للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْقَدَمَيْنِ بِالتَّلَاعُبِ أَشْبَهُ مِنْهُ بِالتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ وَسَيَأْتِي أَنَّهُ يَكْفِيه وَضْعُ أُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ، وَأَنَّهُ يَصِحُّ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْجَبْهَةِ وَعَلَى الْأَنْفِ وَحْدَهُ وَبَيَانُ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ، وَبِمَا قَرَّرْنَاهُ عُلِمَ أَنَّ تَعْرِيفَ بَعْضِهِمْ السُّجُودَ بِوَضْعِ الْجَبْهَةِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ وَضْعَهَا لَيْسَ بِرُكْنٍ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْأَنْفِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنْ كَانَ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا، وَالْمُرَادُ مِنْ السُّجُودِ: السَّجْدَتَانِ فَأَصْلُهُ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَكَوْنُهُ مَثْنًى فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَهُوَ أَمْرٌ تَعَبُّدِيٌّ لَمْ يُعْقَلْ لَهُ مَعْنًى عَلَى قَوْلِ أَكْثَرِ مَشَايِخِنَا تَحْقِيقًا لِلِابْتِدَاءِ: وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ يَذْكُرُ لَهُ حِكْمَةً: فَقِيلَ: إنَّمَا كَانَ مَثْنًى تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ حَيْثُ لَمْ يَسْجُدْ فَإِنَّهُ أُمِرَ بِسَجْدَةٍ فَلَمْ يَفْعَلْ فَنَحْنُ نَسْجُدُ مَرَّتَيْنِ تَرْغِيمًا لَهُ، وَقِيلَ الْأُولَى لِامْتِثَالِ الْأَمْرِ وَالثَّانِيَةُ تَرْغِيمًا لَهُ حَيْثُ لَمْ يَسْجُدْ اسْتِكْبَارًا، وَقِيلَ: الْأُولَى لِشُكْرِ الْإِيمَانِ وَالثَّانِيَةُ لِبَقَائِهِ، وَقِيلَ: فِي الْأُولَى إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ خُلِقَ مِنْ الْأَرْضِ، وَفِي الثَّانِيَةِ إلَى أَنَّهُ يُعَادُ إلَيْهَا، وَقِيلَ: لَمَّا أُخِذَ الْمِيثَاقُ عَلَى ذُرِّيَّةِ آدَمَ أَمَرَهُمْ بِالسُّجُودِ تَصْدِيقًا لِمَا قَالُوا فَسَجَدَ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ وَبَقِيَ الْكُفَّارُ فَلَمَّا رَفَعَ الْمُسْلِمُونَ رُءُوسَهُمْ رَأَوْا الْكُفَّارَ لَمْ يَسْجُدُوا فَسَجَدُوا ثَانِيًا شُكْرًا لِلتَّوْفِيقِ كَمَا ذَكَرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ.

(قَوْلُهُ وَالْقُعُودُ الْأَخِيرُ قَدْرَ التَّشَهُّدِ) وَهِيَ فَرْضٌ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ، وَقَدْ رَوَى الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طُرُقٍ عَدِيدَةٍ عَنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِين عَلَّمَ الْأَعْرَابِيَّ الْمُسِيءَ صَلَاتَهُ أَرْكَانَ الصَّلَاةِ إلَى أَنْ قَالَ فَإِذَا رَفَعْتَ رَأْسَك مِنْ آخِرِ سَجْدَةٍ وَقَعَدْتَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُك» قَالَ الشَّيْخُ قَاسِمٌ فِي شَرْحِ الدُّرَرِ قَدْ وَرَدَتْ أَدِلَّةٌ كَثِيرَةٌ بَلَغَتْ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ عَلَى أَنَّ الْقَعْدَةَ الْأَخِيرَةَ فَرْضٌ، وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ أَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: ٣] وَكَذَا {وَقُومُوا لِلَّهِ} [البقرة: ٢٣٨] {فَاقْرَءُوا} [المزمل: ٢٠] {وَارْكَعُوا - وَاسْجُدُوا} [الحج: ٤٣ - ٧٧] أَوَامِرُ وَالْمُسْتَفَادُ مِنْهَا وُجُوبُ الْمَذْكُورَاتِ فِي الصَّلَاةِ وَهِيَ لَا تَنْفِي إجْمَالَ الصَّلَاةِ إذْ الْحَاصِلُ حِينَئِذٍ أَنَّ الصَّلَاةَ فِعْلٌ يَشْتَمِلُ عَلَى هَذِهِ.

بَقِيَ كَيْفِيَّةُ تَرْتِيبِهَا فِي الْأَدَاءِ وَهَلْ الصَّلَاةُ هَذِهِ فَقَطْ أَوْ مَعَ أُمُورٍ أُخَرْ؟ وَقَعَ الْبَيَانُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ بِفِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَوْلِهِ، وَهُوَ لَمْ يَفْعَلْهَا قَطُّ بِدُونِ الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ وَالْمُوَاظَبَةُ مِنْ غَيْرِ تَرْكِ مَرَّةٍ دَلِيلُ الْوُجُوبِ فَإِذَا وَقَعَتْ بَيَانًا لِلْفَرْضِ أَعْنِي الصَّلَاةَ الْمُجْمَلَ كَانَ مُتَعَلِّقُهَا فَرْضًا بِالضَّرُورَةِ، وَلَوْ لَمْ يَقُمْ الدَّلِيلُ فِي غَيْرِهَا مِنْ الْأَفْعَالِ عَلَى سُنِّيَّتِهِ لَكَانَ فَرْضًا، وَلَوْ لَمْ يَلْزَمْ تَقْيِيدُ مُطْلَقِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الْفَاتِحَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ، وَهُوَ نَسْخٌ لِلْقَاطِعِ بِالظَّنِّيِّ لَكَانَا فَرْضَيْنِ، وَلَوْلَا أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَعُدْ إلَى الْقَعْدَة الْأُولَى لَمَّا تَرَكَهَا سَاهِيًا ثُمَّ عَلِمَ لَكَانَتْ فَرْضًا فَقَدْ عَرَفْت أَنَّ بَعْضَ الصَّلَاةِ عُرِفَ بِتِلْكَ النُّصُوصِ وَلَا إجْمَالَ فِيهَا وَأَنَّهُ لَا يَنْفِي الْإِجْمَالَ فِي الصَّلَاةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَمَا تَعَلَّقَ بِالْأَفْعَالِ نَفْسِهَا لَا يَكُونُ بَيَانًا، فَإِنْ كَانَ نَاسِخًا لِلْإِطْلَاقِ وَهُوَ قَطْعِيٌّ نَسَخَ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَهُ، وَهُوَ أَدْرَى بِالْمُرَادِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَطْعِيًّا لَمْ يَصْلُحْ لِذَلِكَ وَإِلَّا لَزِمَ تَقْدِيمُ الظَّنِّيِّ عِنْدَ مُعَارَضَةِ الْقَطْعِيِّ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ فِي قَضِيَّةِ الْعَقْلِ وَعَمَّا ذَكَرْنَا كَانَ تَقْدِيمُ الْقِيَامِ عَلَى الرُّكُوعِ، وَالرُّكُوعِ عَلَى السُّجُودِ فَرْضًا؛ لِأَنَّهُ بَيَّنَهَا كَذَلِكَ اهـ.

وَقَوْلُهُ (قَدْرَ التَّشَهُّدِ) بَيَانٌ لِقَدْرِ الْفَرْضِ مِنْهَا، وَهُوَ الْأَصَحُّ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ شَرْعِيَّتَهَا لِقِرَاءَتِهِ، وَأَقَلُّ مَا يَنْصَرِفُ إلَيْهِ اسْمُ التَّشَهُّدِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ ذَلِكَ وَعَلَى هَذَا يَنْشَأُ إشْكَالٌ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَا شُرِعَ لِغَيْرِهِ بِمَعْنَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ شَرْعِيَّتِهِ غَيْرُهُ يَكُونُ آكَدَ مِنْ ذَلِكَ الْغَيْر مِمَّا لَمْ يُعْهَدْ بَلْ وَخِلَافُ الْمَعْقُولِ، فَإِذَا كَانَ شَرْعِيَّةُ الْقَعْدَةِ لِلذِّكْرِ أَوْ السَّلَامِ كَانَتْ دُونَهُمَا فَالْأَوْلَى أَنْ يُعَيَّنَ سَبَبَ شَرْعِيَّتِهَا الْخُرُوجُ كَذَا فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ وَذَكَرَ الْوَلْوَالِجِيُّ فِي آخِرِ فَتَاوَاهُ مِنْ مَسَائِلَ مُتَفَرِّقَةٍ رَجُلٌ صَلَّى

ــ

[منحة الخالق]

لِلْوَضْعِ لِأَنَّهُمَا مِمَّا يَتَأَتَّى مَعَ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَوَضْعُ الْخَدِّ لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِالِانْحِرَافِ عَنْ الْقِبْلَةِ فَتَعَيَّنَتْ الْجَبْهَةُ وَالْأَنْفُ لِلسُّجُودِ شَرْعًا وَلِأَنَّ السُّجُودَ عَلَى الذَّقَنِ لَمْ يُعْهَدْ تَعْظِيمًا، وَالصَّلَاةُ إنَّمَا شُرِعَتْ بِأَفْعَالٍ تُعْرَفُ تَعْظِيمًا، وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا} [الإسراء: ١٠٧] فَمَعْنَاهُ: يَقَعُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ سُجَّدًا أَوْ الْمُرَادُ بِالْأَذْقَانِ: الْوُجُوهُ، كَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - كَذَا فِي شَرْحِ الشَّيْخِ إسْمَاعِيلَ، وَفِي لُزُومِ زِيَادَةِ قَيْدِ الِاسْتِقْبَالِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ شَرْطٌ خَارِجٌ عَنْ حَقِيقَةِ السُّجُودِ الْمُعَرَّفِ.

(قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا) قَالَ فِي النَّهْرِ وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ التَّعْرِيفَ حَيْثُ جَاءَ عَلَى الرَّاجِحِ فَلَا وَجْهَ لِدَعْوَى عَدَمِ صِحَّتِهِ قَالَ الشَّيْخُ إسْمَاعِيلُ وَأَجَابَ عَنْهُ تِلْمِيذُهُ شَيْخُنَا أَمْتَعَ اللَّهُ تَعَالَى بِحَيَاتِهِ: بِأَنَّ التَّعْرِيفَ الْمُطَابِقَ لِقَوْلِ الْكَنْزِ الَّذِي هُوَ بِصَدَدِ شَرْحِهِ إنَّمَا هُوَ عَلَى قَوْلِ الْإِمَامِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ قَوْلِهِمَا هُوَ الْمُفْتَى بِهِ أَنْ يَكُونَ مُطَابِقًا لِلْكَنْزِ وَأَقُولُ: إنْ أَرَادَ صَاحِبُ الْبَحْرِ بِالْبَعْضِ الْمُعَرَّفِ بِذَلِكَ أَحَدَ شُرَّاحِ الْكَنْزِ فَهَذَا الْجَوَابُ وَاضِحٌ لِعَدَمِ مُطَابَقَتِهِ حِينَئِذٍ الْمَشْرُوحَ، وَإِنْ أَرَادَ صَاحِبَ الْمُغْرِبِ حَيْثُ عَرَّفَ بِذَلِكَ وَغَيْرَهُ مِنْ شُرَّاحِ كَلَامِ مَنْ مَشَى عَلَى قَوْلِ الْإِمَامِ فَلَيْسَ بِكَافٍ فِي الْجَوَابِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(قَوْلُهُ فِي شَرْحِ الدُّرَرِ) يَعْنِي دُرَرَ الْبِحَارِ لِلْقُونَوِيِّ (قَوْلُهُ فَالَأَوْلَى أَنْ يُعَيَّنَ سَبَبَ شَرْعِيَّتِهَا الْخُرُوجُ) أَيْ لِيَنْدَفِعَ

<<  <  ج: ص:  >  >>