وَحُكِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ مَاتَ وَاحِدٌ مِنْ تَلَامِذَتِهِ فَبَاعَ مُحَمَّدٌ كُتُبَهُ وَأَنْفَقَ فِي تَجْهِيزِهِ فَقِيلَ لَهُ إنَّهُ لَمْ يُوصِ بِذَلِكَ إلَى أَحَدٍ فَتَلَا مُحَمَّدٌ قَوْله تَعَالَى {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: ٢٢٠] فَمَا كَانَ عَلَى قِيَاسِ هَذَا الْأَصْلِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى اسْتِحْسَانًا أَمَّا فِي الْحُكْمِ فَهُوَ ضَامِنٌ، وَكَذَا الْوَرَثَةُ الْكِبَارُ إذَا أَنْفَقُوا عَلَى الصِّغَارِ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ وَصِيٌّ فَإِنَّهُمْ مُتَطَوِّعُونَ حُكْمًا، وَأَمَّا دِيَانَةً فَإِنَّهُمْ مُحْسِنُونَ وَيَسَعُهُمْ أَنْ يُقِرُّوا بِمَا فَضَلَ مِنْ نَصِيبِ الصِّغَارِ فَقَطْ، وَلَوْ حَلَفُوا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ وَنَظِيرُهُ إذَا عَرَفَ الْوَصِيُّ الدَّيْنَ عَلَى الْمَيِّتِ فَقَضَاهُ وَلَمْ يُقِرَّ بِذَلِكَ وَلَمْ يَعْرِفْهُ الْقَاضِي وَلَا الْوَرَثَةُ وَلَا يَأْثَمُ.
وَكَذَا إذَا كَانَ لِرَجُلٍ عِنْدَ رَجُلٍ وَدِيعَةٌ وَعَلَى صَاحِبِ الْوَدِيعَةِ مِثْلُهَا دَيْنٌ وَالْمُودَعُ يَعْلَمُ أَنَّهُ مَاتَ وَلَمْ يَقْبِضْ دَيْنَهُ وَسِعَ الْمُودَعَ أَنْ يَقْضِيَ ذَلِكَ الدَّيْنَ بِمَالِهِ وَلَا يَقْرَبَهُ، وَكَذَا إذَا كَانَ لِعَمْرٍو عَلَى زَيْدٍ دَيْنٌ وَعَلَى عَمْرٍو مِثْلُ ذَلِكَ الدَّيْنِ لِرَجُلٍ آخَرَ فَمَاتَ عَمْرٌو وَزَيْدٌ يَعْرِفُ أَنَّ عَمْرًا لَمْ يَقْضِ دَيْنَهُ يَسَعُ لِزَيْدٍ أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَ عَمْرٍو بِمَا لِعَمْرٍو عَلَى زَيْدٍ وَلَا يُخْبِرَ وَرَثَتَهُ بِذَلِكَ اهـ.
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ أَخَذَ الرَّايَةَ وَتَأَمَّرَ مِنْ غَيْرِ تَأْمِيرٍ لِأَجْلِ الْإِصْلَاحِ ذَكَرَهُ الْكَرْمَانِيُّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ الْجَنَائِزِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ أَنَّهُ هَلْ يَرْجِعُ بِمَا أَنْفَقَهُ عَلَى مَنْ أَنْفَقَ عَلَيْهِ عِنْدَ ضَمَانِهِ وَقَالُوا لَا رُجُوعَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمُودَعَ مَلَكَ الْمَدْفُوعَ بِالضَّمَانِ فَكَانَ مُتَبَرِّعًا بِمِلْكِ نَفْسِهِ وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِمْ وَبَيْنَ أَنْ يَدْفَعَ الْوَدِيعَةَ إلَيْهِمْ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ وَعَدَمِ الرُّجُوعِ عَلَيْهِمْ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ فِيهِمَا وَلَمْ أَرَ أَنَّهُ إذَا أَنْفَقَ عَلَيْهِمْ بِلَا أَمْرٍ، ثُمَّ أَجَازَ الْمَالِكُ لِظُهُورِ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ إبْرَاءٌ لَهُ مِنْ الضَّمَانِ، وَلِقَوْلِهِمْ إنَّ الْإِجَازَةَ اللَّاحِقَةَ كَالْوَكَالَةِ السَّابِقَةِ.
(قَوْلُهُ: وَلَوْ أَنْفَقَا مَا عِنْدَهُمَا لَا) أَيْ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا اسْتَوْفَيَا حَقَّهُمَا؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهُمَا وَاجِبَةٌ قَبْلَ الْقَضَاءِ عَلَى مَا مَرَّ، وَقَدْ أَخَذَا جِنْسَ الْحَقِّ وَفِي الْخُلَاصَةِ، وَلَوْ أَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ مَالِ الِابْنِ، ثُمَّ خَاصَمَهُ الِابْنُ فَقَالَ أَنْفَقْتَهُ وَأَنْتَ مُوسِرٌ، وَقَالَ الْأَبُ أَنْفَقْتُهُ وَأَنَا مُعْسِرٌ قَالَ اُنْظُرْ إلَى حَالِ الْأَبِ يَوْمَ الْخُصُومَةِ إنْ كَانَ مُعْسِرًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ اسْتِحْسَانًا فِي نَفَقَةِ مِثْلِهِ وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الِابْنِ، وَلَوْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الِابْنِ اهـ.
وَحُكْمُ الزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ كَالْأَبَوَيْنِ إذَا أَنْفَقَا مَا عِنْدَهُمَا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْقَرِيبِ الْمَحْرَمِ الْعَاجِزِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ بِالْإِنْفَاقِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا رِضًا قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ إنَّ نَفَقَةَ الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ وَالزَّوْجَةِ وَاجِبَةٌ قَبْلَ الْقَضَاءِ حَتَّى إذَا ظَفِرَ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ بِجِنْسِ حَقِّهِمْ كَانَ لَهُ الْأَخْذُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا رِضًا فَأَمَّا نَفَقَةُ سَائِرِ الْأَقَارِبِ لَا تَجِبُ إلَّا بِالْقَضَاءِ أَوْ الرِّضَا حَتَّى لَوْ ظَفِرَ وَاحِدٌ مِنْ الْأَقَارِبِ بِجِنْسِ حَقِّهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْأَخْذُ إلَّا بِقَضَاءٍ أَوْ رِضًا؛ وَلِذَا يَفْرِضُ الْقَاضِي فِي مَالِ الْغَائِبِ نَفَقَةَ الْأَوَّلَيْنِ فَقَطْ اهـ.
(قَوْلُهُ: وَلَوْ قَضَى بِنَفَقَةِ الْوِلَادِ وَالْقَرِيبِ وَمَضَتْ مُدَّةٌ سَقَطَتْ) لِأَنَّ نَفَقَةَ هَؤُلَاءِ تَجِبُ كِفَايَةً لِلْحَاجَةِ حَتَّى تَجِبَ مَعَ الْيَسَارِ، وَقَدْ حَصَلَتْ الْكِفَايَةُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ بِخِلَافِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ إذَا قَضَى بِهَا الْقَاضِي؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ مَعَ يَسَارِهَا فَلَا تَسْقُطُ بِحُصُولِ الِاسْتِغْنَاءِ فِيمَا مَضَى وَلَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِأَنَّهُ يَأْثَمُ وَمُقْتَضَى وُجُوبِهَا أَنَّهُ يَأْثَمُ بِتَرْكِهَا إذَا طَلَبَهَا صَاحِبُهَا وَامْتَنَعَ مَعَ أَنَّهُمْ قَالُوا إنَّهَا لَا تَجِبُ إلَّا بِالْقَضَاءِ أَوْ الرِّضَا كَمَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ الذَّخِيرَةِ؛ وَلِذَا لَيْسَ لِمَنْ هِيَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِغَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا رِضًا وَصَرَّحَ الْخَصَّافُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي بِأَنَّهَا لَا تَجِبُ إلَّا بِالْقَضَاءِ لِلِاخْتِلَافِ فِيهَا وَاسْتَشْكَلَهُ السُّرُوجِيُّ فِي الْغَايَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُمْ جَعَلُوا الْقَاضِيَ نَفْسَهُ هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ هَذِهِ النَّفَقَةَ وَالْقَاضِي لَيْسَ بِمُشَرِّعٍ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَانْقَطَعَ مِنْ بَعْدِهِ فَهُوَ مُشْكِلٌ جِدًّا وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ الطَّرَسُوسِيُّ فِي أَنْفَعِ الْوَسَائِلِ، وَقَالَ لِمَ قِيلَ إنَّ الْوُجُوبَ يَثْبُتُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: ٢٣٣] فَقَضَاءُ الْقَاضِي إعَانَةٌ لَهُ كَمَا فِي نَفَقَةِ الْأَوْلَادِ كَيْفَ وَأَنَّهُمْ قَدْ اسْتَدَلُّوا فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الْقَرِيبِ وَكَلِمَةُ عَلَى لِلْإِيجَابِ وَلَا يُعَكَّرُ عَلَى هَذَا اخْتِلَافُ
ــ
[منحة الخالق]
(قَوْلُهُ: وَكَذَا الْوَرَثَةُ الْكِبَارُ إلَخْ) ذَكَرَ فِي نَفَقَاتِ الْخَصَّافِ الْأَخَ الْكَبِيرَ مَعَ الْأَخِ الصَّغِيرِ إذَا وَرِثَا مَالًا وَفِي الْبَلَدِ قَاضٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ فَأَنْفَقَ الْأَخُ مِنْ نَصِيبِ الْأَخِ الصَّغِيرِ عَلَيْهِ يَضْمَنُ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ وَكَتَبْت فِي آخِرِهَا كَرَاهِيَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِنْفَاقَ فَيُحْتَمَلُ أَنَّ تَأْوِيلَ مَا ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ الْإِنْفَاقُ مِنْ جِنْسِ النَّفَقَةِ مِنْ طَعَامٍ وَغَيْرِهِ وَفِي هَذَا لَا يَحْتَاجُ إلَى بَيْعِ نَصِيبِ الْأَخِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْأَخَ فِي حِجْرِهِ وَالْمَالُ دَرَاهِمُ وَيَحْتَاجُ إلَى شِرَاءِ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ وَهُوَ النَّفَقَةُ وَالْأَخُ الْكَبِيرُ يَمْلِكُ ذَلِكَ إذَا كَانَ الصَّغِيرُ فِي حِجْرِهِ وَإِلَّا فَلَا فَيَصِيرُ حَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّهُ إذَا كَانَ طَعَامًا يُنْفِقُ سَوَاءٌ كَانَ فِي حِجْرِهِ أَوْ لَا وَإِنْ كَانَ دَرَاهِمَ إنْ كَانَ فِي حِجْرِهِ يَمْلِكُ شِرَاءَ الطَّعَامِ وَالنَّفَقَةِ وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَحْتَاجُ إلَى بَيْعِهِ لَا يَمْلِكُ إلَّا أَنْ يَجْعَلَهُ الْقَاضِي وَصِيًّا كَذَا فِي التَّتَارْخَانِيَّة.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute