فِي الْعُرْفِ أَيْضًا لَهُمَا أَنَّ دَهْرًا يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الْحِينِ وَالزَّمَانِ يُقَالُ مَا رَأَيْتُهُ مُنْذُ دَهْرٍ، وَمُنْذُ حِينٍ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ تَوَقَّفَ فِي تَقْدِيرِهِ؛ لِأَنَّ اللُّغَاتِ لَا تُدْرَكُ قِيَاسًا وَالْعُرْفُ لَمْ يَعْرِفْ اسْتِمْرَارَهُ لِاخْتِلَافٍ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَالتَّوَقُّفُ عِنْدَ عَدَمِ الْمُرَجِّحِ مِنْ الْكَمَالِ، وَقَدْ تَوَقَّفَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ مَسْأَلَةً كَمَا فِي السِّرَاجِ الْوَهَّاجِ، وَقَدْ نُقِلَ لَا أَدْرِي عَنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ بَلْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَعَنْ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَمَا فِي الشَّرْحِ وَبِهَذَا عُلِمَ أَنَّ الْعِلْمَ بِجَمِيعِ الْمَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْفَقِيهِ أَيْ الْمُجْتَهِدِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ التَّهَيُّؤُ الْقَرِيبُ كَمَا بَيَّنَّاهُ أَوَّلَ الْكِتَابِ.
وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَا أُكَلِّمُهُ الْعُمُرَ فَهُوَ عَلَى الْأَبَدِ، وَاخْتَلَفَ جَوَابُ بِشْرِ بْنِ الْوَلِيدِ فِي الْمُنَكَّرِ نَحْوِ عُمُرًا فَمَرَّةً قَالَ فِي لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ عُمُرٍ يَقَعُ عَلَى يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَمَرَّةً قَالَ هُوَ مِثْلُ الْحِينِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ، وَفِي الْبَدَائِعِ أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُ يَقَعُ عَلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ.
(قَوْلُهُ: وَالْأَيَّامُ، وَأَيَّامٌ كَثِيرَةٌ وَالشُّهُورُ وَالسُّنُونَ عَشَرَةٌ، وَمُنَكَّرُهَا ثَلَاثَةٌ) بَيَانٌ لِأَقَلِّ الْجَمْعِ فِي بَابِ الْأَيْمَانِ، وَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُعَرَّفًا أَوْ مُنَكَّرًا فَإِذَا كَانَ مُعَرَّفًا كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ الْأَيَّامَ أَوْ الْجُمَعَ أَوْ الشُّهُورَ أَوْ السِّنِينَ انْصَرَفَ إلَى عَشَرَةٍ مِنْ تِلْكَ الْمَعْدُودَاتِ، وَكَذَلِكَ لَا يُكَلِّمُهُ الْأَزْمِنَةَ انْصَرَفَ إلَى خَمْسِ سِنِينَ؛ لِأَنَّ كُلَّ زَمَانٍ سِتَّةُ أَشْهُرٍ عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ، وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا فِي الْأَيَّامِ يَنْصَرِفُ إلَى أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ، وَفِي الشُّهُورِ إلَى اثْنَيْ عَشَرِ شَهْرًا، وَفِي الْجُمَعِ وَالسِّنِينَ وَالدُّهُورِ وَالْأَزْمِنَةِ إلَى الْأَبَدِ؛ لِأَنَّ اللَّامَ لِلْعَهْدِ إذَا أَمْكَنَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَهِيَ لِلِاسْتِغْرَاقِ وَالْعَهْدُ ثَابِتٌ فِي الْأَيَّامِ وَالشُّهُورِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَلَا عَهْدَ فِي خُصُوصِ مَا سِوَاهُمَا فَكَانَ لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَهُوَ اسْتِغْرَاقُ سِنِي الْعُمُرِ وَجُمَعِهِ، وَلَهُ أَنَّهُ جَمْعٌ مُعَرَّفٌ بِاللَّامِ فَيَنْصَرِفُ إلَى أَقْصَى مَا عُهِدَ مُسْتَعْمَلًا فِيهِ لَفْظُ الْجَمْعِ عَلَى الْيَقِينِ، وَهُوَ عَشَرَةٌ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ ثَلَاثَةُ رِجَالٍ، وَأَرْبَعَةُ رِجَالٍ إلَى عَشَرَةِ رِجَالٍ فَإِذَا جَاوَزَ الْعَشَرَةَ ذَهَبَ الْجَمْعُ فَيُقَال أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا إلَى آخِرِهِ، وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ أَقْصَى الْمَعْهُودِ، وَإِنْ كَانَ مَا دُونَهُ مَعْهُودًا أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا لِاسْتِغْرَاقِ الْمَعْهُودِ؛ لِأَنَّ الْمَعْهُودَ كُلُّ مَرْتَبَةٍ مِنْ الْمَرَاتِبِ الَّتِي أَوَّلُهَا ثَلَاثَةٌ، وَأَقْصَاهَا عَشَرَةٌ، وَلَا مُعَيِّنَ فَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا لِلْعَهْدِ لَكِنْ اخْتَلَفُوا فِي الْمَعْهُودِ فَهُمَا قَالَا الْمَعْهُودُ الْأُسْبُوعُ وَالسَّنَةُ، وَهُوَ قَالَ الْعَشَرَةُ نَظَرًا إلَى أَنَّهَا أَقْصَى الْمَعْهُودِ، وَقَدْ أَطَالَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ فِي بَيَانِهِ إطَالَةً حَسَنَةً وَتَعَرَّضَ لِلرَّدِّ عَلَى ابْنِ الْعِزِّ، وَلَسْنَا بِصَدَدِ ذَلِكَ، وَفِي الذَّخِيرَةِ لَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُكَ الْجُمَعَ، وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَلَهُ أَنْ يُكَلِّمَهُ فِي غَيْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّ الْجُمَعَ جَمْعُ جُمُعَةٍ، وَهُوَ اسْمٌ خَاصٌّ لِلْيَوْمِ الَّذِي تُقَامُ فِيهِ الْجُمُعَةُ سُمِّيَ بِهِ لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ فِيهِ لِإِقَامَةِ هَذَا الْأَمْرِ فِيهِ فَلَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَهُ مِنْ الْأَيَّامِ كَمَا لَوْ قَالَ لَا أُكَلِّمُكَ الْأَخْمِسَةَ وَالْآحَادَ وَالْأَثَانِينَ، وَإِنْ نَوَى أَيَّامَ الْجُمُعَةِ نَفْسَ الْأُسْبُوعِ فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى.
وَذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّ مَنْ قَالَ عَلَيَّ صَوْمُ جُمُعَةٍ إنْ نَوَى يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَلْزَمُهُ صَوْمُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ لَا غَيْرُ، وَإِنْ نَوَى أَيَّامَ الْجُمُعَةِ يَعْنِي الْأُسْبُوعَ أَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ يَلْزَمُهُ صَوْمُ الْأَيَّامِ السَّبْعَةِ بِحُكْمِ غَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ يَقُولُ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ لَمْ أَرَكَ مُنْذُ جُمُعَةٍ فَعَلَى رِوَايَةِ النَّوَادِرِ صَرْفُ الْجُمُعَةِ إلَى أَيَّامِهَا دُونَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ خَاصَّةً، وَعَلَى رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ صَرْفُ الْجُمُعَةِ الْمُطْلَقَةِ غَيْرِ مَقْرُونَةٍ بِالْيَوْمِ إلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ هَذَا الِاسْتِعْمَالَ فِيمَا إذَا ذُكِرَتْ الْجُمُعَةُ مُطْلَقَةً بِلَفْظِ الْوَاحِدِ أَيْ لَا بِلَفْظِ الْجَمْعِ حَتَّى قَالَ مَشَايِخُنَا: إذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُكَ جُمُعَةً يَنْصَرِفُ الْيَمِينُ إلَى الْأَيَّامِ السَّبْعَةِ لَا إلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ خَاصَّةً كَمَا ذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ. اهـ.
فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّهُ إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ الْجُمَعَ يَتْرُكُ كَلَامَهُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ كُلُّ يَوْمٍ هُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ لَا أَنَّهُ يَتْرُكُ كَلَامَهُ عَشَرَةَ أَسَابِيعَ كَمَا قَدْ يُتَوَهَّمُ قَالَ فِي التَّبْيِينِ ثُمَّ الْجَمْعُ مُعَرَّفًا، وَمُنَكَّرًا يَقَعُ عَلَى أَيَّامِ الْجُمُعَةِ فِي الْمُدَّةِ، وَلَهُ أَنْ يُكَلِّمَهُ فِيمَا بَيْنَ الْجُمُعَاتِ، وَأَمَّا الْجَمْعُ الْمُنَكَّرِ فَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ أَنَّهُ إنْ وَصَفَهُ بِالْكَثْرَةِ فَهُوَ كَالْمُعَرَّفِ كَقَوْلِهِ لَا أُكَلِّمُهُ
ــ
[منحة الخالق]
الْإِفْتَاءُ بِقَوْلِهِمَا اهـ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute