للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

السِّيَرِ قَيَّدَهُ بِأَنْ يَكُونَ حَرْبِيًّا، وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا لَا يَكُونُ إسْلَامًا، وَفِي الْقُنْيَةِ: أُكْرِهَ عَلَى طَلَاقِ امْرَأَتِهِ ثَلَاثًا فَطَلَّقَ لَمْ يَصِرْ فَارًّا فَلَا تَرِثُ مِنْهُ.

قَوْلُهُ: (وَسَكْرَانُ) أَيْ وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ سَكْرَانَ لِأَنَّ الشَّارِعَ لَمَّا خَاطَبَهُ فِي حَالِ سُكْرِهِ بِالْأَمْرِ، وَالنَّهْيِ بِحُكْمٍ فَرْعِيٍّ عَرَفْنَا أَنَّهُ اعْتَبَرَهُ كَقَائِمِ الْعَقْلِ تَشْدِيدًا عَلَيْهِ فِي الْأَحْكَامِ الْفَرْعِيَّةِ، وَقَدْ فَسَرُّوهُ هُنَا بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ مَنْ لَا يَعْرِفُ الرَّجُلَ مِنْ الْمَرْأَةِ وَلَا السَّمَاءَ مِنْ الْأَرْضِ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ الْعَقْلِ مَا يَقُومُ بِهِ التَّكْلِيفُ فَهُوَ كَالصَّاحِي.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُعْتَمَدَ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ السَّكْرَانَ الَّذِي تَصِحُّ مِنْهُ التَّصَرُّفَاتُ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ يُمَيِّزُ بِهِ الرَّجُلَ مِنْ الْمَرْأَةِ إلَى آخِرِهِ وَبِهِ يَبْطُلُ قَوْلُ مَنْ ادَّعَى أَنَّ الْخِلَافَ فِيهِ إنَّمَا هُوَ فِيهِ بِمَعْنًى عَكْسِ الِاسْتِحْسَانِ، وَالِاسْتِقْبَاحِ مَعَ تَمْيِيزِهِ الرَّجُلَ مِنْ الْمَرْأَةِ، وَالْعَجَبُ مَا صَرَّحَ بِهِ فِي بَعْضِ الْعِبَارَاتِ مِنْ أَنَّهُ مَعَهُ مِنْ الْعَقْلِ مَا يَقُومُ بِهِ التَّكْلِيفُ وَلَا شَكَّ أَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يُتَّجَهُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ لَا تَصِحُّ تَصَرُّفَاتُهُ وَمَا فِي بَعْضِ نُسَخِ الْقُدُورِيِّ مِنْ تَقْيِيدِ وُقُوعِ طَلَاقِ الْمُكْرَهِ، وَالسَّكْرَانِ بِالنِّيَّةِ فَلَيْسَ مَذْهَبًا لِأَصْحَابِنَا وَلِأَنَّهُ إذَا قَالَ نَوَيْت بِهِ يَجِبُ أَنْ يَقَعَ بِالْإِجْمَاعِ، وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ: قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يَقَعُ طَلَاقُ السَّكْرَانِ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَالطَّحَاوِيُّ وَالْكَرْخِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ سَلَّامٍ اهـ.

وَقَدْ اخْتَارُوا قَوْلَهُمَا فِي تَفْسِيرِهِ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ وَهُوَ الَّذِي أَكْثَرُ كَلَامِهِ هَذَيَانُ وَاخْتَارُوا فِي نَقْضِ طَهَارَتِهِ أَنَّهُ الَّذِي فِي مِشْيَتِهِ خَلَلٌ وَكَذَا فِي يَمِينِهِ أَنْ لَا يَسْكَرَ أَطْلَقَهُ فَشَمِلَ مَنْ سَكِرَ مُكْرَهًا أَوْ مُضْطَرًّا فَطَلَّقَ.

وَقَدْ جَزَمَ فِي الْخُلَاصَةِ بِالْوُقُوعِ مُعَلَّلًا بِأَنَّ زَوَالَ الْعَقْلِ حَصَلَ بِفِعْلٍ هُوَ مَحْظُورٌ فِي الْأَصْلِ، وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا بِعَارِضِ الْإِكْرَاهِ وَلَكِنَّ السَّبَبَ الدَّاعِيَ لِلْحَظْرِ قَائِمٌ فَأَثَّرَ قِيَامِ السَّبَبِ فِي حَقِّ الطَّلَاقِ اهـ.

وَصَحَّحَهُ الشُّمُنِّيُّ وَصَحَّحَ قَاضِي خَانْ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَفَتَاوَاهُ عَدَمَ الْوُقُوعِ وَكَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ مَعْزِيًّا إلَى التُّحْفَةِ وَقَالَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ أَنَّهُ الْأَحْسَنُ، وَفِي الْمُحِيطِ أَنَّهُ حَسَنٌ لَكِنَّهُ خِلَافُ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَإِنَّ بَعْضَهُمْ قَالُوا لَا يَقَعُ مَعْذُورًا أَوْ غَيْرَ مَعْذُورٍ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَقَعُ فِي الْحَالَيْنِ فَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا كَانَ قَوْلُهُ: بِخِلَافِ قَوْلِ الصَّحَابَةِ فَيَكُونُ بَاطِلًا اهـ.

وَشَمَلَ أَيْضًا مَنْ سَكِرَ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمُتَّخَذَةِ مِنْ الْحُبُوبِ، وَالْعَسَلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَقَالَ الْإِمَامُ: الثَّانِي لَا يَقَعُ قَالَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ وَيُفْتَى بِقَوْلِ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ السُّكْرَ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ مُحَرَّمٍ اهـ.

وَصَحَّحَ قَاضِي خَانْ فِي فَتَاوِيهِ عَدَمَ الْوُقُوعِ، وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ الْمُخْتَارُ فِي زَمَانِنَا لُزُومُ الْحَدِّ لِأَنَّ الْفُسَّاقَ يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ وَكَذَا الْمُخْتَارُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ لِأَنَّ الْحَدَّ يُحْتَالُ لِدَرْئِهِ، وَالطَّلَاقُ يُحْتَاطُ فِيهِ فَلَمَّا وَجَبَ مَا يَحْتَالُ لَأَنْ يَقَعَ مَا يُحْتَاطُ أَوْلَى، وَقَدْ طَالَبَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ الْبَزْدَوِيُّ نَافِي الْحَدِّ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السُّكْرِ مِنْ الْمُبَاحِ كَالْمُثَلَّثِ فَعَجَزُوا ثُمَّ قَالَ وَجَدْت نَصًّا عَنْ مُحَمَّدٍ عَلَى لُزُومِ الْحَدِّ وَشَمَلَ أَيْضًا مَنْ غَابَ عَقْلُهُ بِأَكْلِ الْحَشِيشِ فَطَلَّقَ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِوَرَقِ الْقُنَّبِ، وَقَدْ اتَّفَقَ عَلَى وُقُوعِ طَلَاقِهِ فَتْوَى مَشَايِخِ الْمَذْهَبَيْنِ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَفِيَّةِ لِفَتْوَاهُمْ بِحُرْمَتِهِ وَتَأْدِيبِ بَاعَتِهِ حَتَّى قَالُوا مَنْ قَالَ بِحِلِّهِ فَهُوَ زِنْدِيقٌ كَذَا فِي الْمُبْتَغَى بِالْمُعْجَمَةِ وَتَبِعَهُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْهُمَامِ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِحُرْمَةِ الْحَشِيشِ، وَالْبَنْجِ، وَالْأَفْيُونِ الْحَدَّادِيُّ فِي الْجَوْهَرَةِ فِي آخِرِ الْأَشْرِبَةِ وَصَرَّحَ بِتَعْزِيرِ آكِلِهِ وَشَمَلَ أَيْضًا مَنْ غَابَ عَقْلُهُ بِالْبَنْجِ، وَالْأَفْيُونِ فَإِنَّهُ يَقَعُ طَلَاقُهُ إذَا اسْتَعْمَلَهُ لِلَّهْوِ وَإِدْخَالِ الْآفَاتِ قَصْدًا لِكَوْنِهِ مَعْصِيَةً.

وَإِنْ كَانَ لِلتَّدَاوِي فَلَا لِعَدَمِهَا وَعَنْ هَذَا قُلْنَا إذَا شَرِبَ الْخَمْرَ فَتَصَدَّعَ فَزَالَ عَقْلُهُ بِالصُّدَاعِ فَطَلَّقَ لَا يَقَعُ لِأَنَّ زَوَالَ الْعَقْلِ مُضَافٌ إلَى الصُّدَاعِ لَا إلَى الشَّرَابِ كَذَا فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ وَهُوَ صَرِيحٌ فِي حُرْمَةِ الْبَنْجِ الْأَفْيُونِ لَا لِلدَّوَاءِ، وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ: وَالتَّعْلِيلُ يُنَادِي بِحُرْمَتِهِ لَا لِلتَّدَاوِي اهـ.

وَفِي الْخَانِيَّةِ مِنْ كِتَابِ الْخُلْعِ سَائِرُ تَصَرُّفَاتِ السَّكْرَانِ جَائِزَةٌ إلَّا الرِّدَّةُ، وَالْإِقْرَارُ بِالْحُدُودِ، وَالْإِشْهَادُ عَلَى شَهَادَةِ نَفْسِهِ وَمِنْ كِتَابِ

ــ

[منحة الخالق]

إسْلَامًا اهـ.

وَوَجْهُ الْمَسْأَلَةِ فِي مِنَحِ الْغَفَّارِ بِأَنَّ الْحَرْبِيَّ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ دُونَ الذِّمِّيِّ اهـ.

لَكِنْ يَبْقَى الْكَلَامُ فِي التَّوْفِيقِ بَيْنَ مَا فِي السِّيَرِ مِنْ الْخَانِيَّةِ وَبَيْنَ مَا أَطْلَقَهُ غَيْرُهُ، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الشِّحْنَةِ فِي كِتَابِ الْإِكْرَاهِ فِي إسْلَامِ النَّصْرَانِيِّ عَنْ التَّتِمَّةِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ قِيَاسًا وَيَصِحُّ اسْتِحْسَانًا قَالَ فِي إكْرَاهِ الْمِنَحِ فَيُحْمَلُ مَا فِي الْخَانِيَّةِ عَلَى الْقِيَاسِ.

(قَوْلُهُ: نَافِي الْحَدِّ) اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ النَّفْيِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ جَمْعُ نَافٍ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ فَعَجَزُوا هُوَ مَفْعُولُ طَالَبَ

<<  <  ج: ص:  >  >>