للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وكان الأستاذ الإمام يطلع على ذلك كله ويقره لما كان حياً، ومنذ أن توفى الأستاذ الإمام، واستمرت مجلة المنار تنشر دروس التفسير التي كان ألقاها في حياته، أصبح التحرير واضحاً في التفرقة بين ما هو منقول عنه وبين ما هو من بيان الكاتب، ثم لما انتهى النشر إلى حيث أدركت الوفاة الأستاذ الإمام، استقل الشيخ رشيد بأعباء التفسير وحده فأكمل منه إلى نهاية الجزء الثاني عشر عند قوله تعالى: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ} [سورة يوسف: ٥٢].

فكان ما كتبه الشيخ رشيد، مستقلاً، أكثر من سبعة أجزاء، وما كتبه اعتماداً على أستاذه واستمداداً منه، أقل من خمسة أجزاء فكان حظه في المجموع أغلب، وكان بانتساب هذا التفسير إليه أحق، نعم إن روح التفسير اختلفت في بعض عناصرها، بين ما كان يكتب منه في حياة الأستاذ الإمام، وما كتب بعده مما استقل به الشيخ رشيد، وذلك الاختلاف يبدو جلياً في العنصر الذي يعبر عنه الشيخ رشيد بـ (الأثري).

فقد رأينا أن التكوّن الأصلي للشيخ رشيد كان نقلياً أثرياً، على طريقة المتقدمين، مختلفاً في ذلك عن التكوّن الأصلي للسيد جمال الدين والشيخ محمد عبده، إذ كان تكوّنهما بحثياً نظرياً، على طريقة المتأخرين، فلم يكن الأستاذ يحفل بالناحية الأثرية، ولا يولي اهتماماً للأخبار وطرق تخريجها، ولا يعتمد في تفسير الآيات على الأخبار المتصلة بها، وكان الشيخ رشيد، بما امتزج بالأستاذ الإمام روحياً وفكرياً، قد تأثر بهذا المنهج، وساير الأستاذ الإمام عليه فيما اقتبسه من الدروس التي ألقاها الأستاذ الإمام وكان ببيانه مفتتح البحث فيها وممهد المداخل إليها، حتى صرح في المقدمة بأن: "أكثر ما روي في التفسير بالمأثور حجاب على القرآن وشاغل لتاليه عن مقاصده العالية"، ولكن لما استقل الشيخ رشيد بمعاناة العمل من مبدئه، وأصبح معتمداً على المصادر التي كان الأستاذ الإمام يأخذ منها ويترك حسب منهجه العلمي، بدأ هواه الأول للعلوم النقلية الأثرية يعاوده ويأخذ به، فمال إليها، وتتبع رجالها الأولين مثل الطبري، والآخرين مثل ابن كثير، فبدت على التفسير مسحة أثرية ما كانت بادية على أجزائه الخمسة الأولى، على ما يؤلف بين اللاحق والسابق من حيث القصد والأسلوب، فيما عدا هذا العنصر الأثري.

وقد أثبت الشيخ رشيد بنفسه هذا المعنى في المقدمة، ولكن مع ما اختلف بين الطرفين في المنهج العلمي، فإن الغاية بقيت متحدة، والروح بقيت متحدة كذلك، بحيث إن (تفسير المنار) في جملته يعتبر تفسيراً ذا منهج مطرد، وأفكار متناسقة، وهذا المنهج المطرد قد يقع الاتجاه إليه من مسالك البحوث الأصلية النظرية أحياناً، وقد يقع الاتجاه إليه من مسالك النقول الأثرية تارات أخرى، فإذا وصلت هذه المسالك أو تلك بمحرر التفسير إلى المنهج المخطط للسير، التزمه واستقام عليه، حتى يصل منه إلى نتائج البحث المتلاقية في غاياتها وروحها، مع ما كان انتهى إليه من نتائج في بحوث أخرى عند آيات أخرى على ذلك المنهج نفسه، فبرزت من مجموع ذلك الوحدة التي جعلت من تفسير المنار مداد روح النهضة الإسلامية الحديثة وقوام التفكير الإسلامي المجدد، في هذا القرن الرابع عشر (١).


(١) انظر: التفسير، ورجاله للفاضل الطاهر بن عاشور (ص: ١٥١ - ١٥٤).

<<  <   >  >>