مَحَلَّ الْإِنْسَانِ مِمَّنْ يَعِزُّ عَلَيْهِ شَاهِدًا أَوْ لَا وَيُؤْنِسُهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْإِهْدَاءَ إذَا كَانَ بِلَا شَرْطٍ لِيَقْضِيَ حَاجَتَهُ عِنْدَ الْأَمِيرِ تَجُوزُ كَذَا قِيلَ وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ الْأَدَاءَ فَرْضٌ بِخِلَافِ الذَّهَابِ إلَى الْأَمِيرِ اهـ.
وَجَزَمَ فِي الْمُلْتَقَطِ بِالْقَبُولِ مُطْلَقًا وَفِي شَرْحِ مَنْظُومَةِ ابْنِ وَهْبَانَ لِلْمُصَنِّفِ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَأَشَارَ الْمُؤَلِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَى أَنَّ الشَّاهِدَ إذَا لَزِمَهُ الْأَدَاءُ بِالشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ فَلَمْ يُؤَدِّ بِلَا عُذْرٍ ظَاهِرٍ ثُمَّ أَدَّى فَإِنَّهَا لَا تُقْبَلُ ذَكَرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ لِتَمَكُّنِ التُّهْمَةِ فِيهِ إذْ يُمْكِنُ أَنَّ تَأْخِيرَهُ لِعُذْرٍ وَيُمْكِنُ أَنَّهُ لِاسْتِجْلَابِ الْأُجْرَةِ وَتَعَقَّبَهُ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ بِقَوْلِهِ وَالْوَجْهُ الْقَبُولُ وَيُحْمَلُ عَلَى الْعُذْرِ مِنْ نِسْيَانٍ ثُمَّ تَذَكُّرٍ أَوْ غَيْرِهِ اهـ.
وَإِلَى أَنَّ التَّحَمُّلَ كَالْأَدَاءِ فَيَلْزَمُ عِنْدَ خَوْفِ الضَّيَاعِ وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ لَا بَأْسَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَحَرَّزَ عَنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَتَحَمُّلِهَا، طُلِبَ مِنْهُ أَنْ يَكْتُبَ شَهَادَتَهُ أَوْ يَشْهَدَ عَلَى عَقْدٍ أَوْ طُلِبَ مِنْهُ الْأَدَاءُ إنْ كَانَ يَجِدُ غَيْرَهُ فَلَهُ الِامْتِنَاعُ وَإِلَّا لَا اهـ.
وَفِي الْمُلْتَقَطِ الْإِشْهَادُ عَلَى الْمُدَايَنَاتِ وَالْبُيُوعِ فَرْضٌ كَذَا رَوَاهُ نَصِيرٌ اهـ.
وَذَكَرَ الْإِمَامُ الرَّازِيّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ أَنَّ الْإِشْهَادَ عَلَى الْمُبَايَعَاتِ وَالْمُدَايَنَاتِ مَنْدُوبٌ إلَّا النَّزْرَ الْيَسِيرَ كَالْخُبْزِ وَالْمَاءِ وَالْبَقْلِ وَأَطْلَقَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ حَتَّى فِي الْبَقْلِ
(قَوْلُهُ وَسَتْرُهَا فِي الْحُدُودِ أَحَبُّ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلَّذِي شَهِدَ عِنْدَهُ «لَوْ سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ لَكَانَ خَيْرًا لَكَ» وَالْمُخَاطَبُ هَزَّالٌ وَالضَّمِيرُ فِي سَتَرْته لِمَاعِزٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَتَعَقَّبَ الِاسْتِدْلَالَ بِذَلِكَ فَإِنَّ مَاعِزًا أَقَرَّ بِالزِّنَا وَلَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَإِنَّمَا هَزَّالٌ أَشَارَ عَلَيْهِ بِالْإِقْرَارِ فَلَمَّا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِهَزَّالٍ ذَلِكَ قَالَ لَمْ أَدْرِ أَنَّ فِي الْأَمْرِ سَعَةً وَلِلْحَدِيثِ «مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» وَفِيمَا نُقِلَ مِنْ تَلْقِينِ الدَّرْءِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ السَّتْرِ وَأَفَادَ بِقَوْلِهِ: أَحَبُّ أَنَّ عَدَمَهُ جَائِزٌ إقَامَةً لِلْحِسِّيَّةِ لِمَا فِيهِ مِنْ إزَالَةِ الْفَسَادِ أَوْ تَقْلِيلِهِ فَكَانَ حَسَنًا وَلَا يُعَارِضُهُ قَوْله تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} [النور: ١٩] الْآيَةَ لِأَنَّ ظَاهِرَهَا أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ ذَلِكَ لِأَجْلِ إيمَانِهِمْ وَذَلِكَ صِفَةُ الْكَافِرِ وَلِأَنَّ مَقْصُودَ الشَّاهِدِ ارْتِفَاعُهَا لَا إشَاعَتُهَا وَكَذَا لَا يُعَارِضُ أَفْضَلِيَّةَ السَّتْرِ آيَةُ النَّهْيِ عَنْ كِتْمَانِهَا لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: ٢٨٢] إذْ الْحُدُودُ لَا مُدَّعِيَ فِيهَا وَرُدَّ قَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّهَا فِي الدُّيُونِ بِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا لِخُصُوصِ السَّبَبِ كَمَا ذَكَرَهُ الرَّازِيّ أَوْ لِأَنَّهُ عَامٌّ مَخْصُوصٌ بِأَحَادِيثِ السَّتْرِ وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ.
فَإِنْ قُلْتُ: كَيْفَ صَحَّ لَك الْقَوْلُ بِتَخْصِيصِ عَامِّ الْكِتَابِ بِهَذِهِ وَهِيَ أَخْبَارُ آحَادٍ وَأَيْضًا شَرْطُ التَّخْصِيصِ عِنْدَكُمْ الْمُقَارَنَةُ وَمِنْ أَيْنَ ثَبَتَ لَك ذَلِكَ قُلْتُ: هَذِهِ الْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي طَلَبِ السَّتْرِ بَلَغَتْ مَبْلَغًا لَا يَنْحَطُّ بِهَا عَنْ دَرَجَةِ الشُّهْرَةِ لِتَعَدُّدِ مُتُونِهَا مَعَ قَبُولِ الْأُمَّةِ لَهَا فَصَحَّ التَّخْصِيصُ بِهَا أَوْ هِيَ مُسْتَنَدُ الْإِجْمَاعِ عَلَى تَخْيِيرِ الشَّاهِدِ فِي الْحُدُودِ فَثُبُوتُ الْإِجْمَاعِ دَلِيلُ ثُبُوتِ الْمُخَصِّصِ.
وَأَمَّا الْمُقَارَنَةُ فَإِنَّمَا هِيَ شَرْطُ التَّخْصِيصِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَهَذَا التَّخْصِيصُ الَّذِي ادَّعَيْنَاهُ لَيْسَ بِذَلِكَ بَلْ هُوَ جَمْعٌ لِلْمُعَارَضَةِ عَلَى مَا كَتَبْنَاهُ فِي التَّعَارُضِ فِي كِتَابِ تَحْرِيرِ الْأُصُولِ مِنْ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ إذَا تَعَارَضَا بِأَنْ يُحْمَلَ عَلَى تَخْصِيصِهِ بِهِ فَإِذَا وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى ذَلِكَ تَضَمَّنَ الْحُكْمُ مِنَّا بِأَنَّهُ كَانَ مُقَارِنًا أَوْ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مُخَصِّصَاتٍ أُوَلُ كَمَا إذَا رَجَّحْنَا فِي التَّعَارُضِ الْمُحَرَّمِ عَلَى الْمُبِيحِ وَثَبَتَ صِحَّتُهَا تَضَمَّنَ حُكْمُنَا بِأَنَّ الْمُبِيحَ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى الْمُحَرَّمِ فَنَسَخَ حُكْمُ الْوُجُوبِ تَرْجِيحَ الْمُحَرَّمِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ تَقَدُّمَهُ بِعِلْمِ تَارِيخِهِ وَكَثِيرًا مَا يَعْتَرِضُ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الشَّارِحِينَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ الْمَحْكُومِ فِيهَا بِالتَّخْصِيصِ مِنْ أَصْحَابِنَا بِأَنَّ الْمُقَارَنَةَ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ فَلَا يَثْبُتُ التَّخْصِيصُ وَمُرَادُهُمْ فِي تِلْكَ الْأَمَاكِنِ مَا ذَكَرْنَا هَذَا كُلُّهُ إذَا نَظَرْنَا إلَى مُجَرَّدِ إطْلَاقِ
ــ
[منحة الخالق]
(قَوْلُهُ وَفِي شَرْحِ مَنْظُومَةِ ابْنِ وَهْبَانَ إلَخْ) أَقُولُ: قَالَ شَارِحُهَا الْعَلَّامَةُ عَبْدُ الْبَرِّ بْنُ الشِّحْنَةِ نَقْلًا عَنْ مُخْتَصَرِ الْمُحِيطِ لِلْخَبَّازِيِّ أَخْرَجَ الشُّهُودَ إلَى ضَيْعَةٍ اشْتَرَاهَا فَاسْتَأْجَرَ لَهُمْ دَوَابَّ لِيَرْكَبُوهَا إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ قُوَّةُ الْمَشْيِ وَلَا طَاقَةُ الْكَرْيِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ وَإِلَّا فَلَا فَإِنْ أَكَلَ طَعَامًا لِلْمَشْهُودِ لَهُ لَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ الْجَوَابُ فِي الرُّكُوبِ مَا قَالَ أَمَّا فِي الطَّعَامِ إنْ لَمْ يَكُنْ الْمَشْهُودُ لَهُ هَيَّأَ طَعَامَهُ لِلشَّاهِدِ بَلْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامٌ فَقَدَّمَهُ إلَيْهِمْ وَأَكَلُوهُ لَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُمْ وَإِنْ هَيَّأَ لَهُمْ طَعَامًا فَأَكَلُوهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ هَذَا إذَا فَعَلَ ذَلِكَ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَكِنَّهُ جَمَعَ النَّاسَ لِلِاسْتِشْهَادِ وَهَيَّأَ لَهُمْ طَعَامًا أَوْ بَعَثَ لَهُمْ دَوَابَّ وَأَخْرَجَهُمْ مِنْ الْمِصْرِ فَرَكِبُوا وَأَكَلُوا طَعَامَهُ اخْتَلَفُوا فِيهِ قَالَ الثَّانِي فِي الرُّكُوبِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ وَتُقْبَلُ فِي أَكْلِ الطَّعَامِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَا تُقْبَلُ فِيهِمَا وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ الثَّانِي لِجَرْيِ الْعَادَةِ بِهِ سِيَّمَا فِي الْأَنْكِحَةِ وَنَثْرِ السُّكَّرِ وَالدَّرَاهِمِ وَلَوْ كَانَ قَادِحًا فِي الشَّهَادَةِ لَمَا فَعَلُوهُ كَذَا فِي الْفَجْرِيَّةِ. اهـ.
(قَوْلُهُ وَتَعَقَّبَهُ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ بِقَوْلِهِ إلَخْ) قَالَ الْعَلَّامَةُ عَبْدُ الْبَرِّ بْنُ الشِّحْنَةِ وَعِنْدِي أَنَّ الْوَجْهَ كَمَا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ سِيَّمَا وَقَدْ فَسَدَ الزَّمَانُ وَعَلِمَ مِنْ حَالِ الشُّهُودِ التَّوَقُّفَ وَهَذَا مُطْلَقٌ عَنْ مَسَائِلِ الْفُرُوجِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مُطَّرِدٌ فِي كُلِّ حِرْفَةٍ لَا يَتَوَجَّهُ فِيهَا تَأْوِيلٌ (قَوْلُهُ وَفِي الْمُلْتَقَطِ الْإِشْهَادُ عَلَى الْمُدَايَنَاتِ وَالْبُيُوعِ فَرْضٌ) قَالَ فِي التَّتَارْخَانِيَّة عَنْ الْمُحِيطِ وَذَكَرَ فِي فَتَاوَى أَهْلِ سَمَرْقَنْدَ أَنَّ الْإِشْهَادَ عَلَى الْمُدَايَنَةِ وَالْبَيْعِ فَرْضٌ عَلَى الْعِبَادِ إلَّا إذَا كَانَ شَيْئًا حَقِيرًا لَا يَخَافُ عَلَيْهِ التَّلَفَ وَبَعْضُ الْمَشَايِخِ عَلَى أَنَّ الْإِشْهَادَ مَنْدُوبٌ وَلَيْسَ بِفَرْضٍ.