يَكُونُ سَبَبًا وَقِيلَ السَّبَبُ الْجَنَابَةُ وَرُدَّ أَيْضًا لِوُجُودِهِ فِي الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَاخْتَارَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ أَنَّ السَّبَبَ الْجَنَابَةُ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ لِيَدْخُلَ الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ وَيُرَدُّ بِمَا قَدَّمْنَاهُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ مِنْ أَنَّهُ يُوجَدُ الْحَدَثُ وَالْجَنَابَةُ وَلَا يَجِبُ الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ كَمَا إذَا كَانَ قَبْلَ الْوَقْتِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ سَبَبُهُ وُجُوبُ مَا لَا يَحِلُّ مَعَ الْجَنَابَةِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ.
اعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ الْآنَ عَلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ بِالْجِمَاعِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إنْزَالٌ وَعَلَى وُجُوبِهِ بِالْإِنْزَالِ، وَكَانَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا بِالْإِنْزَالِ ثُمَّ رَجَعَ بَعْضُهُمْ، وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ بَعْدَ الْآخَرِينَ وَفِي الْبَابِ حَدِيثُ «إنَّمَا الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ» مَعَ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي «الرَّجُلِ يَأْتِي أَهْلَهُ ثُمَّ لَا يُنْزِلُ قَالَ يَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَيَتَوَضَّأُ» وَفِيهِ الْحَدِيثُ الْآخَرُ «إذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ ثُمَّ جَهَدَهَا فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ، وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ» قَالَ الْعُلَمَاءُ الْعَمَلُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَأَمَّا حَدِيثُ «الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ» فَالْجُمْهُورُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ قَالُوا إنَّهُ مَنْسُوخٌ وَيَعْنُونَ بِالنَّسْخِ أَنَّ الْغُسْلَ مِنْ الْجِمَاعِ بِغَيْرِ إنْزَالٍ كَانَ سَاقِطًا ثُمَّ صَارَ وَاجِبًا
وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ مَنْسُوخًا بَلْ الْمُرَادُ بِهِ نَفْيُ وُجُوبِ الْغُسْلِ بِالرُّؤْيَةِ فِي النَّوْمِ إذَا لَمْ يُنْزِلْ، وَهَذَا الْحُكْمُ بَاقٍ بِلَا شَكٍّ، وَأَمَّا حَدِيثُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَفِيهِ جَوَابَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مَنْسُوخٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا بَاشَرَهَا فِيمَا سِوَى الْفَرْجِ كَذَا ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لَكِنْ عِنْدَنَا يُشْتَرَطُ فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ بِالْإِنْزَالِ أَنْ يَكُونَ انْفِصَالُ الْمَنِيِّ عَنْ شَهْوَةٍ، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ عِنْدَ مَنِيٍّ ذِي دَفْقٍ وَشَهْوَةٍ يُقَالُ دَفَقَ الْمَاءَ دَفْقًا صَبَّهُ صَبًّا فِيهِ دَفْعٌ وَشِدَّةٌ كَذَا فِي الْمُغْرِبِ وَفِي ضِيَاءِ الْحُلُومِ دَفَقَ الْمَاءَ دَفْقًا صَبَّهُ، وَدَفَقَ الْمَاءَ دُفُوقًا يَتَعَدَّى، وَلَا يَتَعَدَّى وَعَبَّرَ عَنْهُ فِي الْهِدَايَةِ بِقَوْلِهِ إنْزَالُ الْمَنِيِّ عَلَى وَجْهِ الدَّفْقِ وَالشَّهْوَةِ وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ نُزُولُ الْمَنِيِّ دُونَ الْإِنْزَالِ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ النُّزُولِ الْإِنْزَالُ دُونَ الْعَكْسِ، فَإِنَّ مَنْ احْتَلَمَ أَوْ وَجَدَ عَلَى فَخِذِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْغُسْلُ بِلَا قَصْدِ الْإِنْزَالِ ذَكَرَهُ الْهِنْدِيُّ فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ ذِكْرُ الدَّفْقِ اشْتِرَاطًا لِلْخُرُوجِ مِنْ رَأْسِ الذَّكَرِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ دَفَقَ الْمَاءُ دُفُوقًا بِمَعْنَى خَرَجَ مِنْ مَحَلِّهِ بِخِلَافِ دَفَقَ دَفْقًا، فَإِنَّهُ بِمَعْنَى صَبَّهُ صَبًّا لَكِنَّ هَذَا إنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَمَّا عِنْدَهُمَا لَا يَسْتَقِيمُ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَجْعَلَا الدَّفْقَ شَرْطًا بَلْ تَكْفِي الشَّهْوَةُ حَتَّى قَالَا بِوُجُوبِهِ إذَا زَايَلَ الْمَنِيَّ مِنْ مَكَانِهِ بِشَهْوَةٍ
وَإِنْ خَرَجَ بِلَا دَفْقٍ كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ وَغَيْرِهِمَا وَأَجَابَ عَنْهُ فِي الْعِنَايَةِ وَغَايَةِ الْبَيَانِ بِأَنَّهُ لَا حَصْرَ فِي كَلَامِهِ فَلِكَيْ يَسْتَقِيم غَايَتُهُ يَلْزَمُ تَرْكُ بَعْضِ مُوجِبَاتِهِ عِنْدَهُمَا فِي مَوْضِعِ بَيَانِهَا اهـ.
وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْمُرَادَ بِكَوْنِ الْإِنْزَالِ عَلَى وَجْهِ الشَّهْوَةِ أَنْ يَكُونَ لِلشَّهْوَةِ دَخْلٌ فِي الْإِنْزَالِ سَوَاءٌ كَانَتْ مُقَارِنَةً أَوْ سَابِقَةً عَلَيْهِ مُقَارِنَةً لِلِانْفِصَالِ هَذَا، وَعِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ أَشَدُّ إشْكَالًا؛ لِأَنَّهُ يَرِدُ عَلَيْهَا مَا وَرَدَ عَلَى عِبَارَةِ الْقُدُورِيِّ مِنْ أَنَّهَا لَا تَشْمَلُ مَنِيَّ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ مَاءَهَا لَا يَكُونُ دَافِقًا كَمَاءِ الرَّجُلِ، وَإِنَّمَا يَنْزِلُ مِنْ صَدْرِهَا إلَى فَرْجِهَا كَمَا ذَكَرَهُ الْوَلْوَالِجِيُّ فِي فَتَاوِيهِ وَيَرِدُ عَلَى عِبَارَةِ الْمُخْتَصَرِ خَاصَّةً التَّنَاقُضُ فِي التَّرْكِيبِ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الدَّفْقِ يُفِيدُ اشْتِرَاطَ خُرُوجِ الْمَنِيِّ بِشَهْوَةٍ مِنْ رَأْسِ الذَّكَرِ وَقَوْلُهُ عِنْدَ انْفِصَالِهِ يَنْفِيه فَلَوْ حَذَفَ الدَّفْقَ لَكَانَ أَوْلَى
ــ
[منحة الخالق]
(قَوْلُهُ: وَرُدَّ أَيْضًا) أَيْ رُدَّ مَا تَعَقَّبَ بِهِ فِي النِّهَايَةِ، وَهَذَا الرَّدُّ يَئُولَ فِي الْمَعْنَى إلَى مَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ (قَوْلُهُ: لَكِنَّ هَذَا إنَّمَا يَسْتَقِيمُ إلَخْ) هَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ هُنَا إلَى قَوْلِهِ لِمَا فِي ضِيَاءِ الْحُلُومِ مَوْجُودَةٌ فِي بَعْضِ النُّسَخِ بَيْنَ قَوْلِهِ الْآتِي، فَإِنَّهُ بِمَعْنَى صَبَّهُ صَبًّا وَقَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْمَوْجُودُ فِيهَا بَعْدَ قَوْلِهِ هُنَا كَذَا فِي الْمُغْرِبِ وَفِي ضِيَاءِ الْحُلُومِ إلَى قَوْلِهِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَلَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَأَمِّلِ أَنَّ هَذَا الْمَوْجُودَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ كَمَا قُلْنَا أَحْسَنُ (قَوْلُهُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْمُرَادَ الْإِنْزَالُ إلَخْ) لَمْ يَظْهَرْ لِهَذَا مَدْخَلٌ فِي هَذَا الْمَحَلِّ فَلْيُتَأَمَّلْ
(قَوْلُهُ: وَقَوْلُهُ عِنْدَ انْفِصَالِهِ يَنْفِيهِ) وَحِينَئِذٍ فَلَا يَسْتَقِيمُ حَمْلُهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَشْتَرِطُ الشَّهْوَةَ وَالدَّفْقَ عِنْدَ الْخُرُوجِ عَنْ رَأْسِ الذَّكَرِ لَا عِنْدَ الِانْفِصَالِ وَأَقُولُ: وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ يُمْكِنُ: تَوْجِيهُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ وَلَكِنْ مَعَ نَوْعٍ مِنْ التَّكَلُّفِ وَذَلِكَ بِأَنْ يُحْمَلَ الدَّفْقُ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرُ اللَّازِمِ كَمَا يَذْكُرُهُ الشَّارِحُ أَيْ ذِي دَفْعٍ أَوْ عَلَى مَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ كَمَا نَقَلَهُ فِي النَّهْرِ أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ دَافِقًا؛ لِأَنَّ بَعْضَهُ يَدْفُقُ بَعْضًا أَيْ يَدْفَعُهُ فَمِنْهُ دَافِقٌ وَمِنْهُ مَدْفُوقٌ وَالظَّرْفُ فِي قَوْلِهِ عِنْدَ انْفِصَالِهِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ فَرْضٌ كَالظَّرْفِ فِي قَوْلِهِ عِنْدَ مَنِيٍّ وَالْمُرَادُ بِالِانْفِصَالِ الْخُرُوجُ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ صَادِقًا بِالْقَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّ الشَّهْوَةَ لَمْ تُقَيَّدْ بِكَوْنِهَا عِنْدَ الِانْفِصَالِ وَلَا عِنْدَ الْخُرُوجِ أَوْ الظَّرْفُ الْأَوَّلُ مُتَعَلِّقٌ بِفَرْضٍ، وَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ أَيْ عِنْدَ خُرُوجِ مَنِيٍّ وَالثَّانِي مُتَعَلِّقٌ بِالدَّفْقِ، وَهَذَا أَقْرَبُ مِنْ الْأَوَّلِ وَعَلَيْهِمَا فَذِكْرُ الشَّهْوَةِ تَصْرِيحٌ بِمَا عُلِمَ الْتِزَامًا فَلَا يَكُونُ مُسْتَدْرِكًا كَمَا قِيلَ لِتَغَايُرِ مَفْهُومَيْهِمَا، وَإِنْ اسْتَلْزَمَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ وَسَيَأْتِي فِي كَلَامِ الشَّارِحِ مَا يُشْعِرُ بِهَذَا الْوَجْهِ الثَّانِي فِيمَا بَعْدُ وَالدَّفْقُ عَلَى تَفْسِيرَيْهِ الْمَارَّيْنِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْخُرُوجِ
وَيَشْمَلُ كَلَامُهُ مَنِيَّ الْمَرْأَةِ لِأَنَّهُ يَنْدَفِعُ عِنْدَ خُرُوجِهِ أَوْ يَدْفَعُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَيَنْدَفِعُ أَيْضًا التَّنَاقُضُ عَنْ كَلَامِهِ، وَهَذَا