلِ وَلَوْ كَانَتْ مُقَيَّدَةً وَكَأَنَّهُ خَصَّ الْمُطْلَقَةَ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي حِيلَةِ الْإِثْبَاتِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute