للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَضُرُّ بِجِيرَانِهِ ضَرَرًا فَاحِشًا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَأْتِي مِنْهُ الدُّخَانُ الْكَثِيرُ الشَّدِيدُ وَرَحَى الطَّحْنِ وَدَقُّ الْقَصَّارِينَ يُوهِنُ الْبِنَاءَ بِخِلَافِ الْحَمَّامِ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ إلَّا بِالنَّدَاوَةِ وَيُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ بِأَنْ يَبْنِيَ حَائِطًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَارِهِ وَبِخِلَافِ التَّنُّورِ الصَّغِيرِ الْمُعْتَادِ فِي الْبُيُوتِ قَالَ الْحُسَامُ الشَّهِيدُ وَكَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصَّيْمَرِيُّ تَارَةً يُفْتِي بِمَنْعِ بِنَاءِ التَّنُّورِ فِي مِلْكِهِ لِلْخُبْزِ الدَّائِمِ فِي وَسَطِ الْبَزَّازِينَ وَتَارَةً يُفْتِي بِأَنَّ لَهُ ذَلِكَ وَالْقِيَاسُ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ فِي الْكُلِّ لَكِنْ تَرَكَ الْقِيَاسَ وَأَخَذَ بِالِاسْتِحْسَانِ

لِأَجْلِ

الْمَصْلَحَة وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَمِنْهُمْ مَنْ فَصَّلَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُفَصِّلْ عَلَى حَسَبِ الْحَالِ.

قَالَ وَكَانَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ بُرْهَانُ الْأَئِمَّةِ يُفْتِي بِأَنَّهُ إنْ كَانَ الضَّرَرُ بَيِّنًا يُمْنَعُ وَبِهِ يُفْتَى هَكَذَا ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْحِيطَانِ لِلْحُسَامِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ بُرْهَانَ الْأَئِمَّةِ هُوَ وَالِدُهُ فَقَدْ نَقَلَ عَنْهُ ذَلِكَ الْبَزَّازِيُّ وَأَنَّ وَالِدَهُ كَانَ يُفْتِي بِهِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى قَالَ وَهَذَا جَوَابُ الْمَشَايِخِ وَجَوَابُ الرِّوَايَةِ عَدَمُ الْمَنْعِ ثُمَّ قَالَ أَصَابَهُ سَاحَةٌ فِي الْقِسْمَةِ فَأَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهَا وَيَرْفَعَ لَهُ الْبِنَاءَ وَمَنَعَهُ الْآخَرُ فَقَالَ يَسُدُّ عَلَيَّ الرِّيحَ وَالشَّمْسَ لَهُ الرَّفْعُ وَلَهُ أَنْ يَتَّخِذَهُ حَمَّامًا أَوْ تَنُّورًا فَإِنْ كَفَّ عَمَّا يُؤْذِي جَارَهُ فَهُوَ أَحْسَنُ فَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ «مَنْ أَذَى جَارَهُ وَرَّثَهُ اللَّهُ تَعَالَى دَارِهِ» وَقَدْ جُرِّبَ فَوُجِدَ كَذَلِكَ وَقَالَ نُصَيْرٌ وَالصَّفَّارُ لَهُ الْمَنْعُ وَلَوْ فَتَحَ صَاحِبُ الْبِنَاءِ فِي عُلْوِ بِنَائِهِ بَابًا أَوْ كَوَّةً لَا يَلِي صَاحِبُ السَّاحَةِ مَنْعَهُ بَلْ لَهُ أَنْ يَبْنِيَ مَا يَسْتُرُ جِهَتَهُ وَلَوْ اتَّخَذَ فِي مِلْكِهِ بِئْرًا أَوْ بَالُوعَةً تَنِزُّ إلَى حَائِطِ جَارِهِ وَطَلَبَ مِنْهُ تَحْوِيلَهُ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ وَلَا يَضْمَنُ عَلَيْهِ إلَّا إذَا انْهَدَمَ مِنْ النَّزِّ وَالْإِمَامُ ظَهِيرُ الدِّينِ كَانَ يُفْتِي بِجَوَابِ الرِّوَايَةِ وَفِيهَا وَعَنْ أُسْتَاذِنَا أَنَّهُ يُفْتَى بِقَبُولِ الْإِمَامِ وَصَحَّحَ النَّسَفِيُّ فِي الْحَمَّامِ أَنَّ الضَّرَرَ إنْ كَانَ فَاحِشًا يُمْنَعُ وَإِلَّا فَلَا.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ غَالِبُ الْمَشَايِخِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ الِاسْتِحْسَانُ فِي أَجْنَاسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَأَفْتَى طَائِفَةٌ بِجَوَابِ الْقِيَاسِ الْمَرْوِيِّ وَاخْتَارَ فِي الْعِمَادِيَّةِ الْمَنْعَ إذَا كَانَ الضَّرَرُ بَيِّنًا وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ خِلَافُهُ وَذَكَرَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الشِّحْنَةِ أَنَّ فِي حِفْظِهِ أَنَّ الْمَنْقُولَ عَنْ أَئِمَّتِنَا الْخَمْسَةِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ وَإِنْ أَضَرَّ بِجَارِهِ قَالَ وَهُوَ الَّذِي أَمِيلُ إلَيْهِ وَأَعْتَمِدُهُ وَأُفْتِي بِهِ تَبَعًا لِوَالِدِي شَيْخِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. اهـ.

وَرَجَّحَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ أَيْضًا جَوَابَ الرِّوَايَةِ وَقَالَ إنَّهُ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ قَالَ وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ رَجُلًا شَكَا إلَيْهِ مِنْ بِئْرٍ حَفَرَهَا جَارُهُ فِي دَارِهِ فَقَالَ احْفِرْ فِي دَارِك بِقُرْبِ تِلْكَ الْبِئْرِ بَالُوعَةً فَفَعَلَ فَتَنَجَّسَتْ الْبِئْرُ فَكَبَسَهَا صَاحِبُهَا وَلَمْ يُفْتِهِ بِمَنْعِ الْحَافِرِ بَلْ هَدَاهُ إلَى هَذِهِ الْحِيلَةِ ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» فَلَا شَكَّ أَنَّهُ عَامٌّ مَخْصُوصٌ لِلْقَطْعِ بِعَدَمِ امْتِنَاعِ كَثِيرٍ مِنْ الضَّرَرِ كَالتَّعَازِيرِ وَالْحُدُودِ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ وَفِي غَصْبِ الْبَزَّازِيَّةِ هَدَمَ بَيْتَهُ وَأَلْقَى تُرَابًا كَثِيرًا لَزِيقَ جِدَارِ جَارِهِ وَوَضَعَ فَوْقَهُ لَبَنًا كَثِيرًا حَتَّى انْهَدَمَ جِدَارُ جَارِهِ إنْ دَخَلَ الْوَهْنُ بِسَبَبِ مَا أَلْقَى وَحَمَلَ ضَمِنَ هَدْمَ دَارِهِ فَانْهَدَمَ مِنْ ذَلِكَ بِنَاءَ جَارِهِ لَا يَضْمَنُ، وَأَمَّا الثَّالِثُ وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُشْتَرَكِ وَفِيهِ نَوْعَانِ الْأَوَّلُ فِيمَا لِأَحَدِهِمَا فِعْلُهُ وَالثَّانِي فِي تَعْمِيرِهِ إذَا خَرِبَ أَمَّا الْأَوَّلُ فَفِي وَقْفِ النَّوَازِلِ دَارٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ قَوْمٍ لِبَعْضِهِمْ أَنْ يَرْبِطُوا الدَّابَّةَ فِيهَا وَأَنْ يَضَعُوا الْخَشَبَةَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَضُرُّ بِصَاحِبِهِ وَأَنْ يَتَوَضَّئُوا بِحَيْثُ لَا تَضِيقُ عَلَيْهِمْ الطَّرِيقُ لِمُرُورِهِمْ وَلَوْ عَطِبَ بِهَا أَحَدٌ لَا يُضْمَنُ وَلَوْ حَفَرَ الْأَرْضَ يُؤْمَرُ أَنْ يُسَوِّيَهَا فَإِنْ نَقَصَ الْحَفْرُ يَضْمَنُ النُّقْصَانَ وَكَذَا لَوْ كَانَ الطَّرِيقُ بَيْنَ قَوْمٍ وَهُوَ غَيْرُ نَافِذٍ غَيْرَ أَنَّ فِي الطَّرِيقِ لَا يَضْمَنُ نُقْصَانَ الْحَفْرِ. اهـ.

وَلَوْ أَنَّ لِرَجُلٍ حَائِطًا وَوَجْهُهُ فِي دَارِ رَجُلٍ فَأَرَادَ أَنْ يُطَيِّنَ حَائِطَهُ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ إلَّا بِدُخُولِهِ دَارَ الرَّجُلِ أَوْ انْهَدَمَ الْحَائِطُ فَوَقَعَ نَقْضُهُ فِي دَارِهِ فَأَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ لِيَشِيلَ الطِّينَ وَغَيْرَهُ فَمَنَعَهُ صَاحِبُ الدَّارِ أَوْ لَهُ مَجْرَى مَاءِ فِي دَارِهِ فَأَرَادَ حَفْرَهُ وَإِصْلَاحَهُ وَلَا يُمَكَّنُ إلَّا بِدُخُولِ دَارِ الرَّجُلِ وَهُوَ يَمْنَعُهُ يُقَالُ لَهُ إمَّا أَنْ تَتْرُكَهُ يَدْخُلُ وَيُصْلِحُ وَيَفْعَلُ أَوْ تَفْعَلَ بِمَالِك كَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ كَذَا فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ وَفِي جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ مِنْ فَصْلِ الْحِيطَانِ لَوْ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ خَشَبَةٌ فَلِلْآخِرِ وَضْعُ مِثْلِهِ إنْ كَانَ الْحَائِطُ يَحْتَمِلُ وَإِلَّا يُؤْمَرُ شَرِيكُهُ بِرَفْعِ بَعْضِ الْخَشَبَةِ إلَى آخِرِهِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلَا جَبْرَ عَلَى الْآبِي؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُجْبَرُ

ــ

[منحة الخالق]

(قَوْلُهُ وَلَوْ فَتَحَ صَاحِبُ الْبِنَاءِ فِي عُلْوِ بِنَائِهِ بَابًا أَوْ كَوَّةً إلَخْ) قَالَ الرَّمْلِيُّ أَقُولُ: قَالَ الْغَزِّيِّ وَقَدْ أَفْتَى شَيْخُ الْإِسْلَامِ قَارِئُ الْهِدَايَةِ لَمَّا سُئِلَ هَلْ يُمْنَعُ الْجَارُ أَنْ يَفْتَحَ كَوَّةً يُشْرِفُ مِنْهَا عَلَى جَارِهِ وَعِيَالِهِ فَأَجَابَ بِأَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ اهـ.

وَفِي الْمُضْمَرَاتِ قَالَ إذَا كَانَتْ الْكَوَّةُ لِلنَّظَرِ وَكَانَتْ السَّاحَةُ مَحَلَّ الْجُلُوسِ لِلنِّسَاءِ يُمْنَعُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى اهـ.

أَقُولُ: لِكَوْنِ الضَّرَرِ بَيِّنًا وَأَقُولُ: لَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَدِيمِ وَالْحَادِثِ حَيْثُ كَانَتْ الْعِلَّةُ الضَّرَرَ الْبَيِّنَ لِوُجُودِهَا فِيهَا تَأَمَّلْ اهـ. كَلَامُ الرَّمْلِيِّ.

(قَوْلُهُ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ غَالِبُ الْمَشَايِخِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ الِاسْتِحْسَانُ) قَالَ الرَّمْلِيُّ وَهُوَ الْمَنْعُ إذَا كَانَ الضَّرَرُ بَيِّنًا

<<  <  ج: ص:  >  >>