بِالْكِتَابِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء: ١٢٩] مَعْنَاهُ لَنْ تَسْتَطِيعُوا الْعَدْلَ، وَالتَّسْوِيَةَ فِي الْمَحَبَّةِ فَلَا تَمِيلُوا فِي الْقَسْمِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَقَالَ تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: ١٩] وَغَايَتُهُ الْقَسْمُ.
وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: ٣] ، وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ فَاسْتَفَدْنَا أَنَّ حِلَّ الْأَرْبَعِ مُقَيَّدٌ بِعَدَمِ خَوْفِ عَدَمِ الْعَدْلِ وَثُبُوتُ الْمَنْعِ عَنْ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ عِنْدَ خَوْفِهِ فَعُلِمَ إيجَابُهُ عِنْدَ تَعَدُّدِهِنَّ اهـ.
وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ إذَا خَافَ عَدَمَ الْعَدْلِ حَرُمَ عَلَيْهِ الزِّيَادَةُ عَلَى الْوَاحِدَةِ، وَفِي الْبَدَائِعِ أَيْ: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا} [النساء: ٣] فِي الْقَسْمِ، وَالنَّفَقَةِ فِي الْمَثْنَى، وَالثَّلَاثِ، وَالْأَرْبَعِ فَوَاحِدَةً نَدْبٌ إلَى نِكَاحِ الْوَاحِدَةِ عِنْدَ خَوْفِ تَرْكِ الْعَدْلِ فِي الزِّيَادَةِ وَإِنَّمَا يُخَافُ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعَدْلَ بَيْنَهُنَّ فِي الْقَسْمِ، وَالنَّفَقَةِ وَاجِبٌ اهـ.
وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ إذَا خَافَ عَدَمَ الْعَدْلِ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ لَا يَزِيدَ لَا أَنَّهُ يَحْرُمُ فَإِنْ قُلْت قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ إذَا خَافَ الْجَوْرَ حَرُمَ التَّزَوُّجُ فَكَيْفَ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا قُلْت الْعَدْلُ بِمَعْنَى تَرْكِ الْجَوْرِ لَيْسَ بِمُرَادٍ هُنَا لِأَنَّهُ وَاجِبٌ لِلْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمَنْكُوحَاتِ وَهَذَا إنَّمَا يَحْرُمُ تَرْكُهُ بَعْدَ وُجُوبِهِ لَا التَّزَوُّجُ إذَا خَافَ عَدَمَهُ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى {ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا} [النساء: ٣] أَيْ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْوَاحِدَةِ، وَالْمَمْلُوكَاتِ أَقْرَبُ إلَى أَنْ لَا تَعُولُوا فَفَسَّرَ الْأَكْثَرُ الْعَوْلَ بِالْجَوْرِ يُقَالُ عَالَ الْمِيزَانُ إذَا مَالَ وَعَالَ الْحَاكِمُ إذَا جَارَ وَفَسَّرَهُ الشَّافِعِيُّ بِكَثْرَةِ الْعِيَالِ وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقَالَ أَنْ لَا تُعِيلُوا لِأَنَّهُ مِنْ أَعَالَ يُعِيلُ
وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ لُغَوِيٌّ لَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ بِكَلَامِ غَيْرِهِ وَبِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي اللُّغَةِ عَالَ الرَّجُلُ إذَا كَثُرَتْ مُؤْنَتُهُ فَتَفْسِيرُهُ بِكَثْرَةِ الْعِيَالِ تَفْسِيرٌ بِاللَّازِمِ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ كَثْرَةِ الْعِيَالِ كَثْرَةُ الْمُؤَنِ وَبِالْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ فِي الْبُخَارِيِّ: «ابْدَأْ بِنَفْسِك ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ» .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعَدْلَ فِي الْكِتَابِ مُبْهَمٌ يَحْتَاجُ إلَى الْبَيَانِ لِأَنَّهُ أَوْجَبَهُ وَصَرَّحَ بِهِ بِأَنَّهُ مُطْلَقًا لَا يُسْتَطَاعُ فَعُلِمَ أَنَّ الْوَاجِبَ مِنْهُ شَيْءٌ مُعَيَّنٌ، وَكَذَا السُّنَّةُ جَاءَتْ مُجْمَلَةً فِيهِ فَإِنَّ قَوْلَهُ الْمَرْوِيَّ فِي السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ «كَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَقْسِمُ فَيَعْدِلُ وَيَقُولُ اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ» يَعْنِي الْقَلْبَ أَيْ زِيَادَةُ الْمَحَبَّةِ فَظَاهِرُهُ أَنَّ مَا عَدَاهُ دَاخِلٌ تَحْتَ مِلْكِهِ وَقُدْرَتِهِ فِي التَّسْوِيَةِ، وَمِنْهُ عَدَدُ الْوَطَآتِ، وَالْقُبُلَاتِ، وَالتَّسْوِيَةُ فِيهَا غَيْرُ لَازِمَةٍ بِالْإِجْمَاعِ وَكَذَا مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «مَنْ كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إلَى إحْدَاهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ» أَيْ مَفْلُوجٌ وَلَمْ يُبَيِّنْ فِيهِ الْمُرَادَ قَالَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ: لَكِنْ لَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّ الْعَدْلَ الْوَاجِبَ فِي الْبَيْتُوتَةِ، وَالتَّأْنِيسِ فِي الْيَوْمِ، وَاللَّيْلَةِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يَضْبِطَ زَمَانَ النَّهَارِ فَبِقَدْرِ مَا عَاشَرَ فِيهِ إحْدَاهُمَا يُعَاشِرُ الْأُخْرَى بِقَدْرِهِ بَلْ ذَلِكَ فِي الْبَيْتُوتَةِ وَأَمَّا النَّهَارُ فَفِي الْجُمْلَةِ اهـ.
وَالْحَاصِلُ: أَنَّ التَّسْوِيَةَ فِي الْمَحَبَّةِ لَمَّا بَيَّنَ الشَّارِعُ سُقُوطَهَا بَقِيَ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مُرَادًا وَهُوَ الْبَيْتُوتَةُ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنْ لَا تَجِبَ التَّسْوِيَةُ فِيمَا عَدَاهَا وَلِذَا قَالَ فِي الْهِدَايَةِ: وَالتَّسْوِيَةُ الْمُسْتَحَقَّةُ فِي الْبَيْتُوتَةِ لَا فِي الْمُجَامَعَةِ لِأَنَّهُ يُبْتَنَى عَلَى النَّشَاطِ اهـ.
وَفِي الْبَدَائِعِ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْحُرَّتَيْنِ أَوْ الْأَمَتَيْنِ فِي الْمَأْكُولِ، وَالْمَشْرُوبِ، وَالْمَلْبُوسِ، وَالسُّكْنَى، وَالْبَيْتُوتَةِ اهـ.
وَهَكَذَا ذَكَرَ الْوَلْوَالِجِيُّ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ اعْتَبَرَ حَالَ الرَّجُلِ وَحْدَهُ فِي النَّفَقَةِ فَالتَّسْوِيَةُ فِيهَا وَاجِبَةٌ أَيْضًا وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْمُفْتَى بِهِ مِنْ اعْتِبَارِ
ــ
[منحة الخالق]
(قَوْلُهُ: فَعُلِمَ إيجَابُهُ عِنْدَ تَعَدُّدِهِنَّ) قَالَ فِي النَّهْرِ: وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فَرْضًا لِظَاهِرِ الْآيَةِ فَتَدَبَّرْ اهـ.
وَفِيهِ أَنَّ الْفَرْضِيَّةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِقَطْعِيِّ الثُّبُوتِ، وَالدَّلَالَةِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ وَهُنَا قَوْله تَعَالَى: {فَوَاحِدَةً} [النساء: ٣] يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فَالْوَاجِبُ وَاحِدَةً أَوْ الْمَفْرُوضُ وَاحِدَةً أَوْ الْمَطْلُوبُ وَاحِدَةً فَلَيْسَ صَرِيحًا بِفَرْضِيَّةِ تَزَوُّجِ الْوَاحِدَةِ فَمِنْ أَيْنَ يُؤْخَذُ فَرْضِيَّةُ الْقَسْمِ، وَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ فَالْأَمْرُ لَيْسَ نَصًّا فِي الْفَرْضِ الْقَطْعِيِّ بَلْ يَعُمُّ الظَّنِّيَّ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّهُ لِلْوُجُوبِ وَإِلَّا فَيَحْتَمِلُ النَّدْبَ، وَالْإِبَاحَةَ وَغَيْرَهُمَا فَلَيْسَ قَطْعِيَّ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمُرَادِ وَهَذَا إنْ أُخِذَ مِنْ قَوْله تَعَالَى {فَوَاحِدَةً} [النساء: ٣] كَمَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْفَتْحِ، وَإِنْ أُخِذَ مِنْ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ خِفْتُمْ} [النساء: ٣] عَلَى مَا يَأْتِي فَالْأَمْرُ أَظْهَرُ فَتَدَبَّرْ (قَوْلُهُ: وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ إذَا خَافَ عَدَمَ الْعَدْلِ يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَزِيدَ. . . إلَخْ) صَرَّحَ بِهِ الْقُهُسْتَانِيِّ حَيْثُ قَالَ: مُسْتَدْرِكًا عَلَى مَا فِي الْخُلَاصَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ عَدَمِ الْجَوَازِ لَكِنْ فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ جَازَ لَهُ ذَلِكَ فَإِنَّ الْأَمْرَ فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: ٣] أَيْ الْزَمُوهَا مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ لَا الْحَتْمِ اهـ.
وَبِهِ انْدَفَعَ مَا فِي شَرْحِ الْمَقْدِسِيَّ مِنْ حَمْلِ النَّدْبِ فِي كَلَامِ الْبَدَائِعِ عَلَى اللُّغَوِيِّ
(قَوْلُهُ: وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمَنْكُوحَاتِ) لَا يَخْفَى أَنَّهُ إذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ التَّسْوِيَةُ وَتَرَكَهَا كَانَ جَوْرًا وَقَدْ قَالُوا يَحْرُمُ التَّزَوُّجُ عِنْدَ خَوْفِ الْجَوْرِ وَتَخْصِيصُ مَا هُنَا بِأَنَّهُ يَحْرُمُ بَعْدَ وُجُوبِهِ يُقَالُ فِي غَيْرِهِ وَإِلَّا فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ جَوْرٍ وَجَوْرٍ تَأَمَّلْ (قَوْلُهُ: لَا التَّزَوُّجُ إذَا خَافَ عَدَمَهُ) اُنْظُرْ مَا وَقَعَ هَذَا الْكَلَامُ وَلَعَلَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ يَحْرُمُ تَرْكُهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَحْرُمُ تَرْكُهُ بَعْدَ وُجُوبِهِ لَا يَحْرُمُ التَّزَوُّجُ قَبْلَ وُجُوبِهِ إذَا خَافَ عَدَمَهُ