للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أولهما: كان تفسير المنار في الأصل عبارة عن دروس شفهية، كان محمد عبده يلقيها على جمهور من الطلبة والمثقفين المصريين في الجامع الأزهر، وكان رشيد رضا في الوقت نفسه يقوم بتدوين خلاصة أفكار هذه الدروس في مذكرات خاصة به مدةً من الزمن، ثم بدأ يحرّر هذه المذكرات، ويضيف عليها من كتب التفسير الأخرى، ومن أفكاره الخاصة، ويعرض كل ذلك على عبده ليأخذ موافقته عليه، ويقوم بعد ذلك بنشرها في مجلته المنار ابتداءً من الجزء السادس في المجلد الثالث الصادر في محرم سنة (١٣١٨ هـ)، وابتداءً من هذا التاريخ استمر رضا حتى وفاته بنشر تفسيره على صفحات مجلته "المنار"، علماً أنه قد بدأ منذ سنة (١٩٠٨ م) بجمع كل ما كان ينشره من التفسير في مجلته في نهاية كل سنة ويعيد نشره في مجلد مستقل (١)، وأردتُ من ذكر ما سبق الإشارةَ إلى أن اختلاف فئة مُتلقيّ التفسير بين مرحلة عبده (٢) ومرحلة رضا، وخاصة بعد أن بدأ بنشر تفسيره على صفحات مجلته التي يقرؤها جمهورٌ عريض من المسلمين في معظم بلاد العالم الإسلامي آنذاك، فرض على رشيد رضا أن يستجيب أكثر لحاجات هذه الجماهير العريضة المتعطشة للهداية، والثقة بالدين وأحكامه بأكثر مما فعل عبده، وقد تجلَّت هذه الاستجابة في مظاهر عدة، أهمها ازدياد حضور النزعة الإصلاحية في التفسير، التي ازدادت وضوحاً وجلاءً من خلال الفصول الإصلاحية الاستطرادية الكثيرة (٣) التي كتبها رشيد، وأدرجها في تفسيره دون أن تكون هناك دائماً حاجة واضحة لذكرها في المواضع التي ذُكرت فيها في التفسير (٤)، وكذلك الفصول الاستطرادية العديدة التي عقدها للرد على المبشرين وحملاتهم، وبشكل خاص تلك الفصول التي جعلهم فيها في موقع الدفاع عن النفس عندما هاجم وبكل قوة عقائد الصلب والتثليث والفداء، وكذلك اعتماد رضا أسلوباً في الكتابة بعيداً عن لغة التجريد والتنظير، والمصطلحات والمفاهيم الدقيقة التي تعلو عن مستوى عامة قرائه، وفي المقابل سعيه إلى مراعاة السهولة والجمال في التعبير، بحيث يتمكن القارئ المحدود الثقافة والعلم من فهم عباراته، ويقف دون صعوبة على مراده منها، وبذلك استطاع تفسيره أن يحقق الهدف الذي أراده له رشيد رضا منه، وهو أن يتدبَّر القارئ القرآن الكريم، ويهتدي به، ويُعينه على "النهوض بإصلاح أمته، وتجديد شباب ملّته، الذي هو المقصود بالذات منه" (٥).


(١) انظر: رشيد رضا ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ١٤٥.
(٢) يصف لنا رشيد رضا هوية الفئة التي كانت تحضر دروس محمد عبده بقوله: "هذا وإن درس التفسير في الأزهر كان أحفل الدروس وأنفعها في الدين، والاجتماع، والسياسة، والأدب والبلاغة، وكان يحضره كثير من علماء الأزهر، وأساتذة المدارس الثانوية والعالية، وكبار رجال القضاء الأهلي، وفضلاء الوجهاء، ورجال الحكومة"، تاريخ الأستاذ الإمام، رشيد رضا، (القاهرة، مطبعة المنار، ط ١، ١٣٥٠ هـ/ ١٩٣١ م) ١/ ٧٦٩.
(٣) ذكر رشيد رضا أن سبب ذكر هذه الاستطرادات هو تحقيق "مسائل تشتد حاجة المسلمين إلى تحقيقها بما يُثبِّتهم بهداية دينهم في هذا العصر، أو يقوي حجتهم على خصومه من الكفار والمبتدعة، أو يحلّ بعض المشكلات التي أَعيَا حلُّها بما يطمئن به القلب، وتسكن إليه النفس"تفسير القرآن الحكيم" (تفسير المنار) (١/ ١٦).
(٤) كان رشيد رضا يدرك بنفسه هشاشة الصلة بين معظم هذه الفصول، وبين نسيج النص التفسيري الذي أُضيفت إليه، لذلك لم يتردد في القول "وأستحسن للقارئ أن يقرأ الفصول الاستطرادية الطويلة وحدها في غير الوقت الذي يقرأ فيه التفسير"، المصدر السابق، ١/ ١٦.
(٥) تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار) (١/ ١٦).

<<  <   >  >>