للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بِالتَّفْسِيرَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ وَكَذَا بِالثَّالِثِ مُتَّفَقٌ عَلَى عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْآخِرَةِ وَكَذَا بِالدُّنْيَا بِالْكَفَّارَةِ فَلَمْ يَتِمَّ الْعُذْرُ عَنْ التَّعْلِيقِ بِالرَّجَاءِ فَالْأَوْجَهُ مَا قِيلَ إنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ التَّعْلِيقَ بَلْ التَّبَرُّكَ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّأَدُّبَ فَهُوَ كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِأَهْلِ الْمَقَابِرِ «وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ» وَأَمَّا بِالتَّفْسِيرِ الرَّابِعِ فَغَيْرُ مَشْهُورٍ وَكَوْنُهُ لَغْوًا هُوَ اخْتِيَارُ سَعِيدٍ اهـ.

وَأَرَادَ بِالتَّفْسِيرَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ تَفْسِيرَنَا وَتَفْسِيرَ الشَّافِعِيِّ وَبِالثَّالِثِ مَا عَنْ الشَّعْبِيِّ وَمَسْرُوقٍ لَغْوُ الْيَمِينِ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى مَعْصِيَةٍ فَيَنْزِلُ لَاغِيًا بِيَمِينِهِ وَبِالرَّابِعِ قَوْلَ سَعِيدٍ أَنْ يُحَرِّمَ عَلَى نَفْسِهِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَوْلَى الْجَزْمُ كَمَا فَعَلَ الْمُصَنِّفُ لِقَطْعِيَّةِ الدَّلِيلِ كَالْجَزْمِ فِي نَظَائِرِهِ مِمَّا فِي مَعْنَاهُ اخْتِلَافٌ. .

(قَوْلُهُ: وَعَلَى آتٍ مُنْعَقِدَةٌ وَفِيهَا كَفَّارَةٌ فَقَطْ) أَيْ حَلِفُهُ عَلَى آتٍ تُسَمَّى مُنْعَقِدَةً نَفْيًا كَانَ أَوْ إثْبَاتًا وَحُكْمُهَا وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ إذَا حَنِثَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: ٨٩] الْآيَةَ وَالْمُرَادُ مِنْهَا الْيَمِينُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: ٨٩] وَلَا يُتَصَوَّرُ الْحِفْظُ عَنْ الْحِنْثِ وَالْهَتْكِ إلَّا فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَقَدْ اُعْتُرِضَ فِي التَّبْيِينِ عَلَى الْمُصَنِّفِ بِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ فَقَطْ لِأَنَّ فِي الْيَمِينِ الْمُنْعَقِدَةِ إثْمًا أَيْضًا، وَلَفْظُ الْكَفَّارَةِ يُنْبِئُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهَا السِّتَارَةُ وَهِيَ لَا تَجِبُ إلَّا لِرَفْعِ الْمَأْثَمِ اهـ.

وَهُوَ مَرْدُودٌ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ فَقَطْ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِي غَيْرِهَا مِنْ الْغَمُوسِ بَيَانًا لِذَلِكَ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ فِي الْغَمُوسِ كَالْمُنْعَقِدَةِ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ لِدَفْعِ ذَنْبِ هَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ تَحَقَّقَ بِالِاسْتِشْهَادِ بِاَللَّهِ كَاذِبًا فَأَشْبَهَ الْمَعْقُودَةَ وَلَنَا أَنَّهَا كَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ، وَالْكَفَّارَةُ عِبَادَةٌ حَتَّى تَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ وَيُشْتَرَطُ فِيهَا النِّيَّةُ فَلَا تُنَاطُ بِهَا بِخِلَافِ الْمَعْقُودَةِ فَإِنَّهَا مُبَاحَةٌ وَلَوْ كَانَ فِيهَا ذَنْبٌ فَهُوَ مُتَأَخِّرٌ مُتَعَلِّقٌ بِاخْتِيَارٍ مُبْتَدَأٍ وَمَا فِي الْغَمُوسِ مُلَازِمٌ فَيَمْتَنِعُ الْإِلْحَاقُ كَذَا فِي الْهِدَايَةِ.

وَذَكَرَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ أَنَّ الْمَعْقُودَةَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَيْسَتْ سِوَى الْمَكْسُوبَةِ بِالْقَلْبِ، وَكَوْنُ الْغَمُوسِ قَارَنَهَا الْحِنْثُ لَا يَنْفِي الِانْعِقَادَ عِنْدَهُ وَكَوْنُهَا لَا تُسَمَّى يَمِينًا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَنْعَقِدْ لِلْبِرِّ بَعِيدٌ؛ إذْ لَا شَكَّ فِي تَسْمِيَتِهَا يَمِينًا لُغَةً وَعُرْفًا وَشَرْعًا بِحَيْثُ لَا يَقْبَلُ التَّشْكِيكَ فَلَيْسَ الْوَجْهُ إلَّا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ شَرْعِيَّةَ الْكَفَّارَةِ لِدَفْعِ ذَنْبٍ أَصْغَرَ لَا يَسْتَلْزِمُ شَرْعَهَا لِدَفْعِ ذَنْبٍ أَكْبَرَ وَإِذَا أَدْخَلَهَا فِي مُسَمَّى الْمُنْعَقِدَةِ وَجَعَلَ الْمُنْعَقِدَةَ تَنْقَسِمُ إلَى غَمُوسٍ وَغَيْرِهَا عَسُرَ النَّظَرُ مَعَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ لُغَةً، أَوْ سَمْعًا وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي حَدِيثٍ مُطَوَّلٍ قَالَ فِيهِ «خَمْسٌ لَيْسَ فِيهِنَّ كَفَّارَةٌ الشِّرْكُ بِاَللَّهِ وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَهْبُ الْمُؤْمِنِ وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ وَيَمِينٌ صَابِرَةٌ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ» وَكُلُّ مَنْ قَالَ لَا كَفَّارَةَ فِي الْغَمُوسِ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الْيَمِينِ الْمَصْبُورَةِ عَلَى مَالٍ وَغَيْرِهَا اهـ.

ثَانِيهِمَا: أَنَّ الْإِثْمَ لَيْسَ لَازِمًا لِلْمُنْعَقِدَةِ بَلْ قَدْ يَكُونُ الْحِنْثُ وَاجِبًا وَقَدْ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا فَلَمْ يَصِحَّ إطْلَاقُهُ كَمَا لَا يَخْفَى وَالْعَجَبُ مِنْهُ أَنَّهُ بَعْدَ يَسِيرٍ نَاقَضَ نَفْسَهُ بِأَنْ قَالَ لَوْ فَعَلَهُ الْحَالِفُ وَهُوَ مُغْمًى عَلَيْهِ، أَوْ مَجْنُونٌ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ لِتَحَقُّقِ الشَّرْطِ حَقِيقَةً وَلَوْ كَانَتْ الْحِكْمَةُ رَفْعَ الذَّنْبِ فَالْحُكْمُ يُدَارُ عَلَى دَلِيلِهِ وَهُوَ الْحِنْثُ لَا عَلَى حَقِيقَةِ الذَّنْبِ كَمَا أُدِيرَ الْحُكْمُ عَلَى السَّفَرِ لَا عَلَى حَقِيقَةِ الْمَشَقَّةِ اهـ.

فَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ فِي الْكَفَّارَةِ أَنْ تَكُونَ سِتَارَةً لِلذَّنْبِ بَلْ تَجِبُ وَلَا ذَنْبَ أَصْلًا.

(قَوْلُهُ: وَلَوْ مُكْرَهًا، أَوْ نَاسِيًا) أَيْ فِي الْمُنْعَقِدَةِ كَفَّارَةٌ إذَا حَنِثَ وَلَوْ كَانَ حَلَفَ مُكْرَهًا، أَوْ نَاسِيًا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْيَمِينُ» كَذَا اسْتَدَلَّ مَشَايِخُنَا وَتَعَقَّبَهُمْ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ بِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ حَدِيثُ الْيَمِينِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِيهِ جَعْلُ الْهَزْلِ

ــ

[منحة الخالق]

النَّهْرِ غَيْرُ ظَاهِرٍ بَلْ هُوَ كَالْحَدِيثِ تَأَمَّلْ. نَعَمْ بَحْثُ الْمُؤَلِّفِ مَحَلُّ تَأَمُّلٍ، وَفِي شَرْحِ الْمَقْدِسِيَّ أَيُّ مَفْسَدَةٍ أَعْظَمُ مِنْ هَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى.

(قَوْلُهُ: فَالْأَوْجَهُ مَا قِيلَ إلَخْ) قَالَ فِي النَّهْرِ وَأَقُولُ: اخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ فِي الْمُؤَاخَذَةِ الْمَنْفِيَّةِ فَقِيلَ: هِيَ الْمُعَاقَبَةُ فِي الْآخِرَةِ وَقِيلَ هِيَ الْمُؤَاخَذَةُ بِالْكَفَّارَةِ، كَذَا فِي الْكَشَّافِ وَغَيْرِهِ، وَالثَّانِي أَظْهَرُ بِدَلِيلِ مَا بَعْدَهُ وَلَا شَكَّ أَنَّ تَفْسِيرَ اللَّغْوِ عَلَى رَأْيِنَا لَيْسَ أَمْرًا مَقْطُوعًا بِهِ؛ إذْ الشَّافِعِيُّ قَائِلٌ بِأَنَّ هَذَا مِنْ الْمُنْعَقِدَةِ فَلَا جَرَمَ عَلَّقَهُ بِالرَّجَاءِ وَهَذَا مَعْنًى دَقِيقٌ وَلَمْ أَرَ مَنْ عَرَّجَ عَلَيْهِ اهـ.

وَنَظَرَ بَعْضُهُمْ فِيهِ بِأَنَّ خِلَافَ الشَّافِعِيِّ بَعْدَ مُحَمَّدٍ فَكَيْفَ يُقَالُ: إنَّ مُحَمَّدًا عَلَّقَهُ بِالرَّجَاءِ بِاعْتِبَارِهِ وَحِينَئِذٍ فَلَا مَحِيصَ عَمَّا قَالَهُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْهُمَامِ اهـ.

فَالْأَنْسَبُ أَنْ يَقُولَ فِي النَّهْرِ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ فَحَيْثُ كَانَ الْمَنْفِيُّ الْمُؤَاخَذَةَ بِالْكَفَّارَةِ كَانَ اللَّغْوُ بِالنَّظَرِ إلَى حُكْمِ الْآخِرَةِ مَسْكُوتًا عَنْهُ فِي الْآيَةِ فَلَا نَصَّ عَلَيْهِ فَلِذَا عَلَّقَهُ بِالرَّجَاءِ وَقَدْ يُقَالُ أَيْضًا: إنَّ اجْتِهَادَ الْإِمَامِ مُحَمَّدٍ بِأَنَّ اللَّغْوَ هُوَ كَذَا لَيْسَ قَطْعِيًّا نَافِيًا لِاجْتِهَادِ غَيْرِهِ بِخِلَافِهِ فَحَيْثُ كَانَ مَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ مَبْنِيًّا عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ هُوَ اللَّغْوُ لَمْ يَجْزِمْ بِحُكْمِهِ لِاحْتِمَالِ أَنَّ اللَّغْوَ هُوَ غَيْرُهُ تَأَمَّلْ.

(قَوْلُهُ: نَاقَضَ نَفْسَهُ بِأَنْ قَالَ إلَخْ) أَجَابَ فِي النَّهْرِ بِأَنَّ الْمُدَّعَى

<<  <  ج: ص:  >  >>