كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ مُخَالِفَةٌ لِمَا اقْتَضَى عَقْدُ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَاهَا فَكُّ حَجْرِ الْيَدِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِمْدَادِ وَالِاخْتِصَاصِ بِنَفْسِهِ وَمَنَافِعِ نَفْسِهِ وَاكْتِسَابِهِ وَأَنْ لَا يَتَحَكَّمَ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَيُحَصِّلَ الْمَالَ بِأَيِّ وَجْهٍ شَاءَ فَكَانَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ بَاطِلَةً وَالسَّفَرُ مَظِنَّةَ تَحْصِيلِ الْمَالِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: ٢٠] .
وَالْكِتَابَةُ لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ كَمَا تَقَدَّمَ إلَّا إذَا كَانَ دَاخِلًا فِي صُلْبِ الْعَقْدِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِي الْبَدَلِ مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِطَ خِدْمَتَهُ أَوْ مُكَاتَبَتَهُ عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ تُشْبِهُ الْبَيْعَ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ قَبْلَ أَدَاءِ الْبَدَلِ فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ وَتُشْبِهُ النِّكَاحَ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّهَا مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ فِي حَقِّ الْمَوْلَى وَمُبَادَلَةَ مَالٍ بِغَيْرِ مَالٍ فِي حَقِّ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ فَلَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ بِالشُّرُوطِ إذْ لَمْ يَكُنْ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ كَمَا هُنَا قَالَ فِي الْعَتَّابِيَّةِ وَالتَّمَكُّنُ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ هُوَ أَنْ يَدْخُلَ فِي أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ وَاَلَّذِي لَيْسَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ هُوَ الَّذِي لَيْسَ فِي بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَلَا فِيمَا يُقَابِلُهُ، وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّ قَوْلَهُ وَلَا فِيمَا يُقَابِلُهُ مَمْنُوعٌ فَإِنَّ مُقَابَلَةَ فَكِّ الْحَجْرِ وَحُرْمَةَ الْمَنْعِ مِنْ الْخُرُوجِ تَخْصِيصٌ لِلْفَكِّ وَالْحُرِّيَّةِ فَتَأَمَّلْ أَقُولُ: لَيْسَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْمَنْعِ مِنْ الْخُرُوجِ تَخْصِيصًا لِلْفَكِّ وَالْحُرِّيَّةِ لَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ دَاخِلًا فِيهَا فَإِنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ قَدْ يَكُونُ بِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْهُ أَخَصَّ مِنْهُ كَمَا إذَا عَرَّفْنَا الْإِنْسَانَ بِالْحَيَوَانِ الضَّاحِكِ فَتَأَمَّلْ اهـ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَتَزْوِيجُ أَمَتِهِ) يَعْنِي لِلْمُكَاتِبِ أَنْ يُزَوِّجَ الْأَمَةَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الِاكْتِسَابِ فَيَمْلِكُهُ ضَرُورَةً بِخِلَافِ تَزْوِيجِ الْمُكَاتَبَةِ نَفْسَهَا حَيْثُ لَا يَجُوزُ لَهَا وَإِنْ كَانَ فِيهِ اكْتِسَابٌ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى بَاقٍ فِيهَا فَمَنَعَهَا مِنْ الِاسْتِبْدَادِ بِنَفْسِهَا وَفِيهِ تَعَيُّبُهَا وَرُبَّمَا يَعْجَزُ فَيَبْقَى هَذَا الْعَيْبُ فَيَكُونُ عَلَى الْمَوْلَى ضَرَرٌ وَلَيْسَ مَقْصُودَهَا بِتَزْوِيجِ نَفْسِهَا الْمَالُ وَإِنَّمَا هُوَ التَّحْصِينُ وَالْإِعْفَافُ بِخِلَافِ تَزْوِيجِ أَمَتِهَا فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ كَسْبُ الْمَالِ فَيَجُوزُ لَهَا كَمَا يَجُوزُ لِلْأَبِ وَالْوَصِيِّ بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَالْمُضَارِبِ وَالشَّرِيكِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ إلَّا مَا يَكُونُ مِنْ بَابِ التِّجَارَةِ وَالتَّزْوِيجُ لَيْسَ مِنْهَا فَلَا يَمْلِكُونَهُ وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ تَزْوِيجِ الْمُكَاتَبَةِ نَفْسَهَا حَيْثُ لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ اكْتِسَابُ الْمَهْرِ وَدَفْعُ النَّفَقَةِ كَمَا فِي تَزْوِيجِ الْمُكَاتِبِ أَمَةَ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي تَزْوِيجِ الْمُكَاتَبَةِ نَفْسَهَا مُرَكَّبَةٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ فَتَأَمَّلْ.
قَيَّدَ بِالْأَمَةِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُزَوِّجَ نَفْسَهُ وَوَلَدَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ وَلَا فِيهِ اكْتِسَابُ مَالٍ، بَلْ فِيهِ شَغْلُ رَقَبَتِهِ بِالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَفِي الْمُحِيطِ زَوَّجَ عَبْدَهُ امْرَأَةً فَأَعْتَقَ فَأَجَازَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَقْدَ لَا مُجِيزَ لَهُ حَالَ وُقُوعِهِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ تُوجِبُ فَكَّ الْحَجْرِ فِي الِاكْتِسَابِ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْهَا بِخِلَافِ مَا لَوْ كَفَلَ مَالًا، ثُمَّ أَعْتَقَ نَفَذَتْ كَفَالَتُهُ، وَكَذَا لَوْ وَكَّلَ فَعَتَقَ جَازَ، وَكَذَا لَوْ أَوْصَى لِعَبْدٍ فَأَعْتَقَ فَأَجَازَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ لَهَا مُجِيزٌ حَالَ وُقُوعِهَا وَإِنَّمَا يُمْنَعُ ظُهُورُهَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ فَسَقَطَ حَقُّ الْغَيْرِ بِالْعِتْقِ فَظَهَرَ النَّفَاذُ مُطْلَقًا وَلَا تَجُوزُ هِبَةُ الْمُكَاتَبِ وَصَدَقَتُهُ وَوَصِيَّتُهُ وَكَفَالَتُهُ فِي الْحَالِ، وَلَوْ أَعْتَقَ تُرَدُّ لَهُ الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ؛ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ فَاسِدَةً، وَلَوْ دَفَعَ مُضَارَبَةً أَوْ أَخَذَ مَالًا مُضَارَبَةً جَازَ وَيَجُوزُ لَهُ شَرِكَةُ الْعَنَانِ لَا الْمُفَاوَضَةِ وَيَجُوزُ إقْرَارُ الْمُكَاتَبِ بِالدَّيْنِ وَالْعَيْنِ وَالِاسْتِيفَاءُ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِلتُّجَّارِ مِنْهُ، وَلَوْ أَقَرَّ الْمُكَاتَبُ عَلَى وَلَدِهِ الْمَوْلُودِ فِي الْكِتَابَةِ بِجِنَايَةٍ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ عَلَى غَيْرِهِ فَإِنْ مَاتَ الْوَلَدُ وَتَرَكَ مَالًا كَانَ ذَلِكَ لِأَبِيهِ وَأُخِّرَ إقْرَارُهُ وَصَارَ هُوَ الْخَصْمُ فِي الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ الْمُقَرُّ لَهُ فِي حَقِّهِ بِإِقْرَارِهِ، وَكَذَا لَوْ أَقَرَّ عَلَى وَلَدِهِ بِدَيْنٍ لَمْ يَجُزْ فَإِنْ اكْتَسَبَ الْوَلَدُ مَالًا وَأَخَذَهُ الْأَب نَفَذَ إقْرَارُهُ عَلَيْهِ فِي الْمَالِ مُكَاتَبٌ أَوْ مَأْذُونٌ فِي يَدِهِ أَمَةٌ ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهَا أُمُّ وَلَدِهِ أَوْ مُكَاتَبَتُهُ فَصَدَّقَهُ الْمُكَاتَبُ أَوْ الْمَأْذُونُ فِيهِ جَازَ وَيَدْفَعُهَا إلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَعَهَا وَلَدٌ دَفَعَهُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ الْوَدِيعَةِ لِغَيْرِهِ يَصِحُّ اهـ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَكِتَابَةُ عَبْدِهِ) يَعْنِي يَمْلِكُ الْمُكَاتَبُ أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَهُ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ عَقْدُ اكْتِسَابٍ لِلْمَالِ فَيَمْلِكُهَا كَمَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ، وَقَدْ يَكُونُ الْكِتَابَةُ أَنْفَعَ مِنْ الْبَيْعِ إذْ الْبَيْعُ يُزِيلُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ وَالْكِتَابَةُ لَا تُزِيلُ إلَّا بَعْدَ وُصُولِ الْبَدَلِ فَإِذَا جَازَ الْبَيْعُ فَأَوْلَى أَنْ تَجُوزَ الْكِتَابَةُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَمْلِكُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَتَضَمَّنُ مِثْلَهُ؛ وَلِأَنَّهُ يَئُولُ إلَى الْعِتْقِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْتِقَ عَلَى مَالٍ قُلْنَا إنَّمَا مَلَكَهُ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَةَ بَيْعٌ مِنْ نَفْسِ الْعَبْدِ وَإِنَّمَا لَا يَمْلِكُ الْإِعْتَاقَ عَلَى مَالٍ وَتَعْلِيقُ الْعِتْقِ عَلَى أَدَاءِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ فِيهِ إثْبَاتَ الْحُرِّيَّةِ مَقْصُودَةٌ وَفِي الزِّيَادَاتِ رَجُلٌ مَجْهُولُ النَّسَبِ اشْتَرَى عَبْدًا فَكَاتَبَهُ فَاشْتَرَى الْمُكَاتَبُ أَمَةً فَكَاتَبَهَا، ثُمَّ أَقَرَّ الْمَوْلَى الْأَعْلَى الْمَجْهُولُ النَّسَبِ أَنَّهُ عَبْدٌ لِلْمُكَاتَبِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute