مِنْ التَّصَرُّفَاتِ فَلَا يُرَدُّ النَّقْضُ بِالتَّبَرُّعَاتِ فَلَوْ قَالَ فَكُّ الْحَجْرِ وَمَنْعُ إسْقَاطٍ فِي نَوْعٍ لَكَانَ أَوْلَى فَتَأَمَّلْ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (فَلَا يَتَوَقَّفُ وَلَا يُتَخَصَّصُ) يَعْنِي لَا يَتَوَقَّفُ بِزَمَانٍ وَلَا مَكَان وَلَا يَتَخَصَّصُ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ التِّجَارَةِ عِنْدَنَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَفْسِيرِهِ وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ وَزُفَرُ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَوْكِيلٍ، وَإِنَابَةٍ فَيَنْفُذُ عِنْدَهُمَا وَيَتَخَصَّصُ وَعِنْدَنَا يَتَصَرَّفُ بِأَهْلِيَّةِ نَفْسِهِ وَحَقُّ الْمَوْلَى قَدْ أَسْقَطَهُ، وَالسَّاقِطُ لَا يَعُودُ كَمَا إذَا رَضِيَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنْ يُؤَجِّرَ عَبْدَهُ مِنْ شَخْصٍ بِعَيْنِهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَالْإِسْقَاطُ لَا يَقْبَلُ التَّقْيِيدَ دُونَ غَيْرِهِ كَالطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ وَلَوْ أَسْلَمَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ إلَى الْمُشْتَرِي قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ عَلَى أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ نَوْعًا مِنْ التَّصَرُّفِ دُونَ غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ تَقْيِيدُهُ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ لِحَقِّهِ فَلَا يُقْبَلُ التَّقْيِيدُ بِخِلَافِ إذْنِ الْقَاضِي، فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ ذَكَرَهُ قَاضِي خان فِي فَتَاوَاهُ كَذَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ وَفِي الْمُحِيطِ يَجُوزُ الْإِذْنُ لِلصَّبِيِّ الْعَاقِلِ فِي التِّجَارَةِ مِنْ الْأَبِ، وَالْقَاضِي وَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ كَالْعَبْدِ لَا يُقَالُ لَوْ كَانَ إسْقَاطًا لِمَا مَلَكَهُ بِهِبَةٍ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَيْسَ بِإِسْقَاطٍ فِي حَقِّ مَا لَمْ يُوجَدْ فَيَكُونُ النَّهْيُ امْتِنَاعًا فِيمَا لَمْ يُوجَدْ لَا يُقَالُ هُوَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِحُكْمِ التَّصَرُّفِ وَهُوَ الْمِلْكُ فَكَيْفَ يَكُونُ أَهْلًا لِنَفْسِ التَّصَرُّفِ، وَالسَّبَبُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ لِذَاتِهِ بَلْ لِحِكْمَةٍ، فَإِذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ حُكْمُهُ لَا يَكُونُ مَشْرُوعًا كَطَلَاقِ الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّا نَقُولُ حُكْمُهُ مِلْكُ الْيَدِ وَهُوَ أَهْلٌ لِذَلِكَ كَالْمُكَاتَبِ قَالَ فِي الْعِنَايَةِ.
وَصَحَّحَ الْمُصَنِّفُ كَوْنَهُ إسْقَاطًا عِنْدَنَا بِقَوْلِهِ وَلِهَذَا لَا يُقْبَلُ التَّأْقِيتُ ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ فَكُّ الْحَجْرِ وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ مَذْكُورٌ فِي حَيِّزِ التَّعْرِيفِ فَكَيْفَ جَازَ الِاسْتِدْلَال عَلَيْهِ وَأُجِيبَ بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ حُكْمَهُ الشَّرْعِيَّ هُوَ تَعْرِيفُهُ فَكَانَ الِاسْتِدْلَال عَلَيْهِ لَيْسَ بِاسْتِدْلَالٍ، وَإِنَّمَا هُوَ الصَّحِيحُ لِلنَّقْلِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عِنْدَنَا تُعْرَفُ بِذَلِكَ كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ. الثَّانِي: أَنَّ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ حُكْمًا لَا مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ تَعْرِيفًا قَالَ فِي الْمُحِيطِ فَيَبِيعُ مِنْ الْمَوْلَى وَيَشْتَرِي مِنْهُ وَيُطَالِبُهُ بِإِيفَاءِ الثَّمَنِ عَلَى وَجْهٍ لَوْ امْتَنَعَ يُحْبَسُ وَلَوْ قَالَ أَذِنْت لَك فِي الْخِيَاطَةِ أَوْ الصِّبَاغَةِ أَوْ فِي عَمَلٍ آخَرَ فَهُوَ مَأْذُونٌ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ مَا لَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ وَلَوْ قَالَ اتَّجِرْ فِي الْبَرِّ وَلَا تَتَّجِرْ فِي الْبَحْرِ لَا يَصِحُّ نَهْيُهُ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنْ أُرِيدَ بِقَوْلِهِ فَلَا تَخْصِيصَ بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ أَنَّهُ لَا يُتَخَصَّصُ بِذَلِكَ أَطْلَقَهُ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِنَوْعٍ فَهُوَ يُسَلَّمُ لَكِنْ لَا يُجْدِي طَائِلًا؛ لِأَنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ صُورَةَ التَّقَيُّدِ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ لَا يَتَخَصَّصُ بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ، وَإِنْ قَيَّدَهُ بِذَلِكَ فَهُوَ مَمْنُوعٌ كَيْفَ وَهَذَا يَتَوَقَّفُ تَمَامُهُ عَلَى أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ أَنْ يَكُونَ الْإِذْنُ فِي نَوْعٍ مِنْ التِّجَارَةِ إذْنًا فِي جَمِيعِهَا فَيُؤَدِّي إلَى الْمُصَادَرَةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ وَنُوقِضَ بِالْإِذْنِ فِي النِّكَاحِ رِعَايَةُ الْحَجْرِ وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ.
وَإِذَا أُذِنَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ فُلَانَةَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ غَيْرَهَا وَأُجِيبَ أَنَّ النِّكَاحَ تَصَرُّفٌ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا بِوَلِيٍّ، وَالرِّقُّ أَخْرَجَ الْعَبْدَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ فَلَأَنْ يُجِيزَهُ الْمَوْلَى عَلَى النِّكَاحِ مُخَصَّصٌ بِخِلَافِ الْبَيْعِ، وَالْإِذْنُ عَلَى نَوْعَيْنِ عَامٍّ وَخَاصٍّ فَالْعَامُّ أَنْ يَقُولَ لِعَبْدِهِ أَذِنْت لَك فِي التِّجَارَةِ أَوْ قَالَ اتَّجِرْ وَلَوْ قَالَ أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا وَأَنْتَ حُرٌّ يَصِيرُ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَةِ وَكَذَا لَوْ قَالَ اكْتَسِبْ وَأَدِّ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ أَدِّ أَلْفًا وَأَنْتَ حُرٌّ بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا قَالَ إنْ أَدَّيْت أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ؛ لِأَنَّ جَوَابَ الْأَمْرِ بِالْوَاوِ كَالْفَاءِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ أَدِّ أَلْفًا أَنْتَ حُرٌّ وَلَوْ أَذِنَ لِعَبْدِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ الْعَبْدُ بِالْإِذْنِ وَلَا أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ فَتَصَرَّفَ ثُمَّ عَلِمَ لَمْ يَجُزْ لِعَدَمِ عِلْمِهِ وَلَوْ قَالَ لِقَوْمٍ بَايِعُوهُ فَبَايَعُوهُ وَلَمْ يَعْلَمْ الْعَبْدُ بِذَلِكَ فَهُوَ مَأْذُونٌ وَذُكِرَ فِي الزِّيَادَاتِ لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ بِعْ عَبْدَك هَذَا مِنْ ابْنِي الصَّغِيرِ فَبَاعَهُ مِنْهُ وَقَبِلَ الِابْنُ إنْ عَلِمَ بِأَمْرِ الْأَبِ جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ لَمْ يَجُزْ قَبْلَ الْإِذْنِ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّ إذْنَ الصَّبِيِّ تَوْكِيلٌ وَلَيْسَ بِإِذْنٍ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ فُوِّضَ إلَيْهِ عَقْدٌ وَاحِدٌ وَبِتَفْوِيضِ عَقْدٍ وَاحِدٍ لَا يَثْبُتُ الْإِذْنُ وَفِي مَسْأَلَةِ الْمَأْذُونِ إذْنٌ لَا تَوْكِيلٌ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ إلَيْهِ عُقُودًا مُتَكَرِّرَةً فَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ الْإِذْنُ ضِمْنًا لِلْأَمْرِ بِالْمُبَايَعَةِ فِي عُقُودٍ مُتَكَرِّرَةٍ بِدُونِ عِلْمِهِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ مَقْصُودًا بِخِلَافِ الْعَقْدِ الْوَاحِدِ.
وَلَوْ لَمْ يُبَايِعْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَبَايَعَهُ مَنْ لَمْ يَأْمُرْهُ الْمَوْلَى لَمْ يَصِرْ مَأْذُونًا؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي ضِمْنِ أَمْرِهِ بِالْمُبَايَعَةِ وَلَوْ دَفَعَ لَهُ حِمَارًا لِيُكْرِيَهُ وَيَبِيعَ عَلَيْهِ صَارَ مَأْذُونًا، وَالْإِذْنُ يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِلَا شَرْطٍ وَإِضَافَتُهُ إلَى الزَّمَانِ كَالطَّلَاقِ، وَالْحَجْرِ، وَالْعَزْلِ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُمَا وَلَا إضَافَتُهُمَا كَالنِّكَاحِ وَأَمَّا الْإِذْنُ الْخَاصُّ فَلَا يَكُونُ بِهِ مَأْذُونًا كَمَا لَوْ أَمَرَهُ بِشِرَاءِ ثَوْبٍ لِلْكُسْوَةِ أَوْ لَحْمٍ لِلْأَكْلِ؛ لِأَنَّ هَذَا اسْتِخْدَامٌ فَلَا بُدَّ مِنْ فَاصِلٍ بَيْنَ الِاسْتِخْدَامِ، وَالتِّجَارَةِ وَهُوَ أَنَّ الْأَمْرَ يُعْقَدُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةِ اسْتِخْدَامٍ، وَالْأَمْرُ بِعُقُودٍ مُتَعَدِّدَةٍ يُعَدُّ تِجَارَةً؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لِلرِّبْحِ وَلَمَّا بَيَّنَ الْمُؤَلِّفُ الْإِذْنَ الصَّرِيحَ شَرَعَ فِي الْإِذْنِ دَلَالَةً اهـ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَيَثْبُتُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute