للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المدرسين فترك المولى المذكور الدرس أياماً وظن ألوغ بك أنه وقعت له عارضة مزاجية فذهب إلى عيادته فإذا هو صحيح فسأل عن سبب تركه الدرس فقال: إني خدمت بعضاً من مشايخ الصوفية فأوصاني أن لا أتولّى المناصب الدنيوية إلاّ منصباً لا يُعزل صاحبه عنه، فكنت ظننت أن التدريس كذلك فلما عرفت أنه يعزل صاحبه عنه تركته فاعتذر الأمير عن فعله وتضرَّع إليه في قبول التدريس وأعاد المدرس إلى مقامه وحلف أن لا يعزل بعد ذلك مدرّساً أصلاً فقبل المولى المذكور التدريس على ما نقله صاحب "الشقائق" (١). فانظر كيف [كان] شأن العلم والعلماء وتدبّر ... فيما نقل من اجتهاد السَّلف وعلوّ هممهم وتقاعد الخلف عن اللحوق إليهم حتى تكون من الفائزين.

روي أن الشيخ جمال الدين الأقسرائي (٢) كان مدرساً بمدرسة مشهورة بالمدرسة المسلسلة في بلاد قرامان وقد شرط بانيها أن لا يدرس فيها إلا من حفظ "الصِّحاح" للجوهري وقد فَتّشوا عمن يحفظ "الصِّحاح" في تلك الدِّيار فوجدوا أربعة من حفّاظه [ ... ] فرجّحوه لفضله عليهم وتأسفوا على قلّة الحفاظ، فاعتبر حال العلم من أين إلى أين.

والأولى بالاعتبار: ما نقله أئمة الحديث، منهم: الإمام ابن الأثير، فإنه ذكر في أول

"جامع الأصول" (٣) أن علم الحديث لما كان من أصول الفروض وجب الاعتناء بضبطه وحفظه ولذلك يَسَّرَ الله تعالى أولئك الأفاضل فتناقلوه كابراً عن كابر فما زال هذا العلم من عهد الرسول -عليه السلام- أشرفَ العلوم وأجلها لدى الصحابة والتَّابعين وتابعيهم خلفاً بعد سلف، لا يشرف بينهم أحد بعد حفظ كتاب الله -عزّ وجلَّ- إلا بقدر ما يحفظ منه، فتوفرت الرَّغبات فيه حتى لقد كان أحدهم يرحل المراحل ويجوب البلاد شرقاً وغرباً في طلب حديث واحد ليسمعه من راويه، فمنهم من يكون الباعث له على الرحلة طلب ذلك الحديث لذاته ومنهم من يقرن بتلك الرغبة سماعه من ذلك الراوي بعينه إما لثقته وصدقه [في نقله] وإما لعلو إسناده. وكان اعتمادهم أولاً على الحفظ والضبط في القلوب [والخواطر] غير ملتفتين إلى ما يكتبونه، محافظة على هذا العلم كحفظهم كتاب الله -عزَّ وجل-. فلما انتشر الإسلام وقلّ الضبط، احتاجوا إلى تدوين الحديث وتقييده بالكتابة فانتهى الأمر إلى زمن جماعة من الأئمة، مثل عبد الملك بن جُريج (٤) ومالك بن أنس، وغيرهما فدوّنوا الحديث، حتى قيل: إن أول كتاب صنّف في الإسلام "كتاب ابن جُرَيج" وقيل: "موطأ مالك" وقيل: إن


(١) انظر "الشقائق النعمانية" (١٤) طبع بيروت و (١٧) طبع إستانبول.
(٢) ترجمته في "الشقائق النعمانية" (١٤) طبع بيروت و (١٧) طبع إستانبول.
(٣) انظر "جامع الأصول" (١/ ٣٩ - ٤٣) وما بين الحاصرين تكملة منه.
(٤) ورد ذكره في القسم الأول برقم ٢٧٤٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>