وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: يَسْتَمْشِي، فَإِنْ أَمْكَنَهُ الْمَشْيُ الْمُعْتَادُ يَبْقَى الْمَسْحُ، وَإِلَّا يَنْتَقِضُ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ اعْتِبَارُ أَكْثَرِ الْقَدَمِ وَلَا بَأْسَ بِالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْ لُبْسِ الْخُفِّ هُوَ الْمَشْيُ فَإِذَا تَعَذَّرَ الْمَشْيُ عُدِمَ اللُّبْسُ فِيمَا قُصِدَ لَهُ؛ وَلِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ. اهـ.
وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِتَرْجِيحِ هَذَا الْقَوْلِ، وَهُوَ بِهِ جَدِيرٌ، فَإِنَّ الْحُكْمَ إذَا كَانَ دَائِرًا مَعَ الْأَصْلِ وُجُودًا وَعَدَمًا كَانَ الِاعْتِبَارُ لَهُ وَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ أَنَّ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ صَحِيحٌ مُتَّجَهٌ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الْعَقِبِ أَوْ أَكْثَرِهَا فِي السَّاقِ يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْمُدَاوَمَةُ عَلَى الْمَشْيِ الْمُعْتَادِ مِقْدَارُ مَا يَقْطَعُ بِهِ الْمَسَافَةَ بِوَاسِطَةِ مَا فِيهِ مِنْ الدَّوْسِ عَلَى نَفْسِ السَّاقِ
وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ بِنَزْعِ أَحَدِهِمَا يَجِبُ نَزْعُ الْآخَرِ لِئَلَّا يَكُونَ جِمَاعًا بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْخَلَفِ كَذَا فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ وَهَلْ يَنْتَقِضُ أَيْضًا بِغَسْلِ الرِّجْلِ أَوْ أَكْثَرِهَا فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَنْتَقِضُ بِغَسْلِ الْأَكْثَرِ وَذَكَرَ فِي السِّرَاجِ الْوَهَّاجِ أَنَّهُ لَا يَنْتَقِضُ الْمَسْحُ بِغَسْلِ الرِّجْلِ أَصْلًا، وَهُوَ الْأَظْهَرُ. اهـ.
وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْبَحْثِ فَارْجِعْ إلَيْهِ وَإِلَى هُنَا صَارَ نَوَاقِضُ الْمَسْحِ أَرْبَعَةً وَزَادَ فِي السِّرَاجِ الْوَهَّاجِ خَامِسًا، وَهُوَ خُرُوجُ الْوَقْتِ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْعُذْرِ وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ.
(قَوْلُهُ: وَلَوْ مَسَحَ مُقِيمٌ فَسَافَرَ قَبْلَ تَمَامِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مَسَحَ ثَلَاثًا) سَوَاءٌ سَافَرَ قَبْلَ انْتِقَاضِ الطَّهَارَةِ أَوْ بَعْدَهَا قَبْلَ كَمَالِ مُدَّةِ الْمُقِيمِ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ مُدَّتَهُ تَتَحَوَّلُ إلَى مُدَّةِ الْمُسَافِرِ فِي الْأَوَّلِ وَفِي الثَّانِي خِلَافُ الشَّافِعِيِّ لَنَا الْعَمَلُ بِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْسَحُ الْمُسَافِرُ الْحَدِيثُ، وَهَذَا مُسَافِرٌ فَيَمْسَحُهَا بِخِلَافِ مَا بَعْدَ كَمَالِ مُدَّةِ الْمُقِيمِ؛ لِأَنَّ الْحَدَثَ قَدْ سَرَى إلَى الْقَدَمِ، وَإِنَّمَا يَمْسَحُ عَلَى خُفِّ رَجُلٍ لَا حَدَثَ فِيهَا إجْمَاعًا.
وَأَمَّا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ أَنَّ هَذِهِ عِبَادَةٌ ابْتَدَأَتْ حَالَةَ الْإِقَامَةِ فَيُعْتَبَرُ فِيهَا حَالَةُ الِابْتِدَاءِ كَصَلَاةٍ ابْتَدَأَهَا مُقِيمًا فِي سَفِينَةٍ فَسَافَرَتْ وَصَوْمٍ شَرَعَ فِيهِ مُقِيمًا فَسَافَرَ حَيْثُ يُعْتَبَرُ فِيهِ حُكْمُ الْإِقَامَةِ فَغَنِيَ عَنْ تَكَلُّفِ الْفَرْقِ لِعَدَمِ ظُهُورِ وَجْهِ الْجَمْعِ بِالْمُشْتَرَكِ الْمُؤَثِّرِ فِي الْحُكْمِ كَذَا فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ وَبَيَانُهُ أَنَّ أَئِمَّتَنَا لَا يَرَوْنَ الْعِبَادَةَ وَصْفًا لَازِمًا لِلْمَسْحِ بَلْ إذَا كَانَ الْوُضُوءُ مَنْوِيًّا وَالنِّيَّةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِيهِ عِنْدَ هُمْ؛ وَلِأَنَّ الْمَسَحَاتِ فِي الْمُدَّةِ بِمَنْزِلَةِ الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ لَا بِمَنْزِلَةِ صَوْمِ الْيَوْمِ بِدَلَالَةِ أَنَّ فَسَادَ بَعْضِ الْمَسَحَاتِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْبَعْضِ الْآخَرِ كَمَا فِي صِيَامِ أَيَّامِ رَمَضَانَ وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ مَنْ سَافَرَ فِي أَوَاخِرِ رَمَضَانَ يَسْقُطُ عَنْهُ وُجُوبُ الْأَدَاءِ فِيمَا بَقِيَ مَا دَامَ مُسَافِرًا وَلَا يَمْنَعُ كَوْنُهُ مُقِيمًا فِي أَوَّلِهِ مِنْ تَرَخُّصِهِ بِتَرْكِ أَدَاءِ الصَّوْمِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ فَكَذَا كَوْنُ الْمَاسِحِ مُقِيمًا فِي أَوَّلِ الْمُدَّةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ تَرَخُّصِهِ رُخْصَةَ الْمُسَافِرِ بِالْمَسْحِ إذَا كَانَ فِي آخِرِهَا مُسَافِرًا قَالَ فِي السِّرَاجِ الْوَهَّاجِ فَلَوْ أَنَّهُ لَمَّا جَاوَزَ الْعُمْرَانَ قَبْلَ مُضِيِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَدَخَلَ فِي الصَّلَاةِ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِيهَا وَعَادَ إلَى مِصْرِهِ لِيَتَوَضَّأَ فَمَضَى يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ قَبْلَ أَنْ يَعُودَ إلَى مُصَلَّاهُ فَالْقِيَاسُ أَنْ تَفْسُدَ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَادَ إلَى مِصْرِهِ فَقَدْ صَارَ مُقِيمًا وَقَدْ انْقَضَتْ مُدَّتُهُ، وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَفَسَدَتْ إلَّا أَنَّ الصَّدْرَ الشَّهِيدَ ذَكَرَ فِي الْوَاقِعَاتِ أَنَّ الْمَاسِحَ إذَا انْقَضَتْ مُدَّتُهُ، وَهُوَ فِي حَالِ انْصِرَافِهِ مَعَ الْحَدَثِ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ اسْتِحْسَانًا
وَلَوْ عَادَ إلَى مُصَلَّاهُ فِي مَسْأَلَتِنَا قَبْلَ مُضِيِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ انْتَقَلَتْ مُدَّتُهُ إلَى السَّفَرِ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْإِتْمَامُ فِي هَذِهِ
ــ
[منحة الخالق]
(قَوْلُهُ: وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ) حَيْثُ قَالَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ إنْ كَانَ الْبَاقِي بِحَيْثُ يُمْكِنُهُ الْمَشْيُ فِيهِ كَذَلِكَ لَا يَنْتَقِضُ، وَهَذَا فِي التَّحْقِيقِ هُوَ مَرْمِيٌّ نَظَرًا لِكُلٍّ فَمَنْ نَقَضَ بِخُرُوجِ الْعَقِبِ لَيْسَ إلَّا؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَهُ أَنَّهُ مَعَ حُلُولِ الْعَقِبِ فِي السَّاقِ لَا يُمْكِنُهُ مُتَابَعَةُ الْمَشْيِ فِيهِ وَقَطْعُ الْمَسَافَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ تَعُودُ إلَى مَحَلِّهَا عِنْدَ الْوَضْعِ وَمَنْ قَالَ الْأَكْثَرُ فَلِظَنِّهِ أَنَّ الِامْتِنَاعَ مَنُوطٌ بِهِ وَكَذَا مَنْ قَالَ يَكُونُ الْبَاقِي قَدْرَ الْفَرْضِ وَهَذِهِ الْأُمُورُ إنَّمَا تُبْنَى عَلَى الْمُشَاهَدَةِ وَيَظْهَرُ أَنَّ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَوْلَى؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الْعَقِبِ فِي السَّاقِ يُعِيقُ عَنْ مُدَاوَمَةِ الْمَشْيِ دَوْسًا عَلَى السَّاقِ نَفْسِهِ. اهـ.
(قَوْلُهُ: وَزَادَ فِي السِّرَاجِ خَامِسًا إلَخْ) قَالَ الْعَارِفُ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ رُبَّمَا يُقَالُ خُرُوجُ الْوَقْتِ عَلَى الْمَعْذُورِ نَاقِضٌ لِوُضُوئِهِ كُلِّهِ لَا لِمَسْحِ الْخُفِّ فَقَطْ فَيَدْخُلُ ذَلِكَ فِي نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ.
(قَوْلُهُ: سَوَاءٌ سَافَرَ قَبْلَ انْتِقَاضِ الطَّهَارَةِ إلَخْ) تَبِعَ فِي ذَلِكَ الْمُحَقِّقُ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ وَاعْتَرَضَهُمَا فِي النَّهْرِ بِأَنَّ قَوْلَهُ مَسَحَ لَا يَشْمَلُ مَا لَوْ سَافَرَ قَبْلَ انْتِقَاضِ الطَّهَارَةِ ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ قُلْت لَا يَلْزَمُ مِنْ مَسْحِهِ سَبْقُ حَدَثٍ لِجَوَازِ أَنْ يَتَوَضَّأَ وُضُوءًا عَلَى وُضُوءٍ وَيَمْسَحُ فِي الثَّانِي قُلْت هَذَا مَعَ بُعْدِهِ مُفَوِّتٌ لِتَقْيِيدِ مَحَلِّ الْخِلَافِ عَلَى أَنَّ قَوْلَ الْقُدُورِيِّ وَمَنْ ابْتَدَأَ مُدَّةَ الْمَسْحِ فَسَافَرَ يَدْفَعُ هَذَا لِمَا أَنَّ ابْتِدَاءَهَا مِنْ وَقْتِ الْحَدَثِ.
(قَوْلُهُ: وَفِي الثَّانِي خِلَافُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ قُلْت خِلَافُ الشَّافِعِيِّ إنَّمَا هُوَ فِيمَا إذَا سَافَرَ بَعْدَ الْحَدَثِ وَالْمَسْحُ قَبْلَ كَمَالِ مُدَّةِ الْمُقِيمِ، وَأَمَّا إذَا سَافَرَ بَعْدَ الْحَدَثِ وَمَسَحَ فِي السَّفَرِ قَبْلَ خُرُوجِ وَقْتِ الصَّلَاةِ أَوْ بَعْدَ خُرُوجِهِ فِي الصَّحِيحِ، فَإِنَّهُ يُتِمُّ مَسْحَ مُسَافِرٍ مِنْ حِينِ أَحْدَثَ فِي الْحَضَرِ؛ لِأَنَّهُ بَدَأَ بِالْعِبَادَةِ فِي السَّفَرِ فَثَبَتَ لَهُ رُخْصَةُ السَّفَرِ كَذَا فِي الْمُهَذَّبِ وَشَرْحِهِ لِلنَّوَوِيِّ اهـ.
قُلْت: وَنَحْوُهُ فِي شَرْحِ الْمَنْهَجِ لِلْقَاضِي زَكَرِيَّا الْأَنْصَارِيِّ، وَهُوَ الْمَفْهُومُ أَيْضًا مِنْ تَقْيِيدِ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ مَسْحَ مُقِيمٍ فَسَافَرَ قَبْلَ تَمَامِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ.