للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

؛ لِأَنَّ التَّنَاوُلَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مُبَاحٌ وَإِتْلَافَ النَّفْسِ أَوْ الْعُضْوِ بِالِامْتِنَاعِ عَنْ الْمُبَاحِ حَرَامٌ فَيَأْثَمُ إلَّا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ الْإِبَاحَةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَأْثَمُ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الْخَفَاءِ.

وَقَدْ دَخَلَهُ اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فَلَا يَأْثَمُ كَالْجَهْلِ بِالْخِطَابِ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ فِي حَقِّ مَنْ أَسْلَمَ فِيهَا، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا يَأْثَمُ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ رُخْصَةٌ إذْ الْحُرْمَةُ قَائِمَةٌ فَيَكُونُ أَخْذًا بِالْعَزِيمَةِ قُلْنَا حَالَةُ الِاضْطِرَارِ مُسْتَثْنَاةٌ فَلَا يَكُونُ الِامْتِنَاعُ عَزِيمَةً، بَلْ مَعْصِيَةً قَالَ فِي الْعِنَايَةِ فَإِنْ قِيلَ إضَافَةُ الْإِثْمِ إلَى تَرْكِ الْمُبَاحِ مِنْ بَابِ فَسَادِ الْوَضْعِ وَهُوَ فَاسِدٌ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُبَاحَ إنَّمَا يَجُوزُ تَرْكُهُ وَالْإِتْيَانُ بِهِ إذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ مُحَرَّمٌ وَهَاهُنَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مُحَرَّمٌ وَهَاهُنَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ قَتْلُ النَّفْسِ الْمُحَرَّمِ فَصَارَ التَّرْكُ حَرَامًا؛ لِأَنَّ مَا أَفْضَى إلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ اهـ.

أَقُولُ: وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْإِثْمَ لَيْسَ عَلَى تَرْكِ الْمُبَاحِ، بَلْ عَلَى تَرْكِ الْفَرْضِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ اهـ.

قَالَ فِي الْمُحِيطِ وَالْأَصْلُ أَنَّ مَنْ اُبْتُلِيَ بِبَلِيَّتَيْنِ يَخْتَارُ أَهْوَنَهُمَا وَأَيْسَرَهُمَا وَالْمَسَائِلُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ الْأَوَّلُ لَوْ أُكْرِهَ بِقَتْلٍ عَلَى أَنْ يَقْطَعَ يَدَ نَفْسِهِ فَهُوَ فِي سَعَةٍ مِنْ قَطْعِهَا؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ أَهْوَنُ مِنْ الْقَتْلِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْقَطْعَ يَقْتَصِرُ وَلَا يَسْرِي وَلِهَذَا يُبَاحُ الْقَطْعُ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ إذَا خَافَ الْهَلَاكَ عَلَى نَفْسِهِ الثَّانِي لَوْ أُكْرِهَ عَلَى قَتْلِ نَفْسِهِ لَا يُبَاحُ لَهُ الثَّالِثُ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى إلْقَاءِ نَفْسِهِ فِي النَّارِ أَوْ فِي الْمَاءِ أَوْ مِنْ سَطْحٍ إنْ كَانَ لَا يَرْجُو الْخَلَاصَ وَالنَّجَاةَ مِنْ ذَلِكَ يُبَاحُ لَهُ وَإِلَّا فَلَا وَذَكَرَ أَنَّ الْإِحْرَاقَ بِالنَّارِ أَشَدُّ مِنْ السَّيْفِ وَالرَّابِعُ عَلَى إكْرَاهِهِ بِالْقَتْلِ بِالسِّيَاطِ عَلَى قَتْلِ نَفْسِهِ بِالسَّيْفِ يُبَاحُ لَهُ الْقَتْلُ بِالسَّيْفِ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ بِالسِّيَاطِ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ بِالسَّيْفِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَعَلَى الْكُفْرِ وَإِتْلَافِ مَالِ الْمُسْلِمِ بِقَتْلٍ وَقَطْعٍ لَا بِغَيْرِهِمَا يُرَخَّصُ) يَعْنِي لَوْ أُكْرِهَ عَلَى كَلِمَةِ الْكُفْرِ وَإِتْلَافِ مَالِ إنْسَانٍ بِشَيْءٍ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى أَعْضَائِهِ كَالْقَتْلِ وَقَطْعِ الْأَطْرَافِ يُرَخَّصُ لَهُ إجْرَاءُ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى لِسَانِهِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلِحَدِيثِ «عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ حِينَ اُبْتُلِيَ بِهِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ لَهُ كَيْفَ وَجَدْت قَلْبَك قَالَ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ قَالَ فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ» أَيْ عُدْ إلَى الطُّمَأْنِينَةِ؛ وَلِأَنَّ بِهَذَا الْإِظْهَارِ أَنَّهُ لَا يُفَوِّتُ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ؛ لِأَنَّ التَّلَفُّظَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا تَدُلُّ عَلَى تَبَدُّلِ الِاعْتِقَادِ لِقِيَامِ التَّصْدِيقِ بِهِ فَرَخَّصَ لَهُ إحْيَاءً لِنَفْسِهِ وَفِي الْمُحِيطِ وَغَيْرِهِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا وَلَمْ يَخْطِرْ عَلَى بَالِهِ شَيْءٌ سِوَى مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ وَالثَّانِي أَنْ يَخْطِرَ بِبَالِهِ الْخَبَرُ بِالْكُفْرِ عَمَّا مَضَى بِالْكَذِبِ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ كَفَرَ قَطُّ فِيمَا مَضَى، وَقَالَ أَرَدْت الْخَبَرَ عَمَّا مَضَى كَاذِبًا وَلَمْ أُرِدْ كُفْرًا مُسْتَقْبَلًا فَهَذَا يُكَفَّرُ قَضَاءً وَلَا يُكَفَّرُ دِيَانَةً الثَّالِثُ أَنْ يَقُولَ لَمْ يَخْطِرْ بِبَالِي كُفْرٌ فِي الْمَاضِي وَأَرَدْت الْكُفْرَ مُسْتَقْبَلًا فَهَذَا يُكَفَّرُ قَضَاءً وَدِيَانَةً. اهـ.

وَفِي الْمُحِيطِ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ أَنَّهُ إذَا أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يُصَلِّيَ لِلصَّلِيبِ أَوْ سَجَدَ وَفِي الظَّهِيرِيَّةِ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يَسْجُدَ لِلصَّلِيبِ فَالْمَسْأَلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ الْأَوَّلُ إذَا خَطَرَ بِبَالِهِ أَنْ يُصَلِّيَ لِلَّهِ تَعَالَى لَا لِلصَّلِيبِ.

وَفِي هَذَا الْوَجْهِ لَا يُكَفَّرُ فِي الْقَضَاءِ وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى سَوَاءٌ كَانَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ أَوْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَقْبِلًا الثَّانِي أَنْ يَقُولَ لَمْ أُصَلِّ لِلَّهِ تَعَالَى وَصَلَّيْت لِلصَّلِيبِ وَفِي هَذَا يُكَفَّرُ فِي الْقَضَاءِ وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى الثَّالِثُ أَنْ يَقُولَ لَمْ يَخْطِرْ بِبَالِي وَصَلَّيْت لِلصَّلِيبِ مُكْرَهًا فِي هَذَا لَا يُكَفَّرُ فِي الْقَضَاءِ وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي الْأَصْلِ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى شَتْمِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ الْأَوَّلُ أَنْ يَقُولَ لَمْ يَخْطِرْ بِبَالِي شَيْءٌ وَشَتَمَ مُحَمَّدًا مُكْرَهًا وَفِي هَذَا لَا يُكَفَّرُ قَضَاءً وَلَا دِيَانَةً الثَّانِي أَنْ يَقُولَ خَطَرَ بِبَالِي رَجُلٌ مِنْ النَّصَارَى يُقَالُ لَهُ مُحَمَّدٌ فَشَتَمْته وَلَمْ أَشْتُمْ الرَّسُولَ فَهَذَا كَالْأَوَّلِ قَالَ الْكَرْخِيُّ أَطْلَقَ مُحَمَّدٌ فِي الْعِبَارَةِ وَحَيْثُ لَمْ يَقُلْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ شَتْمَ النَّصْرَانِيِّ دُونَ الْمُسْلِمِ فِي الْحُرْمَةِ الثَّالِثُ أَنْ يَقُولَ خَطَرَ بِبَالِي رَجُلٌ مِنْ النَّصَارَى فِيهِ فَتَرَكْته وَسَمَّيْت الرَّسُولَ وَفِي هَذَا يُكَفَّرُ قَضَاءً وَدِيَانَةً اهـ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَيُثَابُ بِالصَّبْرِ) أَيْ يَكُونُ مَأْجُورًا إنْ صَبَرَ وَلَمْ يُظْهِرْ الْكُفْرَ حَتَّى قُتِلَ؛ لِأَنَّ خُبَيْبًا صَبَرَ حَتَّى صُلِبَ وَسَمَّاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ، وَقَالَ هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ؛ وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ قَائِمَةٌ وَالِامْتِنَاعَ عَزِيمَةٌ فَإِذَا بَذْلَ نَفْسَهُ لِإِعْزَازِ الدِّينِ كَانَ شَهِيدًا وَلَا يُقَالُ الْكُفْرُ مُسْتَثْنًى فِي حَالَةِ الْإِكْرَاهِ فَكَيْفَ يَكُونُ حَرَامًا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ الِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعٌ إلَى الْعَذَابِ؛ لِأَنَّهُ الْمَذْكُورُ قَبْلَهُ دُونَ الْحُرْمَةِ بِخِلَافِ الْخَمْرِ وَأَخَوَاتِهِ فَإِنَّ الْمَذْكُورَ فِيهِ الْحُرْمَةُ فَيَنْتَفِي فِي تِلْكَ الْحَالَةِ وَهُنَا لَا تَنْتَفِي فَتَبْقَى عَلَى حَالِهَا، وَلَكِنْ لَوْ تَرَخَّصَ جَازَ وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ إجْرَاءَ كَلِمَةِ الْكُفْرِ أَيْضًا مُسْتَثْنًى بِقَوْلِهِ إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ مِنْ قَوْلِهِ مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ بَعْدَ إيمَانِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>