للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ثانيهما: أخبرنا رشيد رضا بنفسه عن منهجه في التفسير بعد أن انفرد في العمل بعد وفاة عبده، قائلاً: "هذا، وإنني لما استقللتُ بالعمل بعد وفاته، خالفتُ منهجه رحمه الله تعالى بالتوسع فيما يتعلق بالآية من السنة الصحيحة، سواء كان تفسيراً لها أو في حكمها، وفي تحقيق بعض المفردات أو الجمل اللغوية، والمسائل الخلافية بين العلماء، وفي الإكثار من شواهد الآيات في السور المختلفة" (١).

يمكن أن نفهم من هذا النص أنَّ رشيد رضا قام بعد استقلاله بالعمل بتضييق فسحة حرية النظر اللغوي، والعقلي المستقل التي كان يمنحها عبده لنفسه أثناء تفسيره لصالح توسيع دائرة الاعتماد على النصوص الدينية: قرآناً وسنةً، وعلى أقوال السلف، بالإضافة إلى زيادة الاعتماد على التفريع الفقهي، والتوسع الكلامي واللغوي. فقال: "كتبنا ما تقدم في تفسير الآية مستعينين على فهمها ببيان سنة رسول الله، وما جرى عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين في الصدر الأول، وذلك شأننا في فهم كتاب الله عز وجل، نستعين عليه بما ذكر وبأساليب لغة العرب وسنن الله في خلقه، ثم راجعنا بعد ذلك ما كتبناه في مسألة حل الطعام وحرامه في المجلد السادس من المنار، فرأينا ما كان منه بفهمنا واجتهادنا موافقا لما هنا مع زيادة بيان لحكمة تحريم الميتة، ونقول من كتب مذاهب الفقهاء المشهورة" (٢).

وتظهر آثار هذا التحول جليَّةً من خلال كثرة نُقولاته، الطويلة أحياناً، من مصادر التفسير بالأثر، وبشكل خاص: الطبري (ت ٣١٠ هـ)، والبغوي (ت ٥١٦ هـ)، وابن كثير (ت ٧٧٤ هـ)، والسيوطي (ت ٩١١ هـ). وكذلك نقله من مصادر التفسير اللغوي، وبشكل خاص تفسير الكشاف (ت ٥٣٨ هـ)، بالإضافة إلى اعتماده على أمهات معاجم اللغة مثل لسان العرب لابن منظور (ت ٧١١ هـ)، ومقاييس اللغة لابن فارس (ت ٣٩٥ هـ)، فضلاً عن اعتماده على معاجم ألفاظ القرآن الكريم، من مثل: "مفردات ألفاظ القرآن" للراغب الأصفهاني (ت ٥٠٢ هـ).

ويمكن لنا أن نقرأ دلالة هذا التحول عند رشيد على أنها محاولةٌ منه لإدراج أفكاره الإصلاحية المعروضة في تفسيره في سياق التراث الإسلامي المعتمد في ميدان التفسير، وبذلك يمكن أن يحصل على شرعية القول الجديد في التفسير بأقل قدرٍ ممكن من معارضة الجمهور العريض، وممثليه من العلماء، وهذا هو الذي حدثَ فعلاً، حيث وجد هذا التفسير قبولاً عاماً عند قرائه، وبذلك يكون رضا قد تحاشى قسماً كبيراً من الموجة العاصفة من الاعتراضات، والانتقادات التي قيلت بحق تفسير محمد عبده المستقلّ، والتي حكمت على منهجه بأنه تفسيرٌ بالرأي، وتفسير عقلاني توفيقي، الأمر الذي أدى إلى إقصاء تفسيره من دائرة التأثير العام التي كان يطمح إليها (٣).


(١) تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار) (١/ ١٦).
(٢) تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار) (٦/ ١٦٢).
(٣) انظر: قراءة في منهج رشيد رضا في تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)، وموقف النقاد منه، لحازم محي الدين.
http:// www.almultaka.net/ ShowMaqal.php? cat=١&id=٦٥٩

<<  <   >  >>