لِإِطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: ٢٠] أَرَادَ بِعَدَمِ التَّعْيِينِ عَدَمَ الْفَرْضِيَّةِ وَإِلَّا فَالْفَاتِحَةُ مُتَعَيِّنَةٌ عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَأَشَارَ إلَى كَرَاهَةِ تَعْيِينِ سُورَةٍ لِصَلَاةٍ لِمَا فِيهِ مِنْ هَجْرِ الْبَاقِي وَإِيهَامِ التَّفْضِيلِ كَتَعْيِينِ سُورَةِ السَّجْدَةِ وَهَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ فِي فَجْرِ كُلِّ جُمُعَةٍ وَسَبِّحْ اسْمَ رَبِّك وَقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فِي الْوِتْرِ كَذَا فِي الْهِدَايَةِ وَغَيْرِهَا وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْمُدَاوَمَةَ مَكْرُوهَةٌ مُطْلَقًا سَوَاءٌ اعْتَقَدَ أَنَّ الصَّلَاةَ تَجُوزُ بِغَيْرِهِ أَوْ لَا؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الْكَرَاهَةِ لَمْ يُفَصِّلْ، وَهُوَ إيهَامُ التَّفْضِيلِ وَهَجْرُ الْبَاقِي فَحِينَئِذٍ لَا حَاجَةَ إلَى مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ والإسبيجابي مِنْ أَنَّ الْكَرَاهَةَ إذَا رَآهُ حَتْمًا يُكْرَهُ غَيْرُهُ أَمَّا لَوْ قَرَأَ لِلتَّيْسِيرِ عَلَيْهِ أَوْ تَبَرُّكًا بِقِرَاءَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا كَرَاهَةَ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَقْرَأَ غَيْرَهَا أَحْيَانًا لِئَلَّا يَظُنَّ الْجَاهِلُ أَنَّ غَيْرَهَا لَا يَجُوزُ اهـ.
وَالْأَوْلَى أَنْ يُجْعَلَ دَلِيلَ كَرَاهَةِ الْمُدَاوَمَةِ إيهَامُ التَّعْيِينِ لَا هَجْرُ الْبَاقِي؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ لَمْ يَقْرَأْ الْبَاقِي فِي صَلَاةٍ أُخْرَى، وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ عَدَمُ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى الْعَدَمِ كَمَا يَفْعَلُهُ حَنَفِيَّةُ الْعَصْرِ بَلْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ ذَلِكَ أَحْيَانًا تَبَرُّكًا بِالْمَأْثُورِ فَإِنَّ الْإِيهَامَ يَنْتَفِي بِالتَّرْكِ أَحْيَانًا وَلِذَا قَالُوا: السُّنَّةُ أَنْ يَقْرَأَ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ بِقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَظَاهِرُ هَذَا إفَادَةُ الْمُوَاظَبَةِ عَلَى ذَلِكَ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِيهَامَ الْمَذْكُورَ مُنْتَفٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُصَلِّي نَفْسِهِ. اهـ.
وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا صَرَّحَ بِهِ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ مِنْ كَرَاهَةِ الْمُوَاظَبَةِ عَلَى قِرَاءَةِ السُّوَرِ الثَّلَاثِ فِي الْوِتْرِ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ فِي رَمَضَانَ إمَامًا أَوْ لَا، فَمَا فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ إيهَامُ التَّعْيِينِ، وَأَمَّا عَلَى مَا عَلَّلَ بِهِ الْمَشَايِخُ مِنْ هَجْرِ الْبَاقِي فَهُوَ مَوْجُودٌ سَوَاءٌ كَانَ يُصَلِّي وَحْدَهُ أَوْ إمَامًا وَسَوَاءٌ كَانَ فِي الْفَرْضِ أَوْ فِي غَيْرِهِ فَتُكْرَهُ الْمُدَاوَمَةُ مُطْلَقًا.
(قَوْلُهُ وَلَا يَقْرَأُ الْمُؤْتَمُّ بَلْ يَسْتَمِعُ وَيُنْصِتُ، وَإِنْ قَرَأَ آيَةَ التَّرْغِيبِ أَوْ التَّرْهِيبِ أَوْ خَطَبَ أَوْ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالنَّائِي كَالْقَرِيبِ) لِلْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ مِنْ طُرُقٍ عَدِيدَةٍ «مَنْ كَانَ لَهُ إمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ» فَكَانَ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ} [المزمل: ٢٠] بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ خُصَّ مِنْهُ الْمُدْرِكُ فِي الرُّكُوعِ إجْمَاعًا فَجَازَ تَخْصِيصُهُ بَعْدَهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَلِعُمُومِ الْحَدِيثِ «لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ» فَإِنْ قُلْت: حَيْثُ جَازَ تَخْصِيصُهُ بَعْدَهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَيَنْبَغِي تَخْصِيصُ عُمُومِهَا بِالْفَاتِحَةِ عَمَلًا بِخَبَرِ الْفَاتِحَةِ قُلْت: التَّخْصِيصُ الْأَوَّلُ إنَّمَا هُوَ فِي الْمَأْمُورِينَ وَلَمْ يَقَعْ تَخْصِيصٌ لِعُمُومِ الْمَقْرُوءِ فَلَمْ يَجُزْ تَخْصِيصُهُ بِالظَّنِّيِّ، أَطْلَقَهُ فَشَمِلَ الصَّلَاةَ الْجَهْرِيَّةَ وَالسِّرِّيَّةَ، وَفِي الْهِدَايَةِ وَيُسْتَحْسَنُ عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِيَاطِ فِيمَا يُرْوَى عَنْ مُحَمَّدٍ وَيُكْرَهُ عِنْدَهُمَا لِمَا فِيهِ مِنْ الْوَعِيدِ وَتَعَقَّبَهُ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ بِأَنَّ مُحَمَّدًا صَرَّحَ فِي كُتُبِهِ بِعَدَمِ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ فِيمَا يَجْهَرُ فِيهِ وَفِيمَا لَا يَجْهَرُ فِيهِ قَالَ وَبِهِ نَأْخُذُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ صَاحِبَ الْهِدَايَةِ لَمْ يَجْزِمْ بِأَنَّهُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ بَلْ ظَاهِرُهُ أَنَّهَا رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ، وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ وَالْحَقُّ أَنَّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ كَقَوْلِهِمَا، وَالْمُرَادُ مِنْ الْكَرَاهَةِ كَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ، وَفِي بَعْضِ الْعِبَارَاتِ أَنَّهَا لَا تَحِلُّ خَلْفَهُ، وَإِنَّمَا لَمْ يُطْلِقُوا اسْمَ الْحُرْمَةِ عَلَيْهَا لِمَا عُرِفَ مِنْ أَنَّ أَصْلَهُمْ أَنَّهُمْ لَا يُطْلِقُونَهَا إلَّا إذَا كَانَ الدَّلِيلُ قَطْعِيًّا وَدَعْوَى الِاحْتِيَاطِ فِي الْقِرَاءَةِ خَلْفَهُ مَمْنُوعَةٌ بَلْ الِاحْتِيَاطُ تَرْكُهَا؛ لِأَنَّهُ الْعَمَلُ بِأَقْوَى الدَّلِيلَيْنِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عِدَّةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فَسَادُ الصَّلَاةِ
ــ
[منحة الخالق]
بَيْنَ السُّورَتَيْنِ مِنْ حَيْثُ الْكَلِمَاتُ لِتَفَاوُتِ آيَاتِهِمَا فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ مِنْ غَيْرِ تَقَارُبٍ وَتَفَاوُتُهُمَا فِي الْكَلِمَاتِ يَسِيرٌ
(قَوْلُهُ وَالْأَوْلَى أَنْ يُجْعَلَ إلَخْ) هَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ الْفَتْحِ حَيْثُ قَالَ: فَالْحَقُّ أَنَّهُ أَيْ دَلِيلَ الْكَرَاهَةِ إيهَامُ التَّعْيِينِ اهـ.
وَمُقْتَضَى جَعْلِ دَلِيلِ الْكَرَاهَةِ ذَلِكَ دُونَ هَجْرِ الْبَاقِي أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ التَّعْيِينُ لِلْمُنْفَرِدِ لِانْتِفَاءِ الْإِيهَامِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي عَنْ الْفَتْحِ مَعَ أَنَّ الْمُؤَلِّفَ لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ وَنَظَرَ فِيهِ بِمَا سَيَنْقُلُهُ عَنْ غَايَةِ الْبَيَانِ (قَوْلُهُ فَمَا فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ مَبْنِيٌّ إلَخْ) قَالَ فِي النَّهْرِ أَقُولُ: قَدْ عَلَّلَ الْمَشَايِخُ بِهِمَا كَمَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ الْهِدَايَةِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ لَا عِلَّتَانِ وَبِهَذَا اتَّجَهَ مَا فِي الْفَتْحِ
(قَوْلُ الْمُصَنِّفِ، وَإِنْ قَرَأَ آيَةَ التَّرْغِيبِ أَوْ التَّرْهِيبِ) أَيْ يَسْتَمِعُ الْمُؤْتَمُّ، وَإِنْ قَرَأَ الْإِمَامُ مَا ذُكِرَ قَالَ فِي النَّهْرِ، وَكَذَا الْإِمَامُ لَا يَشْتَغِلُ بِغَيْرِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ سَوَاءٌ أَمَّ فِي الْفَرْضِ أَوْ النَّفْلِ أَمَّا الْمُنْفَرِدُ فَفِي الْفَرْضِ كَذَلِكَ، وَفِي النَّفْلِ يَسْأَلُ الْجَنَّةَ وَيَتَعَوَّذُ مِنْ النَّارِ عِنْدَ ذِكْرِهِمَا وَيَتَفَكَّرُ فِي آيَةِ الْمَثَلِ، وَقَدْ ذَكَرُوا فِيهِ حَدِيثَ «حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِنَّهُ صَلَّى مَعَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَمَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ إلَّا سَأَلَ فِيهَا وَمَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا ذِكْرُ النَّارِ إلَّا تَعَوَّذَ فِيهَا» وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْإِمَامَ يَفْعَلُ فِي النَّافِلَةِ، وَهُمْ صَرَّحُوا بِالْمَنْعِ إلَّا أَنَّهُمْ عَلَّلُوا بِالتَّطْوِيلِ عَلَى الْمُقْتَدِي وَعَلَى هَذَا لَوْ أَمَّ مَنْ يُطْلَبُ مِنْهُ ذَلِكَ فَعَلَهُ يَعْنِي فِي التَّرَاوِيحِ وَالْكُسُوفِ وَإِلَّا فَالتَّجَمُّعُ فِي النَّافِلَةِ مَكْرُوهٌ وَفِي غَيْرِهِمَا (قَوْلُهُ وَلَمْ يَقَعْ تَخْصِيصٌ لِعُمُومِ الْمَقْرُوءِ إلَخْ) حَاصِلُهُ أَنَّ فِي الْآيَةِ صِيغَتَيْ عُمُومٍ عَلَامَةُ الْجَمْعِ وَمَا، وَالتَّخْصِيصُ حَصَلَ لِلْأُولَى فَيَلْحَقُهَا التَّخْصِيصُ ثَانِيًا بِخِلَافِ الثَّانِيَةِ (قَوْلُهُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ) أَيْ فَيَكُونُ مَبْنِيًّا عَلَى مَا قَالُوهُ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِمَذْهَبِهِ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ الْجَمْعِ رِعَايَةً لِلِاخْتِصَارِ وَالْأَصْوَبُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ جَارٍ عَلَى مَذْهَبِنَا أَيْضًا بِنَاءً عَلَى مَا اخْتَارَهُ صَاحِبُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute