وَالنِّسَاءُ فِي شَهَادَةِ الزُّورِ سَوَاءٌ وَقَيَّدَ بِإِقْرَارِهِ لِأَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِهِ إلَّا بِإِقْرَارِهِ وَزَادَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَنْ يَشْهَدَ بِمَوْتِ وَاحِدٍ فَيَجِيءُ حَيًّا كَذَا فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ وَظَاهِرٌ أَنَّهُ يُشَهَّرُ أَيْضًا فِيهِ وَخَرَجَ مَا إذَا رُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِتُهْمَتِهِ أَوْ لِمُخَالَفَتِهِ بَيْنَ الشَّهَادَةِ وَالدَّعْوَى أَوْ بَيْنَ شَهَادَتَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يُعَزَّرُ لِأَنَّا نَدْرِي مَنْ هُوَ الْكَاذِبُ مِنْهُمْ الْمَشْهُودُ لَهُ أَوْ الشَّاهِدَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا وَقَدْ يَكْذِبُ الْمُدَّعِي لِيَنْسِبَ الشَّاهِدَ إلَى الْكَذِبِ وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالْبَيِّنَةِ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ النَّفْيِ وَالْبَيِّنَةُ حُجَّةُ الْإِثْبَاتِ فِي إقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ فَيُقْبَلُ إقْرَارُهُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ مُوجَبُهُ مِنْ الضَّمَانِ أَوْ التَّعْزِيرِ ذَكَرَهُ الشَّارِحُ وَبِهِ عُلِمَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ الزُّورِ بِالْبَيِّنَةِ وَفِي كَافِي الْحَاكِمِ وَمِنْ التَّهَاتُرِ أَنْ يَشْهَدَا أَنَّ هَذَا الشَّيْءَ لَمْ يَكُنْ لِفُلَانٍ فَهَذَا مِمَّا لَا يُقْبَلُ وَكَذَا لَوْ شَهِدَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ دَيْنٌ وَمَنْ شَهِدَ أَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ فَقَدْ شَهِدَ بِالْبَاطِلِ وَالْحَاكِمُ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ. اهـ.
وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الزُّورِ فَيُعَزَّرُ فَعَلَى هَذَا يُعَزَّرُ بِإِقْرَارِهِ أَوْ بِتَيَقُّنِ كَذِبِهِ وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ إمَّا لِنُدْرَتِهِ وَإِمَّا لِأَنَّهُ لَا مَحِيصَ لَهُ أَنْ يَقُولَ كَذَبْت أَوْ ظَنَنْتَ ذَلِكَ أَوْ سَمِعْت ذَلِكَ فَشَهِدْت وَهُمَا بِمَعْنَى كَذَبْت لِإِقْرَارِهِ بِالشَّهَادَةِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَجُعِلَ كَأَنَّهُ قَالَ: ذَلِكَ كَذَا فِي الْبِنَايَةِ وَجَعَلَ فِي إيضَاحِ الْإِصْلَاحِ نَظِيرَ مَسْأَلَةِ ظُهُورِهِ حَيًّا بَعْدَ الشَّهَادَةِ بِمَوْتِهِ أَوْ قَتْلِهِ مَا إذَا شَهِدُوا بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ فَمَضَى ثَلَاثُونَ يَوْمًا وَلَيْسَ فِي السَّمَاءِ عِلَّةٌ وَلَمْ يَرَوْا الْهِلَالَ.
وَالزُّورُ فِي اللُّغَةِ الْكَذِبُ كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ وَفِي الْقَامُوسِ الزُّورُ بِالضَّمِّ الْكَذِبُ وَالشِّرْكُ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَأَعْيَادُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالرَّئِيسُ وَمَجْلِسُ الْغِنَاءِ وَمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْقُوَّةُ وَهَذِهِ وِفَاقٌ بَيْنَ لُغَةِ الْعَرَبِ وَالْفُرْسِ وَنَهْرٌ يَصَبُّ فِي دِجْلَةَ وَالرَّأْيُ وَالْعَقْلُ وَالْبَاطِلُ إلَى آخِرِهِ وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: ٧٢] لَا يُقِيمُونَ الشَّهَادَةَ الْبَاطِلَةَ أَوْ لَا يَحْضُرُونَ مُحَاضِرَ الْكَذِبِ فَإِنَّ مُشَاهَدَةَ الْبَاطِلِ شَرِكَةٌ فِيهِ اهـ.
وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ الشَّهَادَةُ الْبَاطِلَةُ عَمْدًا وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ وَلَوْ قَالَ: غَلِطْت أَوْ ظَنَنْت ذَلِكَ قِيلَ: هُمَا بِمَعْنَى كَذَبْت لِإِقْرَارِهِ بِالشَّهَادَةِ بِغَيْرِ عِلْمٍ اهـ.
وَيُخَالِفُهُ مَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ فَإِنَّهُ جَعَلَهُمَا كَنَسِيتُ فَلَا تَعْزِيرَ وَهُوَ الظَّاهِرُ وَالتَّشْهِيرُ فِي اللُّغَةِ مِنْ شَهَّرَهُ بِالتَّشْدِيدِ رَفَعَهُ عَلَى النَّاسِ كَمَا فِي الْقَامُوسِ أَوْ أَبْرَزَهُ كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ كَمَا فِي الْهِدَايَةِ مَا نُقِلَ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ كَانَ يَبْعَثُهُ إلَى سُوقِهِ إنْ كَانَ سُوقِيًّا وَإِلَى قَوْمِهِ إنْ كَانَ غَيْرَ سُوقِيٍّ بَعْدَ الْعَصْرِ أَجْمَعَ مَا كَانُوا أَوْ يَقُولُ: إنَّ شُرَيْحًا يُقْرِئُكُمْ السَّلَامَ وَيَقُولُ: إنَّا وَجَدْنَا هَذَا شَاهِدَ الزُّورِ فَاحْذَرُوهُ وَحَذِّرُوهُ النَّاسَ اهـ.
وَبَعْثُهُ مَعَ أَعْوَانِهِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَاشِيًا أَوْ رَاكِبًا وَلَوْ عَلَى بَقَرَةٍ كَمَا يُفْعَلُ الْآنَ وَأَمَّا التَّسْخِيمُ فَقَالَ فِي الْمِصْبَاحِ السُّخَامُ وَزَانُ غُرَابٍ سَوَادُ الْقِدْرِ وَسَخَّمَ الرَّجُلُ وَجْهَهُ سَوَّدَهُ بِالسُّخَامِ وَسَخَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ كِنَايَةٌ عَنْ الْمَقْتِ وَالْغَضَبِ اهـ.
وَقَدَّمْنَا فِي دَلِيلِهِمَا أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَخَّمَ وَجَّهَهُ وَأَنَّ الْإِمَامَ حَمَلَهُ عَلَى السِّيَاسَةِ وَهُوَ تَأْوِيلُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَأَوَّلَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ بِالتَّخْجِيلِ بِالتَّفْضِيحِ وَالتَّشْهِيرِ فَإِنَّ الْخَجَلَ يُسَمَّى سَوَادًا مَجَازًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} [النحل: ٥٨] كَذَا فِي الْبِنَايَةِ وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يُسَخِّمَ وَجْهَهُ إذَا رَآهُ سِيَاسَةً وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ مَعْزِيًّا إلَى الْمُغْنِي وَلَا يُسَخِّمُ وَجْهَهُ بِالْخَاءِ وَالْحَاءِ وَإِنَّمَا فَسَّرَ قَوْلَهُ لَا يُعَزَّرُ بِلَا يُضْرَبُ لِأَنَّ التَّشْهِيرَ تَعْزِيرٌ.
وَالْحَاصِلُ الِاتِّفَاقُ عَلَى تَعْزِيرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ اكْتَفَى بِتَشْهِيرِ حَالِهِ فِي الْأَسْوَاقِ وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ أَشَدَّ مِنْ ضَرْبِهِ خُفْيَةً وَهُمَا أَضَافَا إلَى ذَلِكَ الضَّرْبَ كَمَا فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ وَأَطْلَقَ فِي تَشْهِيرِهِ فَشَمَلَ الْأَحْوَالَ كُلَّهَا وَقَيَّدَهُ الْإِمَامُ الْحَاكِمُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْكَاتِبُ بِأَنْ لَا يَعْلَمَ رُجُوعَهُ بِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ أَمَّا إنْ رَجَعَ تَائِبًا نَادِمًا لَمْ يُعَزَّرْ إجْمَاعًا وَإِنْ رَجَعَ مُصِرًّا عَلَى مَا كَانَ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ إجْمَاعًا أَيْ يُضْرَبُ وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَنَّ التَّشْهِيرَ قَوْلُهُمَا أَيْضًا فَهُمَا يَقُولَانِ بِالتَّشْهِيرِ وَالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ وَالْكُلُّ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي وَاخْتَلَفُوا فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ إذَا تَابَ قَالُوا: إنْ كَانَ
ــ
[منحة الخالق]
(قَوْلُهُ وَقَيَّدَ بِإِقْرَارِهِ إلَخْ) قَالَ الرَّمْلِيُّ: الَّذِي يَقْتَضِيهِ التَّحْقِيقُ مَا سَيَأْتِي أَنَّهُ يُحْكَمُ بِهِ فِي كُلِّ مَا يُتَيَقَّنُ بِهِ كَذِبُهُ تَأَمَّلْ (قَوْلُهُ وَزَادَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ إلَخْ) قَالَ الرَّمْلِيُّ: قَدْ جَوَّزُوا الشَّهَادَةَ بِالْمَوْتِ لِمَنْ سَمِعَ مِنْ ثِقَةٍ مَوْتَهُ إذَا أَخْبَرَهُ بِهِ فَكَيْفَ يُحْكَمُ بِهِ مَعَهُ وَقَدْ يُقَالُ: لَمَّا جَزَمَ بِالشَّهَادَةِ بِالْمَوْتِ وَظَهَرَ حَيًّا قُطِعَ بِكَذِبِهِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجْزِمَ بَلْ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي فُلَانٌ أَوْ سَمِعْت مِنْ النَّاسِ أَوْ اُشْتُهِرَ عِنْدِي ذَلِكَ وَنَحْوَهُ فَفِي مِثْلِ ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُحْكَمَ بِهِ فَلَا يُشَهَّرُ وَلَا يُعَزَّرُ تَأَمَّلْ (قَوْلُهُ وَبِهِ عُلِمَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ الزُّورِ بِالْبَيِّنَةِ إلَخْ) قَالَ الرَّمْلِيُّ: قَالَ فِي فُصُولِ الْعِمَادِيِّ شَهِدَا أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَقَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا وَأَمَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِدَفْعِ الْمَالِ وَهُوَ الْأَلْفُ إلَى الْمُدَّعِي ثُمَّ أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْبَرَاءَةِ فَإِنَّ الشَّاهِدَيْنِ يَضْمَنَانِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ فِي تَضْمِينِ الْمُدَّعِي أَوْ الشَّاهِدَيْنِ لِأَنَّهُمَا حَقَّقَا عَلَيْهِ إيجَابَ الْمَالِ فِي الْحَالِ فَإِذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْبَرَاءَةِ فَقَدْ ظَهَرَ كَذِبُهُمَا فَصَارَا ضَامِنَيْنِ فَغَرِمَا. اهـ.
وَظَاهِرُهُ أَنَّ الشَّاهِدَ يَكُونُ شَاهِدَ زُورٍ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ لِظُهُورِ الْكَذِبِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَالِ لَا إلَى التَّعْزِيرِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ذَكَرَهُ الْغَزِّيِّ (قَوْلُهُ وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يُسَخِّمَ وَجْهَهُ إذَا رَآهُ سِيَاسَةً) قَدَّمَ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ أَنَّ الْقَاضِيَ لَيْسَ لَهُ الْحُكْمُ بِالسِّيَاسَةِ بَلْ الْحُكْمُ بِهَا لِلْإِمَامِ وَلَيْسَ فِيمَا ذَكَرَهُ هُنَا دَلِيلٌ عَلَيْهِ بَلْ مَا قَدَّمَهُ مِنْ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَعَلَهُ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ قَالَهُ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ