يُحْجَرُ عَلَيْهِ لِلْإِمَامِ مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ذُكِرَ لَهُ رَجُلٌ يَخْدَعُ فِي الْبَيْعِ فَقَالَ مَنْ بَايَعْت فَقُلْ لَا خِلَابَةَ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِهِمَا قِيلَ لَهُ اُحْجُرْ عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُ عَاقِلٌ كَامِلُ الْعَقْلِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ مُطْلَقٌ فَلَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ كَالرَّشِيدِ وَلَهُمَا قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: ٢٨٢] وَهَذَا نَصٌّ فِي إثْبَاتِ الْوِلَايَةِ عَلَى السَّفِيهِ وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ «- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَجَرَ عَلَى مُعَاذٍ فِي الْغِيَاثِيَّةِ» ، وَالْمُرَادُ بِالْفَسَادِ هُنَا السَّفَهُ وَهُوَ خِفَّةٌ تَعْتَرِي الْإِنْسَانَ فَتَحْمِلُهُ عَلَى الْعَمَلِ بِخِلَافِ مُوجَبِ الشَّرْعِ، وَالْعَقْلِ مَعَ قِيَامِ الْعَقْلِ وَقَدْ غَلَبَ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ عَلَى تَبْذِيرٍ وَإِتْلَافٍ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الشَّرْعِ، وَالْعَقْلِ. اهـ.
وَفِي الْأَصْلِ: وَالْحَجْرُ بِسَبَبِ الْفَسَادِ، وَالسَّفَهِ فَهُوَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا لِخِفَّةٍ فِي الْعَقْلِ وَكَانَ سَبَبُهُ الْقَلْبَ لَا يَهْتَدِي إلَى التَّصَرُّفَاتِ فَيَحْجُرُ عَلَيْهِ الْقَاضِي عَلَى قَوْلِهِمَا. وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ سَفِيهًا مُضَيِّعًا لِمَالِهِ أَمَّا فِي الشَّرِّ بِأَنْ يَجْمَعَ أَهْلَ الشَّرِّ، وَالْفَسَادِ فِي دَارِهِ وَيُطْعِمَهُمْ وَيَسْقِيَهُمْ وَيَصْرِفَ فِي النَّفَقَةِ وَيَفْتَحَ بَابَ الْجَائِزَةِ، وَالْعَطَاءِ عَلَيْهِمْ أَوْ فِي الْخَيْرَاتِ بِأَنَّ جَمِيعَ مَالِهِ فِي بِنَاءِ مَسْجِدٍ وَأَشْبَاهِهِ فَيَحْجُرُ الْقَاضِي عِنْدَ صَاحِبَيْهِ صِيَانَةً لِمَالِهِ وَاتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَاخْتَلَفُوا فِي الْحَجْرِ بِسَبَبِ الْفَسَادِ، وَالسَّفَهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَعِنْدَهُمَا يَثْبُتُ بِنَفْسِ السَّفَهِ وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَضَاءِ الْقَاضِي قَالَ فِي الْمُحِيطِ بِالْحَجْرِ لَيْسَ بِقَضَاءٍ بَلْ فَتْوَى لِعَدَمِ شَرَائِطِ الْقَضَاءِ وَهِيَ الدَّعْوَى، وَالْإِنْكَارُ حَتَّى لَوْ وَجَدَ الدَّعْوَى، وَالْإِنْكَارَ بِأَنْ وَهَبَ السَّفِيهُ مَالَهُ مِنْ إنْسَانٍ وَسَلَّمَ إلَيْهِ وَصَارَ فَقِيرًا تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَى مَحَارِمِهِ فَيَرْفَعُوا أَمْرَهُمْ إلَى الْقَاضِي وَأَخْبَرُوهُ بِأَنَّهُ يُفْنِي مَالَهُ سَفَهًا وَطَلَبُوا مِنْهُ الْحَجْرَ عَلَيْهِ فَالْقَاضِي يُحْضِرُ السَّفِيهَ، وَالْمَوْهُوبَ لَهُ فَادَّعَى عَلَيْهِ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ أَنَّ مَالَهُ فِي يَدِ هَذَا الرَّجُلِ فَأَمَرَهُ بِرَدِّهِ عَلَيْهِ فَقَضَى الْقَاضِي بِالرَّدِّ عَلَيْهِ يَفْسُدُ قَضَاءً. اهـ.
وَفِي التَّهْذِيبِ وَإِذَا وُجِدَ شَرْطُ الدَّعْوَى وَقَضَاءُ الْقَاضِي صَارَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ فَلَا تَنْفُذُ تَصَرُّفَاتُهُ بَعْدَ الْقَضَاءِ عِنْدَهُمَا وَالْإِمَامُ أَيْضًا اهـ.
وَفِي الْمُنْتَقَى لَوْ حَجَرَ عَلَيْهِ قَاضٍ فَرَفَعَ ذَلِكَ إلَى قَاضٍ آخَرَ وَأَطْلَقَهُ جَازَ إطْلَاقُهُ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ مِنْ الْأَوَّلِ فَتْوَى لِتَقَدُّمِ شَرْطِهِ كَمَا تَقَدَّمَ قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي فَنَفْسُ الْقَضَاءِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَلَا بُدَّ مِنْ إمْضَاءِ قَاضٍ آخَرَ حَتَّى يَلْزَمَ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ إذَا وَقَعَ فِي نَفْسِ الْقَضَاءِ لَا يَلْزَمُ وَلَا يَصِيرُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ حَتَّى يُمْضِيَهُ قَاضٍ آخَرُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ مَوْجُودًا قَبْلَ الْقَضَاءِ، فَإِنَّهُ بِالْقَضَاءِ الْأَوَّلِ وُجِدَ شَرْطُهُ فَيَكُونُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ اهـ.
قَالَ الشَّارِحُ وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا يَقُولُ بِأَنَّهُ يَصِيرُ مَحْجُورًا بِنَفْسِ السَّفَهِ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي.
وَفِي الْأَصْلِ الْحَجْرُ بِسَبَبِ السَّفَهِ يُقَارِنُ الْحَجْرَ بِالدَّيْنِ مِنْ ثَلَاثَةِ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحَجْرَ عَلَى السَّفِيهِ لِمَعْنًى فِي ذَاتِهِ أَمَّا الْحَجْرُ بِسَبَبِ الدَّيْنِ فَلِحَقِّ الْغُرَمَاءِ الثَّانِي: الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ السَّفَهِ إذَا أَعْتَقَ عَبْدًا وَوَجَبَ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ، فَإِذَا أَدَّى لَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمَوْلَى بَعْدَ زَوَالِ الْحَجْرِ، وَالْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ بِالْإِفْلَاسِ إذَا أَعْتَقَ عَبْدًا بِمَا فِي يَدِهِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ، فَإِذَا أَدَّى يَرْجِعُ بِمَا أَدَّى عَلَى الْمَوْلَى بَعْدَ زَوَالِ الْحَجْرِ. الثَّالِثُ: الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ يَزُولُ إقْرَارُهُ بَعْدَ زَوَالِ الْحَجْرِ وَكَذَا حَالُ قِيَامِ الْحَجْرِ فِيمَا يَحْدُثُ مِنْ الْمَالِ، وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِالسَّفَهِ لَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ لَا فِي حَالِ الْحَجْرِ وَلَا بَعْدَ زَوَالِ الْحَجْرِ لَا فِي الْمَالِ الْقَائِمِ وَلَا الْحَادِثِ وَإِذَا صَارَ السَّفِيهُ مُصْلِحًا لِمَالِهِ هَلْ يَزُولُ الْحَجْرُ مِنْ غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَزُولُ إلَّا بِالْقَضَاءِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَزُولُ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ.
وَفِي نَوَادِرِ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ السَّفِيهُ الْمَحْجُورُ إذَا زَوَّجَ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ أَوْ أَخَاهُ الصَّغِيرَ لَمْ يَجُزْ وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ، وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (فَإِنْ بَلَغَ غَيْرَ رَشِيدٍ لَمْ يُدْفَعْ لَهُ مَالُهُ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَنَفَذَ تَصَرُّفُهُ قَبْلَهُ وَيُدْفَعُ إلَيْهِ مَالُهُ إنْ بَلَغَ الْمُدَّةَ مُعْسِرًا) وَهَذَا عِنْدَ الْإِمَامِ وَعِنْدَهُمَا لَا يُرْفَعُ إلَيْهِ حَتَّى يُؤْنَسَ مِنْهُ الرُّشْدُ وَلَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ أَبَدًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: ٦] عَلَّقَ الدَّفْعَ بِوُجُودِ الرُّشْدِ فَلَا يَجُوزُ قَبْلَهُ وَلِلْإِمَامِ قَوْله تَعَالَى {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: ٢] ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَلِأَنَّ حَالَ الْبُلُوغِ قَدْ لَا يُفَارِقُهُ السَّفَهُ بِاعْتِبَارِ أَثَرِ الصِّبَاءِ فَقَدَّرْنَاهُ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ يَنْتَهِي لُبُّ الرَّجُلِ إذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَقَدْ قَالَ أَهْلُ الطَّبَائِعِ إذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً فَقَدْ بَلَغَ رُشْدَهُ؛ لِأَنَّهُ بَلَغَ سِنًّا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَصِيرَ فِيهِ جَدًّا؛ لِأَنَّ أَدْنَى مَا يَبْلُغُ فِيهِ الْغُلَامُ اثْنَا عَشْرَ سَنَةً فَيُولَدُ لَهُ وَلَدٌ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ ثُمَّ الْوَلَدُ يَبْلُغُ اثْنَيْ عَشْرَ سَنَةً فَيُولَدُ لَهُ وَلَدٌ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَقَدْ صَارَ بِذَلِكَ جَدًّا، وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ فِيهَا تَعْلِيقُ الشَّرْطِ، وَالتَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ لَا يُوجِبُ الْعَدَمَ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute