أَهْلَ الْعُرْفِ لَا يُفَرِّقُونَ بَلْ يَفْهَمُونَ مِنْهُمَا إيجَابَ الْمَنْفِيِّ كَذَا فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ.
قَوْلُهُ: (وَتَقَعُ وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً، وَإِنْ نَوَى الْأَكْثَرَ أَوْ الْإِبَانَةَ أَوْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا) بَيَانٌ لِأَحْكَامِ الصَّرِيحِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ الْأَوَّلُ وُقُوعُ الرَّجْعِيِّ بِهِ وَلَا تَصِحُّ نِيَّةُ الْإِبَانَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: ٢٢٨] بَعْدَ صَرِيحِ طَلَاقِهِ الْمُفَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: ٢٢٨] فَعُلِمَ أَنَّ الصَّرِيحَ يَسْتَعْقِبُهَا لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبُعُولَةِ فِي الْآيَةِ الْمُطَلِّقُونَ صَرِيحًا حَقِيقَةً كَانَ أَوْ مَجَازًا غَيْرُ مُتَوَقِّفٍ عَلَى إثْبَاتِ كَوْنِ الْمُطَلِّقِ طَلَاقًا رَجْعِيًّا بَعْلًا حَقِيقَةً وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: ٢٢٩] فَإِنَّهُ أَعْقَبَهُ الرَّجْعَةَ الَّتِي هِيَ الْمُرَادُ بِالْإِمْسَاكِ، وَفِي الصَّيْرَفِيَّةِ: لَوْ قَالَ لَهَا أَنْت طَالِقٌ وَلَا رَجْعَةَ لِي عَلَيْك فَرَجْعِيَّةٌ وَلَوْ قَالَ عَلَى أَنْ لَا رَجْعَةَ لِي عَلَيْك فَبَائِنٌ اهـ.
أَطْلَقَ وُقُوعَ الرَّجْعِيِّ بِهِ لِأَنَّ الطَّلَاقَ عِنْدَ تَسْمِيَةِ مَالٍ أَوْ فِي مُقَابَلَةِ إبْرَاءٍ أَوْ عِنْدَ وَصْفِهِ بِمَا يُنْبِئُ عَنْ الشِّدَّةِ أَوْ عِنْدَ تَقَدُّمِ طَلَاقٍ بَائِنٍ لَيْسَ مِنْهُ فَلَا حَاجَةَ إلَى الِاحْتِرَازِ عَنْهُ بِشَيْءٍ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الصَّرِيحِ فَالْمُرَادُ عِنْدَ عَدَمِ الْعَارِضِ، وَفِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الْبَيْنُونَةُ لِلْعَارِضِ وَاخْتَارَ الْأَوَّلَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ وَاخْتَارَ الثَّانِي فِي الْبَدَائِعِ مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ فَقَالَ: الصَّرِيحُ نَوْعَانِ صَرِيحٌ رَجْعِيٌّ وَصَرِيحٌ بَائِنٌ فَالصَّرِيحُ الرَّجْعِيُّ أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ بَعْدَ الدُّخُولِ حَقِيقَةً لَيْسَ مَقْرُونًا بِعِوَضٍ وَلَا بِعَدَدِ الثَّلَاثِ لَا نَصًّا وَلَا إشَارَةً وَلَا مَوْصُوفًا بِصِفَةٍ تُنْبِئُ عَنْ الْبَيْنُونَةِ أَوْ تَدُلُّ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ حَرْفِ الْعَطْفِ وَلَا مُشَبَّهٍ بِعَدَدٍ أَوْ صِفَةٍ تَدُلُّ عَلَيْهَا وَأَمَّا الصَّرِيحُ الْبَائِنُ فَبِخِلَافِهِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِحُرُوفِ الْإِبَانَةِ أَوْ بِحُرُوفِ الطَّلَاقِ لَكِنْ قَبْلَ الدُّخُولِ حَقِيقَةً أَوْ بَعْدَهُ لَكِنْ مَقْرُونًا بِعَدَدِ الثَّلَاثِ نَصًّا أَوْ إشَارَةً أَوْ مَوْصُوفًا بِصِفَةٍ تُنْبِئُ عَنْ الْبَيْنُونَةِ أَوْ تَدُلُّ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ حَرْفِ الْعَطْفِ أَوْ مُشَبَّهًا بِعَدَدٍ أَوْ صِفَةٍ تَدُلُّ عَلَيْهَا اهـ.
وَهُوَ الظَّاهِرُ لِأَنَّ حَدَّ الصَّرِيحِ يَشْمَلُ الْكُلَّ وَأَمَّا عَدَمُ صِحَّةِ نِيَّةِ الْإِبَانَةِ فَلِأَنَّهُ نَوَى تَغْيِيرَ الشَّرْعِ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَ الْبَيْنُونَةَ بِهَذَا اللَّفْظِ مُؤَجَّلًا إلَى مَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَإِذَا نَوَى إثْبَاتَهَا لِلْحَالِ مُعَجَّلًا فَقَدْ نَوَى تَغْيِيرَ الشَّرْعِ وَلَيْسَ لَهُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ فَبَطَلَتْ نِيَّتُهُ الثَّانِي وُقُوعُ الْوَاحِدَةِ بِهِ وَلَا تَصِحُّ نِيَّةُ الْأَكْثَرِ ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا وَقَالَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ: يَقَعُ مَا نَوَى وَهُوَ قَوْلُ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ نَوَى مُحْتَمَلَ لَفْظِهِ لِأَنَّ ذِكْرَ الطَّلَاقِ ذِكْرٌ لِلطَّلَاقِ الْمَصْدَرِ لِأَنَّ الْوَصْفَ كَالْفِعْلِ جُزْءٌ مَفْهُومُهُ الْمَصْدَرُ وَهُوَ يَحْتَمِلُهُ اتِّفَاقًا وَلِذَا صَحَّ قِرَانُ الْعَدَدِ بِهِ تَفْسِيرًا حَتَّى يُنْصَبَ عَلَى التَّمْيِيزِ وَحَاصِلُ التَّمْيِيزِ لَيْسَ إلَّا تَعْيِينُ أَحَدِ مُحْتَمَلَاتِ اللَّفْظِ وَلِذَا صَحَّتْ نِيَّةُ الثَّلَاثِ فِي قَوْلِهِ أَنْتِ بَائِنٌ وَهُوَ كِنَايَةٌ فَفِي الصَّرِيحِ الْأَقْوَى أَوْلَى وَلَنَا أَنَّ الشَّارِعَ نَقَلَهُ مِنْ الْإِخْبَارِ إلَى إنْشَاءِ الْوَاحِدَةِ إذْ لَا يُفْهَمُ مِنْ أَنْتِ طَالِقٌ قَطُّ لَازِمُ الْإِخْبَارِ وَهُوَ احْتِمَالُ الصِّدْقِ، وَالْكَذِبِ فَجَعَلَهُ مُوقَعًا بِهِ مَا شَاءَ اسْتِعْمَالًا فِي غَيْرِ الْمَنْقُولِ إلَيْهِ وَمُلَاحَظَةَ مَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِالْمَصْدَرِ إنَّمَا يَتَفَرَّعُ عَنْ إرَادَةِ الِاسْتِعْمَالِ اللُّغَوِيِّ وَنَقْلُهُ إلَى الْإِنْشَاءِ يُبَايِنُهُ لِأَنَّهُ جَعَلَ اللَّفْظَ عِلَّةً لِدُخُولِ الْمَعْنَى الْخَاصِّ فِي الْوُجُودِ الْمُخَالِفِ لِمُقْتَضَاهُ لُغَةً عَلَى أَنَّ الْمَصْدَرَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ هُوَ الِانْطِلَاقُ الَّذِي هُوَ وَصْفُهَا وَذَلِكَ لَا يَتَعَدَّدُ أَصْلًا وَبِهَذَا يَظْهَرُ عَدَمُ صِحَّةِ إرَادَةِ الثَّلَاثِ فِي مُطَلَّقَةٍ وَطَلَّقْتُك لِأَنَّهُ صَارَ إنْشَاءً فِي الْوَاحِدَةِ غَيْرَ مُلَاحَظٍ فِيهِ مَعْنَى اللُّغَةِ وَعَلَى هَذَا فَالْعَدَدُ نَحْوُ ثَلَاثًا لَا يَكُونُ صِفَةً لِمَصْدَرِ الْوَصْفِ بَلْ لِمَصْدَرِ غَيْرِهِ أَيْ طَلَاقًا أَيْ تَطْلِيقًا ثَلَاثًا كَمَا يُنْصَبُ فِي الْفِعْلِ مَصْدَرُ غَيْرِهِ مِثْلُ: {أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا} [نوح: ١٧] أَوْ يُضْمَرُ لَهُ فِعْلٌ عَلَى الْخِلَافِ فِيهِ بِخِلَافِ طَلَّقْتهَا وَطَلِّقِي نَفْسَك.
لِأَنَّ الْمَصْدَرَ الْمُحْتَمِلَ لِلْكُلِّ مَذْكُورٌ لُغَةً فَصَحَّ إرَادَتُهُ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَا نَقْلَ فِيهِ إلَى إيقَاعِ وَاحِدَةٍ، وَفِيهِ أَبْحَاثٌ مَذْكُورَةٌ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ وَإِنَّمَا صَحَّتْ نِيَّةُ الثَّلَاثِ فِي الْكِنَايَاتِ لِأَنَّهَا عَامِلَةٌ بِحَقَائِقِهَا وَهِيَ مُتَنَوِّعَةٌ إلَى غَلِيظَةٍ وَخَفِيفَةٍ فَعِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ يَثْبُتُ الْأَخَفُّ لِلتَّيَقُّنِ بِهِ قَيَّدَ بِالنِّيَّةِ لِأَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ وَاحِدَةً ثُمَّ قَالَ جَعَلْت تِلْكَ التَّطْلِيقَةَ بَائِنَةً أَوْ
ــ
[منحة الخالق]
(قَوْلُهُ: وَلَوْ قَالَ عَلَى أَنْ لَا رَجْعَةَ لِي عَلَيْك فَبَائِنٌ) سَيَأْتِي لِلْمُؤَلِّفِ تَحْقِيقُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَنَّ هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ قُبَيْلَ فَصْلِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ (قَوْلُهُ: لَيْسَ مِنْهُ) خَبَرُ إنَّ، وَالضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى الصَّرِيحِ (قَوْلُهُ: فَالْمُرَادُ عِنْدَ عَدَمِ الْعَارِضِ) أَيْ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ مَا ذَكَرَ مِنْ الصَّرِيحِ فَالْمُرَادُ بِالصَّرِيحِ الْوَاقِعِ بِهِ الرَّجْعِيَّةُ مَا لَمْ يَعْرِضْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ تَسْمِيَةِ مَالٍ وَنَحْوِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute