للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مِنْ اعْتِبَارِ الْعَشْرِ فِي الْعَشْرِ فَقَدْ عَلِمْت أَنَّهُ لَيْسَ مَذْهَبَ أَصْحَابِنَا، وَأَنَّ مُحَمَّدًا، وَإِنْ كَانَ قَدَّرَ بِهِ رَجَعَ عَنْهُ كَمَا نَقَلَهُ الْأَئِمَّةُ الثِّقَاتُ الَّذِينَ هُمْ أَعْلَمُ بِمَذْهَبِ أَصْحَابِنَا فَإِنْ قُلْت إنَّ فِي الْهِدَايَةِ وَكَثِيرٍ مِنْ الْكُتُبِ أَنَّ الْفَتْوَى عَلَى اعْتِبَارِ الْعَشْرِ فِي الْعَشْرِ وَاخْتَارَهُ أَصْحَابُ الْمُتُونِ فَكَيْفَ سَاغَ لَهُمْ تَرْجِيحُ غَيْرِ الْمَذْهَبِ قُلْت لَمَّا كَانَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ التَّفْوِيضَ إلَى رَأْيِ الْمُبْتَلَى بِهِ، وَكَانَ الرَّأْيُ يَخْتَلِفُ بَلْ مِنْ النَّاسِ مَنْ لَا رَأْيَ لَهُ اعْتَبَرَ الْمَشَايِخُ الْعَشْرَ فِي الْعَشْرِ تَوْسِعَةً وَتَيْسِيرًا عَلَى النَّاسِ، فَإِنْ قُلْتَ: هَلْ يَعْمَلُ بِمَا صَحَّ مِنْ الْمَذْهَبِ أَوْ بِفَتْوَى الْمَشَايِخِ قُلْت يُعْمَلُ بِمَا صَحَّ مِنْ الْمَذْهَبِ فَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو اللَّيْثِ فِي نَوَازِلِهِ سُئِلَ أَبُو نَصْرٍ عَنْ مَسْأَلَةٍ وَرَدَتْ عَلَيْهِ مَا تَقُلْ رَحِمَك اللَّهُ وَقَعَتْ عِنْدَك كُتُبٌ أَرْبَعَةٌ كِتَابُ إبْرَاهِيمَ بْنِ رُسْتُمَ وَأَدَبِ الْقَاضِي عَنْ الْخَصَّافِ وَكِتَابُ الْمُجَرَّدِ وَكِتَابُ النَّوَادِرِ مِنْ جِهَةِ هِشَامٍ فَهَلْ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نُفْتِيَ مِنْهَا أَوْ لَا وَهَذِهِ الْكُتُبُ مَحْمُودَةٌ عِنْدَك فَقَالَ مَا صَحَّ عَنْ أَصْحَابِنَا فَذَلِكَ عِلْمٌ مَحْبُوبٌ مَرْغُوبٌ فِيهِ مَرَضِيٌّ بِهِ.

وَأَمَّا الْفُتْيَا، فَإِنِّي لَا أَرَى لِأَحَدٍ أَنْ يُفْتِيَ بِشَيْءٍ لَا يَفْهَمُهُ وَلَا يَتَحَمَّلُ أَثْقَالَ النَّاسِ، فَإِنْ كَانَتْ مَسَائِلَ قَدْ اُشْتُهِرَتْ وَظَهَرَتْ وَانْجَلَتْ عَنْ أَصْحَابِنَا رَجَوْت أَنْ يَسَعَ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهَا فِي النَّوَازِلِ انْتَهَى.

وَعَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ رُجُوعِ مُحَمَّدٍ عَنْ هَذَا التَّقْدِيرِ فَمَا قُدِّرَ بِهِ لَا يَسْتَلْزِمُ تَقْدِيرَهُ بِهِ إلَّا فِي نَظَرِهِ، وَهُوَ لَا يَلْزَمُ غَيْرَهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ كَوْنُهُ مَا اسْتَكْثَرَهُ الْمُبْتَلَى فَاسْتِكْثَارُ وَاحِدٍ لَا يَلْزَمُ غَيْرَهُ بَلْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَا يَقَعُ فِي قَلْبِ كُلِّ إنْسَانٍ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الْأُمُورِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا عَلَى الْعَامِّيِّ تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِ إلَيْهِ أَشَارَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي شَرْحِ الزَّاهِدِيِّ عَنْ الْحَسَنِ وَأَصَحُّ حَدِّهِ مَا لَا يَخْلُصُ بَعْضُ الْمَاءِ إلَى بَعْضٍ بِظَنِّ الْمُبْتَلَى بِهِ وَاجْتِهَادِهِ وَلَا يُنَاظِرُ الْمُجْتَهِدَ فِيهِ اهـ.

فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ التَّقْدِيرَ بِعَشْرٍ فِي عَشْرٍ لَا يَرْجِعُ إلَى أَصْلٍ شَرْعِيٍّ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ كَمَا قَالَهُ مُحْيِي السُّنَّةِ فَإِنْ قُلْت قَالَ فِي شَرْحِ الْوُقَايَةِ، وَإِنَّمَا قُدِّرَ بِهِ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَلَهُ حَوْلَهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا» فَيَكُونُ لَهُ حَرِيمُهَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ عَشْرَةٌ فَفُهِمَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ إذَا أَرَادَ آخَرُ أَنْ يَحْفِرَ فِي حَرِيمِهَا بِئْرًا يُمْنَعُ؛ لِأَنَّهُ يَنْجَذِبُ الْمَاءُ إلَيْهَا وَيَنْقُصُ الْمَاءُ فِي الْبِئْرِ الْأُولَى، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَحْفِرَ بِئْرَ بَالُوعَةٍ يَمْنَعُ أَيْضًا السِّرَايَةُ النَّجَاسَةَ إلَى الْبِئْرِ الْأُولَى وَيَنْجُسُ مَاؤُهَا وَلَا يُمْنَعُ فِيمَا وَرَاءَ الْحَرِيمِ وَهُوَ عَشْرٌ فِي عَشْرٍ فَعُلِمَ أَنَّ الشَّرْعَ اعْتَبَرَ الْعَشْرَ فِي الْعَشْرِ فِي عَدَمِ سِرَايَةِ النَّجَاسَةِ حَتَّى لَوْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ تَسْرِي يَحْكُمُ بِالْمَنْعِ قُلْت هُوَ مَرْدُودٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ كَوْنَ حَرِيمِ الْبِئْرِ عَشْرَةَ أَذْرُعٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ قَوْلُ الْبَعْضِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ أَرْبَعُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى:

الثَّانِي: أَنَّ قِوَامَ الْأَرْضِ أَضْعَافُ قِوَامِ الْمَاءِ فَقِيَاسُهُ عَلَيْهَا فِي مِقْدَارِ عَدَمِ السِّرَايَةِ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ

الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُخْتَارَ الْمُعْتَمَدَ فِي الْبُعْدِ بَيْنَ الْبَالُوعَةِ وَالْبِئْرِ نُفُوذُ الرَّائِحَةِ إنْ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ أَوْ رِيحُهُ أَوْ طَعْمُهُ تَنَجَّسَ، وَإِلَّا فَلَا هَكَذَا فِي الْخُلَاصَةِ وَفَتَاوَى قَاضِي خان وَغَيْرِهِمَا.

وَصَرَّحَ فِي التَّتَارْخَانِيَّة أَنَّ اعْتِبَارَ الْعَشْرِ فِي الْعَشْرِ عَلَى اعْتِبَارِ حَالِ أَرَاضِيهِمْ وَالْجَوَابُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ صَلَابَةِ الْأَرْضِ وَرَخَاوَتِهَا وَحَيْثُ اخْتَارَ فِي الْمَتْنِ اعْتِبَارَ الْعَشْرِ لَا بَأْسَ بِإِيرَادِ تَفَارِيعِهِ وَالتَّكَلُّمِ عَلَيْهَا، فَنَقُولُ: اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي الذِّرَاعِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ فَفِي التَّجْنِيسِ الْمُخْتَارُ ذِرَاعُ الْكِرْبَاسِ وَاخْتُلِفَ فِيهِ فَفِي كَثِيرٍ مِنْ الْكُتُبِ أَنَّهُ سِتُّ قَبَضَاتٍ لَيْسَ فَوْقَ كُلِّ قَبْضَةِ إصْبَعٍ قَائِمَةٍ فَهُوَ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ إصْبَعًا بِعَدَدِ حُرُوفِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّه مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالْمُرَادُ بِالْإِصْبَعِ الْقَائِمَةِ ارْتِفَاعُ الْإِبْهَامِ كَمَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ وَفِي فَتَاوَى الْوَلْوَالِجِيِّ أَنَّ ذِرَاعَ الْكِرْبَاسِ سَبْعُ قَبَضَاتٍ لَيْسَ فَوْقَ كُلِّ قَبْضَةٍ إصْبَعٍ قَائِمَةٍ وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خان وَغَيْرِهَا الْأَصَحُّ ذِرَاعُ الْمَسَّاحَةِ، وَهُوَ سَبْعُ قَبَضَاتٍ فَوْقَ كُلِّ قَبْضَةٍ إصْبَعٌ قَائِمَةٌ وَفِي الْمُحِيطِ وَالْكَافِي الْأَصَحُّ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ ذِرَاعُهُمْ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِلْمَسَّاحَةِ وَالْكِرْبَاسِ وَالْأَقْوَالُ الْكُلُّ فِي الْمُرَبَّعِ، فَإِنْ كَانَ الْحَوْضُ مُدَوَّرًا فَفِي.

ــ

[منحة الخالق]

(قَوْلُهُ: فَقَدْ عَلِمْت أَنَّهُ لَيْسَ مَذْهَبَ أَصْحَابِنَا إلَخْ) قَالَ فِي النَّهْرِ مَمْنُوعٌ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَمَا قَالَ لَمَا سَاغَ لَهُمْ الْخُرُوجُ عَنْ ذَلِكَ الْمَقَالِ كَيْفَ، وَقَدْ اعْتَرَفَ بِأَنَّ أَكْثَرَ تَفَارِيعِهِمْ عَلَى اعْتِبَارِ الْعَشْرِ فِي الْعَشْرِ اهـ

<<  <  ج: ص:  >  >>