فَتَكُونُ كَلِمَةً لَا مُضْمَرَةً فِيهِ؛ لِأَنَّ الْحَلِفَ فِي الْإِثْبَاتِ عِنْدَ الْعَرَبِ لَا يَكُونُ إلَّا بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ وَهُوَ اللَّامُ وَالنُّونُ كَقَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلَنَّ كَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء: ٥٧] وَإِضْمَارُ الْكَلِمَةِ فِي الْكَلَامِ اسْتَعْمَلَتْهُ الْعَرَبُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: ٨٢] أَيْ أَهْلَهَا فَأَمَّا إضْمَارُ بَعْضِ الْكَلِمَةِ فِي الْبَعْضِ مَا اسْتَعْمَلَتْهُ الْعَرَبُ اهـ.
(قَوْلُهُ: وَكَفَّارَتُهُ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، أَوْ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ كَمَا فِي الظِّهَارِ، أَوْ كِسْوَتُهُمْ بِمَا يَسْتُرُ عَامَّةَ الْبَدَنِ) أَيْ وَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ بِمَعْنَى الْقَسَمِ أَوْ الْحَلِفِ لِمَا قَدَّمْنَا أَنَّهَا مُؤَنَّثَةٌ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: ٨٩] وَكَلِمَةُ " أَوْ " لِلتَّخْيِيرِ فَكَانَ الْوَاجِبُ أَحَدَ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ وَالتَّخْيِيرُ لَا يُنَافِي التَّكْلِيفَ؛ لِأَنَّ صِحَّتَهُ بِإِمْكَانِ الِامْتِثَالِ وَهُوَ ثَابِتٌ؛ لِأَنَّهُ بِفِعْلِ أَحَدِهَا يَبْطُلُ قَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّ التَّخْيِيرَ يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّكْلِيفِ فَأَوْجَبَ خِصَالَ الْكَفَّارَةِ مَعَ السُّقُوطِ بِالْبَعْضِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي التَّحْرِيرِ، وَفِي شَرْحِ الْمَنَارِ لَوْ أَدَّى الْكُلَّ لَا يَقَعُ عَنْ الْكَفَّارَةِ إلَّا وَاحِدٌ وَهُوَ مَا كَانَ أَعْلَى قِيمَةً وَلَوْ تَرَكَ الْكُلَّ يُعَاقَبُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهَا وَهُوَ مَا كَانَ أَدْنَى قِيمَةً؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ يَسْقُطُ بِالْأَدْنَى، وَهِيَ مِنْ الْكُفْرِ بِمَعْنَى السَّتْرِ، وَإِضَافَتُهَا إلَى الْيَمِينِ إضَافَةٌ إلَى الشَّرْطِ مَجَازًا لِأَنَّ السَّبَبَ عِنْدَنَا الْحِنْثُ كَمَا سَيَأْتِي وَعَبَّرَ بِالتَّحْرِيرِ بِمَعْنَى الْإِعْتَاقِ دُونَ الْعِتْقِ اتِّبَاعًا لِلْآيَةِ وَلِيُفِيدَ أَنَّ الشَّرْطَ الْإِعْتَاقُ فَلَوْ وَرِثَ مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ فَنَوَى عَنْ الْكَفَّارَةِ لَا يَجُوزُ وَأَفَادَ بِقَوْلِهِ كَمَا فِي الظِّهَارِ أَيْ التَّحْرِيرُ وَالْإِطْعَامُ هُنَا كَالتَّحْرِيرِ وَالْإِطْعَامِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ أَنَّهُ يَجُوزُ الرَّقَبَةُ مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ كَافِرَةً ذَكَرًا كَانَ، أَوْ أُنْثَى صَغِيرَةً كَانَتْ، أَوْ كَبِيرَةً وَلَا يَجُوزُ فَائِتُ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ وَلَا الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ وَلَا الْمُكَاتَبُ الَّذِي أَدَّى بَعْضَ شَيْءٍ وَيَجُوزُ فِي الْإِطْعَامِ التَّمْلِيكُ وَالْإِبَاحَةُ فَإِنْ مَلَكَ أَعْطَى نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ لِكُلِّ مِسْكِينٍ، وَإِنْ أَبَاحَ غَدَّاهُمْ وَعَشَّاهُمْ فَإِنْ كَانَ بِخُبْزِ الْبُرِّ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْإِدَامِ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ خُبْزِ الْبُرِّ احْتَاجَ إلَيْهِ عَلَى التَّفَاصِيلِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَفِي الْخُلَاصَةِ لَوْ أَعْطَى عَشَرَةَ مَسَاكِينَ كُلَّ مِسْكِينٍ أَلْفَ مَنٍّ مِنْ الْحِنْطَةِ عَنْ كَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ لَا يَجُوزُ إلَّا عَنْ كَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَكَذَا فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَفِي نُسْخَةِ الْإِمَامِ السَّرَخْسِيِّ لَوْ أَطْعَمَ خَمْسَةَ مَسَاكِينَ وَكَسَا خَمْسَةَ مَسَاكِينَ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ عَنْ الطَّعَامِ إنْ كَانَ الطَّعَامُ أَرْخَصَ مِنْ الْكِسْوَةِ، وَعَلَى الْقَلْبِ لَا يَجُوزُ وَهَذَا فِي طَعَامِ الْإِبَاحَةِ أَمَّا إذَا مَلَّكَ الطَّعَامَ فَيَجُوزُ وَيَقُومُ مَقَامَ الْكِسْوَةِ وَلَوْ أَدَّى إلَى مِسْكِينٍ مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ وَنِصْفَ صَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ يَجُوزُ اهـ.
وَخَرَجَ السَّرَاوِيلُ بِقَوْلِهِ بِمَا يَسْتُرُ عَامَّةَ الْبَدَنِ وَصَحَّحَهُ فِي الْهِدَايَةِ؛ لِأَنَّ لَابِسَهُ يُسَمَّى عُرْيَانًا فِي الْعُرْفِ وَلِذَا قَالَ فِي الْخَانِيَّةِ لَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا مِنْ غَزْلِ فُلَانَةَ فَلَبِسَ مِنْ غَزْلِهَا سَرَاوِيلَ لَمْ يَحْنَثْ فِي يَمِينِهِ لَكِنْ مَا لَا يُجْزِئُهُ عَنْ الْكِسْوَةِ يُجْزِئُهُ عَنْ الطَّعَامِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُعْطِيَهُ قَمِيصًا، أَوْ جُبَّةً، أَوْ إزَارًا أَوْ قَبَاءً سَابِلًا بِحَيْثُ يَتَوَشَّحُ بِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَإِلَّا فَهُوَ كَالسَّرَاوِيلِ وَلَا تُجْزِئُ الْعِمَامَةُ إلَّا أَنَّهُ إنْ أَمْكَنَ أَنْ يُتَّخَذَ مِنْهَا ثَوْبٌ يُجْزِئُ مِمَّا ذَكَرْنَا جَازَ أَمَّا الْقَلَنْسُوَةُ فَلَا تُجْزِئُ بِحَالٍ قَالَ الطَّحَاوِيُّ هَذَا كُلُّهُ إذَا دَفَعَ إلَى الرَّجُلِ أَمَّا إذَا دَفَعَ إلَى الْمَرْأَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْخِمَارِ مَعَ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّ صَلَاتَهَا لَا تَصِحُّ بِدُونِهِ قَالَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ: وَهَذَا يُشَابِهُ الرِّوَايَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي دَفْعِ السَّرَاوِيلِ أَنَّهُ لِلْمَرْأَةِ لَا يَكْفِي وَهَذَا كُلُّهُ خِلَافُ ظَاهِرِ الْجَوَابِ، وَإِنَّمَا ظَاهِرُ الْجَوَابِ مَا يَثْبُتُ بِهِ اسْمُ الْمُكْتَسِي وَيَنْتَفِي عَنْهُ اسْمُ الْعُرْيَانِ وَعَلَيْهِ بُنِيَ عَدَمُ إجْزَاءِ السَّرَاوِيلِ لَا صِحَّةُ الصَّلَاةِ وَعَدَمُهَا فَإِنَّهُ لَا دَخْلَ لَهُ فِي الْأَمْرِ بِالْكِسْوَةِ؛ إذْ لَيْسَ مَعْنَاهُ إلَّا جَعْلَ الْفَقِيرِ مُكْتَسِيًا اهـ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ: وَفِي الثَّوْبِ يُعْتَبَرُ حَالُ الْقَابِضِ إنْ كَانَ يَصْلُحُ لِلْقَابِضِ يَجُوزُ
ــ
[منحة الخالق]
كَلَامَهُ فَإِنَّهُ ظَاهِرُ النَّقْلِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَالنَّقْلُ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ اهـ.
أَقُولُ: مُرَادُ الْمَقْدِسِيَّ بِقَوْلِهِ لَا يَكُونُ يَمِينًا أَيْ عَلَى الْإِثْبَاتِ كَمَا هُوَ مُرَادُ الْحَالِفِ وَمَعْنَى قَوْلِهِ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِمْ فِيهَا أَيْ عَلَى تَقْدِيرِ تَرْكِ ذَلِكَ الشَّيْءِ وَمَا اعْتَرَضَهُ الرَّمْلِيُّ فِيهِ نَظَرٌ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ جُمْلَةِ اللَّحْنِ فَقَدْ فَسَّرَهُ فِي الْقَامُوسِ بِالْخَطَأِ وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ مُرَادَهُ بِالِاسْتِشْهَادِ بِمَا فِي الْوَلْوَالِجيَّةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ جَعَلَهُ يَمِينًا مَعَ النِّيَّةِ مَعَ أَنَّهُ مُثْبَتٌ، وَحَرْفَ التَّوْكِيدِ مَفْقُودٌ فِيهِ هَذَا وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: مَا بَحَثَهُ الْمَقْدِسِيَّ وَجِيهٌ وَقَوْلُ بَعْضِ النَّاسِ إنَّهُ يُصَادِمُ الْمَنْقُولَ يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْمَنْقُولَ فِي الْمَذْهَبِ كَانَ عَلَى عُرْفِ صَدْرِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ تَتَغَيَّرَ اللُّغَةُ وَأَمَّا الْآنَ فَلَا يَأْتُونَ بِاللَّامِ وَالنُّونِ فِي مُثْبَتِ الْقَسَمِ أَصْلًا وَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ بِوُجُودِ لَا وَعَدَمِهَا، وَمَا اصْطِلَاحُهُمْ عَلَى هَذَا إلَّا كَاصْطِلَاحِ لُغَةِ الْفُرْسِ وَنَحْوِهَا فِي الْأَيْمَانِ لِمَنْ تَدَبَّرَ.
(قَوْلُهُ: قَالَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ إلَخْ) يُوهِمُ أَنَّ مُرَادَ صَاحِبِ الْفَتْحِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لِلْمَرْأَةِ الْخِمَارُ مَعَ الثَّوْبِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ أَنَّ التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورَ لَا يَصِحُّ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَأَنَّهُ يَكْفِي فِي الْخِمَارِ أَنْ يَسْتُرَ الرَّأْسَ، وَإِنْ لَمْ تَصِحَّ بِهِ الصَّلَاةُ يَدُلُّ عَلَيْهِ بَاقِي عِبَارَةِ الْفَتْحِ حَيْثُ قَالَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute