الْمُوَاظَبَةِ؛ وَلِأَنَّ السُّنَّةَ إكْمَالُ الْفَرْضِ فِي مَحَلِّهِ وَدَاخِلُ اللِّحْيَةِ لَيْسَ بِمَحَلِّ الْفَرْضِ لِعَدَمِ وُجُوبِ إيصَالِ الْمَاءِ إلَى بَاطِنِ الشَّعْرِ وَجْهُ الْأَصَحِّ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ أَنَسٍ «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا تَوَضَّأَ أَخَذَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ تَحْتَ حَنَكِهِ فَخَلَّلَ بِهِ لِحْيَتَهُ وَقَالَ بِهَذَا أَمَرَنِي رَبِّي» وَسَكَتَ عَنْهُ وَكَذَا الْمُنْذِرِيُّ بَعْدَهُ، وَهُوَ مُغْنٍ عَنْ نَقْلِ صَرِيحِ الْمُوَاظَبَةِ؛ لِأَنَّ أَمْرَهُ حَامِلٌ عَلَيْهَا وَقَوْلُهُمْ دَاخِلُ اللِّحْيَةِ لَيْسَ بِمَحَلِّ الْفَرْضِ مَمْنُوعٌ بَعْدَ ثُبُوتِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ بِخِلَافِهِ
وَمَا أُورِدَ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ سُنَّتَانِ مَعَ أَنَّهُمَا لَيْسَتَا فِي مَحَلِّ الْفَرْضِ أُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُمَا فِي الْوَجْهِ، وَهُوَ مَحَلُّ الْفَرْضِ إذْ لَهُمَا حُكْمُ الْخَارِجِ مِنْ وَجْهٍ؛ وَلِأَنَّ الْكَلَامَ فِي سُنَّةٍ تَكُونُ تَبَعًا لِلْفَرْضِ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ، وَإِلَّا يَخْرُجْ عَنْهُ بَعْضُ السُّنَنِ كَالنِّيَّةِ وَالتَّسْمِيَةِ كَمَا لَا يَخْفَى، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ التَّخْلِيلُ وَاجِبًا بِالْأَمْرِ فِي «أَمَرَنِي رَبِّي وَخَلِّلُوا أَصَابِعَكُمْ» الْآتِي لِوُجُودِ الصَّارِفِ، وَهُوَ تَعْلِيمُ الْأَعْرَابِيِّ وَالْأَخْبَارُ الَّتِي حُكِيَ فِيهَا وُضُوءُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّ التَّخْلِيلَ لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا وَمَا فِي النِّهَايَةِ مِنْ أَنَّا لَوْ قُلْنَا بِالْوُجُوبِ لَزِمَ الزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِيهِ كَلَامٌ إذْ لَا يَلْزَمُ إلَّا لَوْ قُلْنَا بِالِافْتِرَاضِ وَمَا فِي الْكَافِي مِنْ أَنَّا لَوْ قُلْنَا بِالْوُجُوبِ فِي الْوُضُوءِ لَسَاوَى التَّبَعُ الْأَصْلَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ مَانِعٌ مِنْهُ إذَا اقْتَضَاهُ الدَّلِيلُ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ بِقَدْرِ دَلِيلِهِ؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ عَدَمُ الْمُسَاوَاةِ فِي حُكْمٍ آخَرَ، وَهُوَ كَوْنُهُ لَا يَلْزَمُ بِالنَّذْرِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ، وَأَمَّا تَخْلِيلُ الْأَصَابِعِ، فَهُوَ إدْخَالُ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ بِمَاءٍ مُتَقَاطِرٍ وَيَقُومُ مَقَامَهُ الْإِدْخَالُ فِي الْمَاءِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ جَارِيًا فَسُنَّةٌ اتِّفَاقًا أَعْنِي أَصَابِعَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ لِمَا فِي السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ حَدِيثِ لَقِيطِ بْنِ صُبْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا تَوَضَّأْتَ فَأَسْبِغْ الْوُضُوءَ وَخَلِّلْ بَيْنَ الْأَصَابِعِ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَتَقَدَّمَ الصَّارِفُ لَهُ عَنْ الْوُجُوبِ
وَكَذَا مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ «خَلِّلُوا أَصَابِعَكُمْ لَا يَتَخَلَّلْهَا اللَّهُ بِالنَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ الْوَعِيدُ عَلَى التَّرْكِ حَتَّى يُفِيدَ الْوُجُوبَ؛ لِأَنَّ مَنْطُوقَهُ أَنَّ تَخْلِيلَ الْأَصَابِعِ فِي الْوُضُوءِ يُرَادُ لِعَدَمِ تَخَلُّلِهَا نَارَ جَهَنَّمَ، وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنَّ عَدَمَ التَّخْلِيلِ فِي الْوُضُوءِ يَسْتَلْزِمُ تَخَلُّلَ النَّارِ إلَّا لَوْ كَانَ تَخْلِيلُ الْأَصَابِعِ فِي الْوُضُوءِ عِلَّةً مُسَاوِيَةً لِعَدَمِ تَخْلِيلِهَا بِالنَّارِ وَهُوَ مُنْتَفٍ بِأَنَّهُ قَدْ يُوجَدُ التَّخْلِيلُ بِالنَّارِ مَعَ تَخْلِيلِ الْأَصَابِعِ فَحِينَئِذٍ لَا حَاجَةَ إلَى مَا ذَكَرَ فِي شُرُوحِ الْهِدَايَةِ مِنْ أَنَّ الْوَعِيدَ مَصْرُوفٌ إلَى مَا إذَا لَمْ يَصِلْ إلَى مَا بَيْنَ الْأَصَابِعِ إذَا قَدْ عَلِمْت أَنَّهُ لَا وَعِيدَ فِي الْحَدِيثِ هَذَا مَعَ أَنَّ مَا قَالُوهُ لَا يَتِمُّ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَصِلْ يَكُونُ الْغَسْلُ فَرْضًا وَلَيْسَ التَّخْلِيلُ غَسْلًا كَمَا لَا يَخْفَى هَذَا مَعَ أَنَّ حَدِيثَ الدَّارَقُطْنِيِّ ضَعِيفٌ كَمَا فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ وَفِي الظَّهِيرِيَّةِ وَالتَّخْلِيلُ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ التَّثْلِيثِ؛ لِأَنَّهُ سُنَّةُ التَّثْلِيثِ ثُمَّ قِيلَ الْأَوْلَى فِي أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ أَنْ يَكُونَ تَخْلِيلُهَا بِالتَّشْبِيكِ وَصِفَتُهُ فِي الرِّجْلَيْنِ أَنْ يُخَلِّلَ بِخِنْصَرِ يَدِهِ الْيُسْرَى خِنْصَرَ رِجْلِهِ الْيُمْنَى وَيَخْتِمَ بِخِنْصَرِ رِجْلِهِ الْيُسْرَى كَذَلِكَ وَرَدَ الْخَبَرُ كَذَا فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ وَغَيْرِهِ وَتَعَقَّبَهُ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ بِقَوْلِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ وَمِثْلُهُ فِيمَا يَظْهَرُ أَمْرٌ اتِّفَاقِيٌّ لَا سُنَّةٌ مَقْصُودَةٌ اهـ.
لَكِنْ وَرَدَ بَعْضُ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ قَالَ «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَوَضَّأُ فَخَلَّلَ أَصَابِعَ رِجْلَيْهِ بِخِنْصَرِهِ»
وَأَمَّا كَوْنُهُ بِخِنْصَرِ يَدِهِ الْيُسْرَى وَبِكَوْنِهِ مِنْ أَسْفَلَ فَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ وَيُشْكِلُ كَوْنُهُ بِخِنْصَرِ الْيُسْرَى أَنَّ هَذَا مِنْ الطَّهَارَةِ الْمُسْتَحَبِّ فِي فِعْلِهَا أَنْ تَكُونَ بِالْيَمِينِ وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي كَوْنِهَا بِالْخِنْصَرِ كَوْنُهَا أَدَقَّ الْأَصَابِعِ فَهِيَ بِالتَّخْلِيلِ أَنْسَبُ كَذَا فِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ وَقَوْلُهُمْ مِنْ أَسْفَلَ إلَى فَوْقُ يَحْتَمِلُ شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَبْدَأُ مِنْ أَسْفَلِ الْأَصَابِعِ إلَى فَوْقُ مِنْ ظَهْرِ الْقَدَمِ ثَانِيهمَا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ أَسْفَلِ الْأُصْبُعِ مِنْ بَاطِنِ الْقَدَمِ كَمَا جَزَمَ بِهِ فِي السِّرَاجِ الْوَهَّاجِ وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ، وَفِي الْمِعْرَاجِ عَنْ شَيْخِهِ الْعَلَّامَةِ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «خَلِّلُوا» الْحَدِيثَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ وَظِيفَةَ الرِّجْلِ الْغَسْلُ لَا الْمَسْحُ فَكَانَ حُجَّةً عَلَى الرَّوَافِضِ اهـ.
(قَوْلُهُ: وَتَثْلِيثُ الْغَسْلِ) أَيْ تَكْرَارُهُ ثَلَاثًا سُنَّةٌ لَكِنَّ الْأُولَى فَرْضٌ
ــ
[منحة الخالق]
(قَوْلُهُ: بَعْدَ ثُبُوتِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ بِخِلَافِهِ) أَيْ بِخِلَافِ مَا أَفَادَهُ قَوْلُهُمْ دَاخِلَ اللِّحْيَةِ إلَخْ (قَوْلُهُ: وَمَا أُورِدَ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى قَوْلِهِمْ دَاخِلَ اللِّحْيَةِ لَيْسَ بِمَحَلِّ الْفَرْضِ (قَوْلُهُ: وَهُوَ مُنْتَفٍ بِأَنَّهُ قَدْ يُوجَدُ التَّخْلِيلُ بِالنَّارِ مَعَ تَخْلِيلِ الْأَصَابِعِ) فِيهِ بَحْثٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ تَخْلِيلُ الْأَصَابِعِ فِي الْوُضُوءِ عِلَّةً مُسَاوِيَةً لِعَدَمِ تَخْلِيلِهَا بِالنَّارِ لَمَا كَانَ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا يُخَلِّلُهَا اللَّهُ بِالنَّارِ» فَائِدَةٌ وَلَمَّا صَحَّ التَّعْلِيلُ بِهِ لِلْأَمْرِ بِالتَّخْلِيلِ، وَلِلُزُومِ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءً لِعَدَمِ اسْتِلْزَامِهِ حُصُولَ الْمَوْعُودِ عَلَيْهِ بِالْفِعْلِ وَحُصُولَ مُقَابَلَةٍ بِالتَّرْكِ وَكَيْفَ يَكُونُ كَذَلِكَ وَقَدْ صَرَّحَ بِالْوَعِيدِ فِي حَدِيثِ الطَّبَرَانِيِّ كَمَا نَقَلَهُ فِي الْفَتْحِ «مَنْ لَمْ يُخَلِّلْ أَصَابِعَهُ بِالْمَاءِ خَلَّلَهَا اللَّهُ بِالنَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فَتَدَبَّرْ (قَوْلُهُ: مِنْ ظَهْرِ الْقَدَمِ) مُتَعَلِّقٌ بِيَبْدَأُ أَيْ يَبْتَدِئُ مِنْ جِهَةِ ظَهْرِ الْقَدَمِ فَيُدْخِلُ خِنْصَرَ يَدِهِ بَيْنَ أَصَابِعِ الرِّجْلِ فَيُخَلِّلُ مِنْ أَسْفَلَ صَاعِدًا إلَى فَوْقٍ، وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي فَيَدْخُلُهَا مِنْ جِهَةِ بَاطِنِ الْقَدَمِ وَيَصْعَدُ بِهَا مِنْ أَسْفَلَ إلَى فَوْقٍ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute