للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ بِالْفَرْضِيَّةِ مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّهُ وَافَقَهُمَا فِي الْأُصُولِ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْخَاصِّ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَا تَجُوزُ فَكَيْفَ اسْتَقَامَ لَهُ الْقَوْلُ بِالْجَوَازِ هُنَا

وَلِهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْهُمَامِ: وَيُحْمَلُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ بِالْفَرْضِيَّةِ عَلَى الْفَرْضِ الْعَمَلِيِّ، وَهُوَ الْوَاجِبُ فَيَرْتَفِعُ الْخِلَافُ اهـ.

وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ لَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَلَى مَا قَالُوا كَمَا فِي شَرْحِ مُنْيَةِ الْمُصَلِّي، وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ صَاحِبُ الْأَسْرَارِ خِلَافَ أَبِي يُوسُفَ، وَإِنَّمَا قَالَ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: الطُّمَأْنِينَةُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَفِي الِانْتِقَالِ مِنْ رُكْنٍ إلَى رُكْنٍ لَيْسَ بِرُكْنٍ، وَكَذَلِكَ الِاسْتِوَاءُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَبَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ اهـ.

وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الطَّحَاوِيُّ مِنْ الِافْتِرَاضِ عَلَى الْفَرْضِ الْعَمَلِيِّ كَمَا قَرَّرْنَاهُ لِيُوَافِقَ أُصُولَ أَهْلِ الْمَذْهَبِ وَإِلَّا فَالْإِشْكَالُ أَشَدُّ. قَيَّدَ بِالطُّمَأْنِينَةِ فِي الْأَرْكَانِ أَيْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ؛ لِأَنَّ الطُّمَأْنِينَةَ فِي الْقَوْمَةِ وَالْجِلْسَةِ سُنَّةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ بِالِاتِّفَاقِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَرْضٌ كَمَا تَقَدَّمَ

وَفِي شَرْحِ الزَّاهِدِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهَا عِنْدَهُمَا كَوُجُوبِهَا فِي الْأَرْكَانِ فَإِنَّهُ قَالَ وَذَكَرَ صَدْرُ الْقُضَاةِ: وَإِتْمَامُ الرُّكُوعِ وَإِكْمَالُ كُلِّ رُكْنٍ وَاجِبٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ فَرْضٌ، وَكَذَا رَفْعُ الرَّأْسِ مِنْ الرُّكُوعِ وَالِانْتِصَابُ وَالْقِيَامُ وَالطُّمَأْنِينَةُ فِيهِ فَيَجِبُ أَنْ يُكْمِلَ الرُّكُوعَ حَتَّى يَطْمَئِنَّ كُلُّ عُضْوٍ مِنْهُ وَيَرْفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ حَتَّى يَنْتَصِبَ قَائِمًا وَيَطْمَئِنَّ كُلُّ عُضْوٍ مِنْهُ، وَكَذَا فِي السُّجُودِ، وَلَوْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ نَاسِيًا يَلْزَمُهُ سَجْدَتَا السَّهْوِ

وَلَوْ تَرَكَهَا عَمْدًا يُكْرَهُ أَشَدَّ الْكَرَاهَةِ وَيَلْزَمُهُ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ. اهـ. وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْقَوْمَةِ وَالْجِلْسَةِ وَسَيَأْتِي التَّصْرِيحُ بِسُنِّيَّتِهِمَا وَمُقْتَضَى الدَّلِيلِ وُجُوبُ الطُّمَأْنِينَةِ فِي الْأَرْبَعَةِ وَوُجُوبُ نَفْسِ الرَّفْعِ مِنْ الرُّكُوعِ وَالْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ لِلْمُوَاظَبَةِ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ وَلِلْأَمْرِ فِي حَدِيثِ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ، وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ فِي فَصْلِ مَا يُوجِبُ السَّهْوَ قَالَ: الْمُصَلِّي إذَا رَكَعَ وَلَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ حَتَّى خَرَّ سَاجِدًا سَاهِيًا تَجُوزُ صَلَاتُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعَلَيْهِ السَّهْوُ. اهـ.

وَفِي الْمُحِيطِ لَوْ تَرَكَ تَعْدِيلَ الْأَرْكَانِ أَوْ الْقَوْمَةِ الَّتِي بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ سَاهِيًا لَزِمَهُ سُجُودُ السَّهْوِ اهـ.

فَيَكُونُ حُكْمُ الْجِلْسَةِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيهِمَا وَاحِدٌ وَالْقَوْلُ بِوُجُوبِ الْكُلِّ هُوَ مُخْتَارُ الْمُحَقِّقِ ابْنِ الْهُمَامِ وَتِلْمِيذِهِ ابْنِ أَمِيرِ حَاجٍّ حَتَّى قَالَ إنَّهُ الصَّوَابُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.

(قَوْلُهُ وَالْقُعُودُ الْأَوَّلُ) لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاظَبَ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ الْعُمْرِ وَذَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ إذَا قَامَ دَلِيلُ عَدَمِ الْفَرْضِيَّةِ، وَقَدْ قَامَ هُنَا؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَامَ إلَى الثَّالِثَةِ فَسُبِّحَ لَهُ فَلَمْ يَرْجِعْ» صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَلَوْ كَانَ فَرْضًا لَرَجَعَ وَمَا فِي الْكِتَابِ مِنْ الْوُجُوبِ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ وَعِنْد الطَّحَاوِيِّ وَالْكَرْخِيِّ هِيَ سُنَّةٌ، وَفِي الْبَدَائِعِ وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا يُطْلِقُونَ عَلَيْهَا اسْمَ السُّنَّةِ إمَّا لِأَنَّ وُجُوبَهَا عُرِفَ بِالسُّنَّةِ فِعْلًا أَوْ لِأَنَّ السُّنَّةَ الْمُؤَكَّدَةَ فِي مَعْنَى الْوَاجِبِ وَهَذِهِ الْقَعْدَةُ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الشَّفْعَيْنِ وَأَرَادَ بِالْأَوَّلِ غَيْرَ الْآخِرِ لَا الْفَرْضَ السَّابِقَ إذْ لَوْ أُرِيدَ بِهِ السَّابِقُ لَمْ يُفْهَمْ حُكْمُ الْقَعْدَةِ الثَّانِيَةِ

ــ

[منحة الخالق]

الْفَرْضَ هُوَ الثَّانِيَ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّهُ رُكْنٌ (قَوْلُهُ فَيَرْتَفِعُ الْخِلَافُ) قَالَ فِي النَّهْرِ أَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ صِحَّةَ رَفْعِ الْخِلَافِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى أَنْ يُرَادَ بِالْوَاجِبِ عَلَى قَوْلِهِمَا أَقْوَى نَوْعَيْهِ، وَهُوَ مَا يَفُوتُ الْجَوَازُ بِفَوْتِهِ لَكِنَّهُ لَا يَفُوتُ عَلَى قَوْلِهِمَا وَيَفُوتُ عَلَى قَوْلِهِ، فَأَنَّى يَرْتَفِعُ؟ وَقَدْ صَرَّحَ فِي السَّهْوِ بِذَلِكَ حَيْثُ قَالَ لَوْ تَرَكَ الْقَوْمَةَ وَالْجَلْسَةَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لَهُمَا اهـ.

وَعَلَى هَذَا فَالْإِشْكَالُ بَاقٍ لَكِنْ قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ يُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ ذُكِرَ فِي الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ مُطْلَقَيْنِ فَانْصَرَفَا إلَى الْكَامِلِ، وَهُوَ مَا كَانَ بِصِفَةِ التَّعْدِيلِ وَحِينَئِذٍ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِ لُزُومُ الزِّيَادَةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ اهـ.

وَفِي حَوَاشِي الدُّرَرِ لِلْعَلَّامَةِ نُوحٍ أَفَنْدِي بَعْدَمَا قَرَّرَ نَحْوَ مَا فِي النَّهْرِ وَإِنَّ الْمَذْكُورَ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَقُولُ إنَّ الطُّمَأْنِينَةَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقَوْمَةِ وَالْجَلْسَةِ فَرْضٌ قَطْعِيٌّ كَمَا قَالَتْ بِهِ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ مُسْتَدِلًّا بِالسُّنَّةِ، وَأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدًا يَقُولَانِ إنَّهَا لَيْسَتْ بِفَرْضٍ مُسْتَدِلَّيْنِ بِالْكِتَابِ بَلْ هِيَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَاجِبَةٌ، وَفِي الْقَوْمَةِ وَالْجَلْسَةِ سُنَّةٌ عَلَى تَخْرِيجِ الْكَرْخِيِّ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ وَسُنَّةٌ فِي الْكُلِّ عَلَى تَخْرِيجِ الْجُرْجَانِيِّ قَالَ مَا نَصُّهُ: وَاَلَّذِي ظَهَرَ لِلْعَبْدِ الْفَقِيرِ فِي دَفْعِ هَذَا الْإِشْكَالِ الْعَسِيرِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فِي الْآيَةِ عِنْدَ هُمَا مَعْنَاهُمَا اللُّغَوِيُّ، وَهُوَ مَعْلُومٌ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْبَيَانِ فَلَوْ قُلْنَا بِافْتِرَاضِ التَّعْدِيلِ لَزِمَ الزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مَعْنَاهُمَا الشَّرْعِيُّ، وَهُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَيَحْتَاجُ إلَى الْبَيَانِ فَجُعِلَ خَبَرُ الْوَاحِدِ وَالْمُوَاظَبَةُ بَيَانًا لَهُ فَهُمَا خَاصَّانِ عِنْدَهُمَا مُجْمَلَانِ عِنْدَهُ، ثُمَّ رَأَيْت ابْنَ الْهُمَامِ أَشَارَ إلَى مَا سَنَحَ لِي حَيْثُ قَالَ: وَهَذِهِ أَيْ الْقَوْمَةُ وَالْجَلْسَةُ وَالطُّمَأْنِينَةُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَرَائِضُ لِلْمُوَاظَبَةِ الْوَاقِعَةِ بَيَانًا اهـ فَحَمِدْت اللَّهَ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ إنِّي رَأَيْت صَاحِبَ الْبُرْهَانِ أَوْضَحَ هَذَا الْمَقَامَ طِبْقَ مَا ظَهَرَ لِلْعَبْدِ الذَّلِيلِ فَحَمِدْت اللَّهَ تَعَالَى ثَانِيًا اهـ مُلَخَّصًا، وَهُوَ كَلَامٌ فِي غَايَةِ الْكَمَالِ، بِهِ يَنْقَطِعُ عِرْقُ الْإِشْكَالِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

(قَوْلُهُ وَأَرَادَ بِالْأَوَّلِ غَيْرَ الْآخِرِ إلَخْ) قَالَ فِي النَّهْرِ: لَكِنْ يَرُدُّ عَلَيْهِ مَا فِي الْفَتْحِ

<<  <  ج: ص:  >  >>