للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لَا مَعَ التَّرْكِ فَهِيَ دَلِيلُ السُّنَّةِ الْمُؤَكَّدَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مَعَ التَّرْكِ أَحْيَانًا فَهِيَ دَلِيلُ غَيْرِ الْمُؤَكَّدَةِ، وَإِنْ اقْتَرَنَتْ بِالْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ لَمْ يَفْعَلْهُ فَهِيَ دَلِيلُ الْوُجُوبِ فَافْهَمْ هَذَا فَإِنَّ بِهِ يَحْصُلُ التَّوْفِيقُ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ وَسُنَنُهُ بِالْجَمْعِ وَنُكْتَةُ جَمْعِهَا وَإِفْرَادِ الْفَرْضِ الْإِشَارَةُ إلَى أَنَّ الْفُرُوضَ

وَإِنْ كَثُرَتْ فِي حُكْمِ شَيْءٍ وَاحِدٍ بِدَلِيلِ فَسَادِ الْبَعْضِ بِتَرْكِ الْبَعْضِ بِخِلَافِ السُّنَنِ إذْ لَا يَبْطُلُ بَعْضُهَا بِتَرْكِ بَعْضِهَا وَالْإِضَافَةُ هُنَا بِمَعْنَى اللَّامِ كَمَا لَا يَخْفَى وَجَعَلَهَا الْمُصَنِّفُ فِي الْمُسْتَصْفَى مِنْ إضَافَةِ الشَّيْءِ إلَى مَحَلِّهِ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ مَحَلٌّ لِهَذِهِ السُّنَنِ وَفِي النِّهَايَةِ أَنَّهَا بِمَعْنَى مِنْ وَفِيهِ مَا تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ. (قَوْلُهُ: غَسَلَ يَدَيْهِ إلَى رُسْغَيْهِ ابْتِدَاء) يَعْنِي: غَسْلُ الْيَدَيْنِ ثَلَاثًا إلَى رُسْغَيْهِ فِي ابْتِدَاءِ الْوُضُوءِ سُنَّةٌ وَالرُّسْغُ مُنْتَهَى الْكَفِّ عِنْدَ الْمَفْصِلِ وَفِي ضِيَاءِ الْحُلُومِ الرُّسْغُ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ مَوْصِلُ الْكَفِّ فِي الذِّرَاعِ وَالْقَدَمِ فِي السَّاقِ.

اعْلَمْ أَنَّ فِي غَسْلِ الْيَدَيْنِ ابْتِدَاءً ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ قِيلَ إنَّهُ فَرْضٌ وَتَقْدِيمُهُ سُنَّةٌ وَاخْتَارَهُ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ وَالْمِعْرَاجِ وَالْخَبَّازِيَّةِ وَإِلَيْهِ يُشِيرُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ فِي الْأَصْلِ بَعْدَ غَسْلِ الْوَجْهِ ثُمَّ يَغْسِلُ ذِرَاعَيْهِ وَلَمْ يَقُلْ يَدَيْهِ فَلَا يَجِبُ غَسْلُهُمَا ثَانِيًا وَقِيلَ إنَّهُ سُنَّةٌ تَنُوبُ عَنْ الْفَرْضِ كَالْفَاتِحَةِ، فَإِنَّهَا وَاجِبَةٌ تَنُوبُ عَنْ الْفَرْضِ وَاخْتَارَهُ فِي الْكَافِي وَقَالَ السَّرَخْسِيُّ: إنَّهُ سُنَّةٌ لَا يَنُوبُ عَنْ الْفَرْضِ فَيُعِيدُ غَسْلَهُمَا ظَاهِرَهُمَا وَبَاطِنَهُمَا قَالَ: وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدِي وَاسْتَشْكَلَهُ فِي الذَّخِيرَةِ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ التَّطْهِيرُ فَبِأَيِّ طَرِيقٍ حَصَلَ حَصَلَ الْمَقْصُودُ

وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمَشَايِخِ أَنَّ الْمَذْهَبَ الْأَوَّلُ وَاخْتُلِفَ فِي أَنَّ غَسْلَهُمَا قَبْلَ الِاسْتِنْجَاءِ أَوْ بَعْدَهُ فَقِيلَ سُنَّةٌ قَبْلَهُ فَقَطْ وَقِيلَ بَعْدَهُ فَقَطْ وَقِيلَ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَكْثَرُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمُجْتَبَى وَصَحَّحَهُ قَاضِي خان فِي الْفَتَاوَى وَفِي النِّهَايَةِ وَيُسْتَدَلُّ لَهُ بِأَنَّ جَمِيعَ مَنْ حَكَى وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدَّمَ غَسْلَ الْيَدَيْنِ، وَأَمَّا سُنِّيَّتَهُ قَبْلَهُ فِيمَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ مِنْ «حَدِيثِ مَيْمُونَةَ فِي صِفَةِ غَسْلِهِ وَفِيهِ أَنَّهَا حَكَتْ غَسْلَ الْيَدَيْنِ قَبْلَ الِاسْتِنْجَاءِ» وَحِكْمَتُهُ قَبْلَهُ الْمُبَالَغَةُ فِي إزَالَةِ رَائِحَةِ مَا يُصِيبُهُمَا وَأُورِدَ أَنَّ الْمُصَابَ الْيَدُ الْيُسْرَى فَيَنْبَغِي الِاقْتِصَارُ عَلَيْهَا وَتَخْصِيصُهُ بِمَا إذَا تَغَوَّطَ.

وَأُجِيبَ بِمَا فِي الْأُصُولِ مِنْ أَنَّ الْحِكْمَةَ تُرَاعَى فِي الْجِنْسِ وَلَا يَلْزَمُ وُجُودُهَا فِي كُلِّ فَرْدٍ.

ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الِابْتِدَاءَ بِغَسْلِ الْيَدَيْنِ وَاجِبٌ إذَا كَانَتْ النَّجَاسَةُ مُحَقَّقَةً فِيهِمَا وَسُنَّةٌ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْوُضُوءِ كَمَا ذَكَرْنَا وَسُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ عِنْدَ تَوَهُّمِ النَّجَاسَةِ كَمَا إذَا اسْتَيْقَظَ مِنْ النَّوْمِ فَعَلِمَ بِهَذَا أَنَّ قَيْدَ الِاسْتِيقَاظِ الْوَاقِعِ فِي الْهِدَايَةِ وَغَيْرِهَا اتِّفَاقِيٌّ؛ لِأَنَّ مَنْ حَكَى وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَحِمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَغَيْرِهِ قَدَّمَ فِيهِ الْبَدَاءَةَ بِغَسْلِ الْيَدَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِكَوْنِهِ عَنْ نَوْمٍ وَعَلَّلَ لَهُ فِي الْهِدَايَةِ بِأَنَّ الْيَدَيْنِ آلَةُ التَّطْهِيرِ فَيُبْدَأُ بِتَنْظِيفِهِمَا وَأُورِدَ عَلَيْهِ بِأَنَّ هَذَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ؛ لِأَنَّ مَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْوَاجِبِ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.

وَأُجِيبَ بِأَنَّ هُنَا مَانِعًا مِنْ الْقَوْلِ بِالْوُجُوبِ، وَهُوَ طَهَارَتُهُمَا حَقِيقَةً وَحُكْمًا، فَكَأَنَّ الْغَسْلَ إلَى الرُّسْغَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَكْفِي فِي حُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَهُوَ تَنْظِيفُ الْآلَةِ

وَعُلِمَ بِمَا قَرَّرْنَاهُ أَيْضًا أَنَّ مَا فِي شَرْحِ الْمَجْمَعِ مِنْ أَنَّ السُّنَّةَ فِي غَسْلِ الْيَدَيْنِ لِلْمُسْتَيْقِظِ مُقَيَّدَةٌ بِأَنْ يَكُونَ نَامَ غَيْرَ مُسْتَنْجٍ أَوْ كَانَ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ حَتَّى لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَا يُسَنُّ فِي حَقِّهِ ضَعِيفٌ أَوْ الْمُرَادُ نَفْيُ السُّنَّةِ الْمُؤَكَّدَةِ لَا أَصْلُهَا وَكَيْفِيَّةُ غَسْلِهِمَا كَمَا ذُكِرَ فِي الشُّرُوحِ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْإِنَاءُ صَغِيرًا بِحَيْثُ يُمْكِنُ رَفْعُهُ لَا يُدْخِلُ يَدَهُ فِيهِ بَلْ يَرْفَعُهُ بِشِمَالِهِ وَيَصُبُّهُ عَلَى كَفِّهِ الْيُمْنَى وَيَغْسِلُهَا ثَلَاثًا ثُمَّ يَأْخُذُ الْإِنَاءَ بِيَمِينِهِ وَيَصُبُّهُ عَلَى كَفِّهِ الْيُسْرَى وَيَغْسِلُهَا ثَلَاثًا، وَإِنْ كَانَ الْإِنَاءُ كَبِيرًا لَا يُمْكِنُ رَفْعُهُ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ إنَاءٌ صَغِيرٌ يَفْعَلُ كَمَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يُدْخِلُ أَصَابِعَ يَدِهِ الْيُسْرَى مَضْمُومَةً فِي الْإِنَاءِ يَصُبُّ عَلَى كَفِّهِ الْيُمْنَى ثُمَّ يُدْخِلُ الْيُمْنَى فِي الْإِنَاءِ وَيَغْسِلُ الْيُسْرَى وَعَلَّلَهُ فِي الْمُحِيطِ بِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْيَدَيْنِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ غَيْرُ مَسْنُونٍ وَتَعَقَّبَهُ الْعَلَّامَةُ الْحَلَبِيُّ بِأَنَّ الْجَمْعَ سُنَّةٌ كَمَا تُفِيدُهُ الْأَحَادِيثُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَقْدِيمَ الْيُمْنَى عَلَى الْيَسَرَيْ لِأَجْلِ التَّيَامُنِ

ــ

[منحة الخالق]

(قَوْلُهُ: قِيلَ إنَّهُ فَرْضٌ وَتَقْدِيمُهُ سُنَّةٌ) الضَّمِيرُ فِي أَنَّهُ يَعُودُ إلَى غَسْلِ الْيَدَيْنِ لَا بِقَيْدِ الِابْتِدَاءِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ وَتَقْدِيمُهُ سُنَّةٌ (قَوْلُهُ: وَاسْتَشْكَلَهُ فِي الذَّخِيرَةِ إلَخْ) قَالَ الْعَلَّامَةُ الشَّيْخُ إسْمَاعِيلُ: الَّذِي يَنْبَغِي حَمْلُ كَلَامِ السَّرَخْسِيِّ عَلَيْهِ هُوَ عَدَمُ النِّيَابَةِ مِنْ حَيْثُ ثَوَابُ الْفَرْضِ لَوْ أَتَى بِهِ مُسْتَقِلًّا قَصْدًا إذَا لِسُنَّةٍ لَا تُؤَدِّيه وَيُؤَيِّدُهُ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى سُقُوطِ الْحَدَثِ بِلَا نِيَّةٍ اهـ.

أَقُولُ: وَعَلَى هَذَا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا مُخَالَفَةَ بَيْنَ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ فَالْقَائِلُ بِأَنَّهُ فَرْضٌ أَرَادَ أَنَّهُ يُجْزِي عَنْ الْفَرْضِ وَأَنَّ تَقْدِيمَ هَذَا الْغُسْلِ الْمُجْزِي عَنْ الْفَرْضِ سُنَّةٌ وَهُوَ مُؤَدَّى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ سُنَّةٌ تَنُوبُ عَنْ الْفَرْضِ وَالسَّرَخْسِيُّ إمَامٌ جَلِيلٌ دَقِيقُ النَّظَرِ لَمَّا رَأَى فِي الْآيَةِ الْأَمْرَ بِغَسْلِ الْيَدَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ قَالَ يُعِيدُ غَسْلَ الْكَفَّيْنِ عِنْدَ غَسْلِ الذِّرَاعَيْنِ لِيَكُونَ آتِيًا بِالْمَأْمُورِ بِهِ قَصْدًا لِيَحْصُلَ لَهُ ثَوَابُ الْفَرْضِ، وَإِنْ كَانَ الْفَرْضُ سَقَطَ بِالْغَسْلِ الْأَوَّلِ لَكِنَّهُ سَقَطَ فِي ضِمْنِ الْغَسْلِ الْمَسْنُونِ فَهُوَ كَسُقُوطِهِ بِالْغَسْلِ بِلَا نِيَّةٍ فَلَا يَنُوبُ مَنَابَ الْغَسْلِ الْكَامِلِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ فَيُسَنُّ أَنْ يُعِيدَ غَسْلَهُمَا لِمَا قُلْنَا وَلِهَذَا نُقِلَ فِي النَّهْرِ عَنْ الذَّخَائِرِ الْأَشْرَفِيَّةِ إنَّ السُّنَّةَ عِنْدَ غَسْلِ الذِّرَاعَيْنِ أَنْ يَغْسِلَ يَدَيْهِ ثَلَاثًا أَيْضًا اهـ.

(قَوْلُهُ: وَالظَّاهِرُ تَقْدِيمُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى لِأَجْلِ التَّيَامُنِ) كَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يَقُولَ

<<  <  ج: ص:  >  >>