للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

{وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: ٧٨] يَعُودُ إلَى الْعِظَامِ بِالْمَعْنَى الْغَيْرِ الْمُرَادِ لَا بِالْمَعْنَى الْمُرَادِ وَهُوَ النُّفُوسُ فَكَانَ مِنْ بَابِ الِاسْتِخْدَامِ هَذَا مَا ظَهَرَ لِي الثَّالِثُ مَا ذَكَرَهُ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ وَالْعِنَايَةِ أَنَّ الْمُرَادَ أَصْحَابُ الْعِظَامِ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ

فَإِنْ قُلْت الْمَفْهُومُ مِنْ الْآيَةِ إحْيَاؤُهَا فِي الْآخِرَةِ وَأَحْوَالُهَا لَا تُنَاسِبُ أَحْوَالَ الدُّنْيَا قُلْنَا سَوْقُ الْكَلَامِ صَرِيحٌ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ إعَادَتَهَا فِي الْآخِرَةِ إلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا بَعْدَ أَنْ صَارَتْ بَالِيَةً خَالِيَةً عَنْ اسْتِعْدَادِ الْعَوْدِ إلَيْهَا فِي زَعْمِهِمْ، وَقَدْ اسْتَدَلَّ بَعْضُ مَشَايِخِنَا لِغَيْرِ الْعَظْمِ وَنَحْوِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل: ٨٠] وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ عُمُومُ الْآيَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَّ عَلَيْنَا بِأَنْ جَعَلَ لَنَا الِانْتِفَاعَ، وَلَمْ يَخُصَّ شَعْرَ الْمَيْتَةِ مِنْ الْمُذَكَّاةِ فَهُوَ عُمُومٌ إلَّا أَنْ يَمْنَعَ مِنْهُ دَلِيلٌ وَأَيْضًا، فَإِنَّ الْأَصْلَ كَوْنُهَا طَاهِرَةً قَبْلَ الْمَوْتِ بِإِجْمَاعٍ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ انْتَقَلَ إلَى نَجَاسَةٍ فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ، فَإِنْ قِيلَ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ الْجُمْلَةِ قُلْنَا نَخُصُّهُ بِمَا ذَكَرْنَا، فَإِنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي ذِكْرِ الصُّوفِ، وَلَيْسَ فِي آيَتِكُمْ ذِكْرُ الصُّوفِ صَرِيحًا، فَكَانَ دَلِيلُنَا أَوْلَى كَذَا ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ وَذَكَرَ أَنَّ الصُّوفَ لِلْغَنَمِ وَالْوَبَرَ لِلْإِبِلِ وَالشَّعْرَ لِلْمَعْزِ وَقَدْ أَجَابَ الْأَتْقَانِيُّ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ أَيْضًا عَنْ اسْتِدْلَالِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: ٣] بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ حُرْمَةُ الِانْتِفَاعِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ حُرْمَةَ الْأَكْلِ بِدَلِيلِ مَا رَوَيْنَاهُ فِي حَدِيثِ مَوْلَاةِ مَيْمُونَةَ وَلَئِنْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي بَعْضِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ رُطُوبَةٌ فَنَقُولُ نَحْنُ نَقُولُ أَيْضًا بِنَجَاسَتِهِ إذَا بَقِيَتْ الرُّطُوبَةُ وَكَلَامُنَا فِيمَا إذَا لَمْ تَبْقَ الرُّطُوبَةُ بِهِ فِي الْعَظْمِ وَالْحَافِرِ وَالظِّلْفِ وَنَحْوِهِ إذَا غُسِلَ الشَّعْرُ وَنَحْوُهُ وَأُزِيلَ عَنْهُ الدَّمُ الْمُتَّصِلُ وَالرُّطُوبَةُ النَّجِسَةُ وَلَئِنْ قَالَ الشَّعْرُ يَنْمُو بِنَمَاءِ الْأَصْلِ فَنَقُولُ: نَعَمْ يَنْمُو وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ النَّمَاءَ يَدُلُّ عَلَى الْحَيَاةِ الْحَقِيقِيَّةِ كَمَا فِي النَّبَاتِ وَالشَّجَرِ وَقَوْلُهُ بِنَمَاءِ الْأَصْلِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْمُو مَعَ نُقْصَانِ الْأَصْلِ كَمَا إذَا هَزَلَ الْحَيَوَانُ بِسَبَبِ مَرَضٍ فَطَالَ شَعْرُهُ اهـ.

وَقَدْ وَقَعَ فِي الْهِدَايَةِ تَعْرِيفُ الْمَوْتِ بِزَوَالِ الْحَيَاةِ فَقَالَ فِي كَشْفِ الْأَسْرَارِ شَرْحِ أُصُولِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ مِنْ بَابِ الْأَهْلِيَّةِ الْمَوْتُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ؛ لِأَنَّهُ ضِدُّ الْحَيَاةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك: ٢] وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ هُوَ زَوَالُ الْحَيَاةِ، فَهُوَ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ وَتَفْسِيرُ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ بِزَوَالِ الْحَيَاةِ تَفْسِيرٌ بِلَازِمِهِ كَذَا نُقِلَ عَنْ الْعَلَّامَةِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْكُرْدِيِّ اهـ.

وَهَكَذَا أَوَّلَهُ فِي الْكَافِي وَذُكِرَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ أَنَّ الْمَوْتَ ضِدُّ الْحَيَاةِ وَالضِّدَّانِ صِفَتَانِ وُجُودِيَّتَانِ يَتَعَاقَبَانِ عَلَى مَوْضُوعٍ وَاحِدٍ وَيَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُهُمَا، وَيَجُوزُ ارْتِفَاعُهُمَا وَزَوَالُ الْحَيَاةِ لَيْسَ بِضِدِّ الْحَيَاةِ كَمَا أَنَّ زَوَالَ السُّكُونِ لَيْسَ بِضِدِّ السُّكُونِ فَكَانَ هَذَا تَعْرِيفًا بِلَازِمِهِ اهـ.

وَتَعَقَّبَهُ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ زَوَالَ الْحَيَاةِ لَيْسَ بِضِدٍّ لَهَا، وَكَيْفَ يُقَالُ هَذَا وَزَوَالُ الْحَيَاةِ مَعَ الْحَيَاةِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَيْسَ مَعْنَى التَّضَادِّ إلَّا هَذَا وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ زَوَالَ الْحَيَاةِ لَيْسَ بِوُجُودِيٍّ فَهَلْ لِزَوَالِ الْحَيَاةِ وُجُودٌ أَمْ لَا، فَإِنْ قُلْت نَعَمْ فَيَكُونُ زَوَالُ الْحَيَاةِ وُجُودِيًّا، وَإِنْ قُلْت لَا فَيَكُونُ حِينَئِذٍ زَوَالُ الْحَيَاةِ حَيَاةً، وَهُوَ مُحَالٌ؛ لِأَنَّ عَدَمَ زَوَالِ الْحَيَاةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْحَيَاةِ اهـ.

وَلَا يَخْفَى ضَعْفُهُ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ نَفْسُ زَوَالِ الْحَيَاةِ لَا عَدَمُ زَوَالِهَا وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ نَقِيضِ الشَّيْءِ عَدَمِيًّا أَنْ يَكُونَ عَدَمَ عَدَمِهِ حَتَّى يَكُونَ نَفْيَ النَّفْيِ، فَيَكُونُ إثْبَاتًا، وَأَمَّا جَعْلُهُ زَوَالَ الْحَيَاةِ ضِدًّا لَهَا فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ؛ لِأَنَّ التَّضَادَّ الْحَقِيقِيَّ هُوَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمَوْجُودَيْنِ اللَّذَيْنِ يُمْكِنُ تَعَقُّلُ أَحَدِهِمَا مَعَ الذُّهُولِ عَنْ الْآخَرِ تَعَاقُبٌ عَلَى الْمَوْضُوعِ وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا غَايَةُ الْخِلَافِ، وَهِيَ مَا يَكُونُ مُقْتَضَى كُلٍّ مِنْهُمَا مُغَايِرَ الْمُقْتَضَى الْآخَرِ كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ، فَإِنَّ مُقْتَضَى أَحَدِهِمَا قَبْضُ الْبَصَرِ وَمُقْتَضَى الثَّانِي تَفْرِيقُهُ وَلَا شَكَّ أَنَّ زَوَالَ الْحَيَاةِ عَدَمِيٌّ فَلَا يَكُونُ ضِدًّا لَهَا، وَإِنَّمَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا تَقَابُلُ الْعَدَمِ وَالْمَلَكَةِ

وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ فِي شَرْحِ الْمُغْنِي أَنَّ هَذَا الْفَرْقَ إنَّمَا هُوَ عَلَى اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْمَعْقُولِ أَمَّا عَلَى اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ فَالضِّدُّ

ــ

[منحة الخالق]

(قَوْلُهُ: فَإِنْ قُلْت الْمَفْهُومُ مِنْ الْآيَةِ) أَيْ، فَإِنْ قُلْت فِي الْجَوَابِ عَنْ الْآيَةِ جَوَابًا رَابِعًا (قَوْلُهُ: وَإِذَا غُسِلَ الشَّعْرُ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ إذَا لَمْ تَبْقَ الرُّطُوبَةُ

<<  <  ج: ص:  >  >>