أَوْرَدَ الْغَصْبَ بَعْدَ الْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْغَصْبَ مِنْ أَنْوَاعِ التِّجَارَةِ مَآلًا حَتَّى صَحَّ إقْرَارُ الْمَأْذُونِ بِهِ وَلَمْ يَصِحَّ بِدَيْنِ الْمَهْرِ مِنْ أَنْوَاعِ التِّجَارَةِ دُونَ الثَّانِي إذْ الْمَغْصُوبُ مَا دَامَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ لَا يَكُونُ الْغَاصِبُ مَالِكًا لِرَقَبَتِهِ فَصَارَ كَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ لِرَقَبَتِهِ وَمَا فِي يَدِهِ مِنْ مَالِ التِّجَارَةِ لِأَنَّهُ قَدَّمَ الْإِذْنَ فِي التِّجَارَةِ لِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَالْغَصْبُ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَنَظَرَ فِي هَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ بِأَنَّ الْغَصْبَ عِبَارَةٌ عَنْ إزَالَةِ الْيَدِ وَالْإِزَالَةُ لَيْسَتْ مِنْ أَنْوَاعِ التِّجَارَةِ وَاَلَّذِي أَرَى أَنَّ وَجْهَ الْمُنَاسَبَةِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ حَيْثُ قَالَ الْمَأْذُونُ يَتَصَرَّفُ فِي الشَّيْءِ بِالْإِذْنِ الشَّرْعِيِّ وَالْغَاصِبُ يَتَصَرَّفُ لَا بِالْإِذْنِ الشَّرْعِيِّ فَبَيْنَهُمَا مُنَاسَبَةُ الْمُقَابَلَةِ بِالْكَلَامِ فِي الْغَصْبِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ فِي مَعْنَاهُ لُغَةً. وَالثَّانِي فِي رُكْنِهِ. وَالثَّالِثُ فِي شَرْطِهِ. وَالرَّابِعُ فِي صِفَتِهِ، وَالْخَامِسُ فِي حُكْمِهِ وَالسَّادِسُ فِي أَنْوَاعِهِ وَالسَّابِعُ فِي دَلِيلِهِ وَالثَّامِنُ فِي مَعْنَاهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فَهُوَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ أَخْذِ الشَّيْءِ عَلَى وَجْهِ الْغَلَبَةِ وَالْقَهْرِ سَوَاءٌ كَانَ مُتَقَوِّمًا أَوْ غَيْرَهُ يُقَالُ غُصِبَتْ زَوْجَةُ فُلَانٍ وَوَلَدُهُ وَيُطْلَقُ عَلَى حَمْلِ الْإِنْسَانِ عَلَى فِعْلِ مَا لَا بِرِضَاهُ يُقَالُ غَصَبَنِي فُلَانٌ عَلَى فِعْلِ كَذَا وَرُكْنُهُ إزَالَةُ الْيَدِ الْمُحِقَّةِ وَإِثْبَاتُ الْيَدِ الْمُبْطِلَةِ شَرْطُهُ كَوْنُ الْغَاصِبِ قَابِلًا لِلنَّقْلِ وَلِلتَّحْوِيلِ وَصِفَتُهُ أَنَّهُ حَرَامٌ مُحَرَّمٌ عَلَى الْغَاصِبِ ذَلِكَ وَحُكْمُهُ وُجُوبُ رَدِّ الْمَغْصُوبِ إنْ كَانَ قَائِمًا وَمِثْلِهِ إنْ كَانَ هَالِكًا أَوْ قِيمَتِهِ وَأَنْوَاعُهُ وَهُوَ عَلَى نَوْعٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَأْثَمُ وَهُوَ مَا وَقَعَ عَنْ عِلْمٍ أَنَّهُ مَالُ الْغَيْرِ وَنَوْعٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَأْثَمُ وَهُوَ مَا وَقَعَ عَنْ جَهْلٍ كَمَنْ أَتْلَفَ مَالَ غَيْرِهِ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ لَهُ وَدَلِيلُهُ قَوْله تَعَالَى {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: ٧٩] وَمَعْنَاهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مَا سَيَذْكُرُهُ الْمُؤَلِّفُ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (هُوَ إزَالَةُ الْيَدِ الْمُحِقَّةِ بِإِثْبَاتِ الْيَدِ الْمُبْطِلَةِ فِي مَالٍ مُتَقَوِّمٍ مُحْتَرَمٍ قَابِلٍ لِلنَّقْلِ) فَقَوْلُهُ هُوَ إزَالَةُ الْيَدِ الْمُحِقَّةِ أَخْرَجَ زَوَائِدَ الْمَغْصُوبِ فَإِنَّهَا غَيْرُ مَضْمُونَةٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إزَالَةٌ وَكَذَا لَوْ غَصَبَ دَابَّةً فَتَبِعَتْهَا أُخْرَى أَوْ وَلَدُهَا لَا يَضْمَنُ لِعَدَمِ الْإِزَالَةِ، وَقَوْلُهُ: فِي مَالٍ شَمِلَ الْمَالَ الْمُتَقَوِّمَ وَغَيْرَ الْمُتَقَوِّمِ وَبِقَوْلِهِ مُحْتَرَمٍ أَخْرَجَ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ إذَا كَانَ لِمُسْلِمٍ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ غَاصِبًا وَبِقَوْلِهِ مُحْتَرَمٍ أَخْرَجَ مَالَ الْحَرْبِيِّ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُحْتَرَمٍ وَقَوْلُهُ قَابِلٍ لِلنَّقْلِ أَخْرَجَ الْعَقَارَ وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا التَّعْرِيفَ غَيْرُ جَامِعٍ وَلَا مَانِعٍ أَمَّا كَوْنُهُ غَيْرَ جَامِعٍ، فَإِنَّهُ لَا يَشْمَلُ مَا إذَا قَتَلَ إنْسَانٌ إنْسَانًا فِي مُعَارَكَةٍ وَتَرَكَ مَالَهُ وَلَمْ يَأْخُذْهُ، فَإِنَّهُ يَكُونُ غَاصِبًا إذْ لَمْ تَزَلْ يَدُ الْمَالِكِ وَلَمْ تَثْبُتْ يَدُهُ لِأَنَّهُ لَا يَشْمَلُ مَا إذَا غَصَبَهَا مِنْ يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ أَوْ الْمُسْتَعِيرِ أَوْ الْمُرْتَهِنِ أَوْ الْمُودِعِ أَوْ غَصَبَ مَالَ الْوَقْفِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ تَزَلْ الْيَدُ الْمُحِقَّةُ وَأَفْتَى الْإِمَامُ ظَهِيرُ الدِّينِ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ، فَإِنَّ الْغَاصِبَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَمْ تَزَلْ يَدُهُ يَدَ الْمَالِكِ هُنَا بِنَاءً عَلَى عَدَمِ كَوْنِهِ فِي يَدِهِ وَقْتَ الْغَصْبِ وَإِزَالَةُ الْيَدِ فَرْعُ تَحَقُّقِهَا فَيُزَادُ فِي التَّعْرِيفِ وَبَعْضُهُ وَلِذَا قَالَ فِي الْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ الْغَصْبُ شَرْعًا أَخْذُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ مُحْتَرَمٍ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ عَلَى وَجْهٍ يُزِيلُ يَدَ الْمَالِكِ إنْ كَانَ فِي يَدِهِ أَوْ تَقْصِيرَ يَدِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ.
وَأَمَّا كَوْنُهُ غَيْرَ مَانِعٍ، فَإِنَّهُ يَصْدُقُ عَلَى السَّرِقَةِ فَيُزَادُ فِي التَّعْرِيفِ عَلَى سَبِيلِ الْمُجَاهَرَةِ وَلِذَا قَالَ فِي الْبَدَائِعِ عَلَى سَبِيلِ الْمُجَاهَرَةِ أَخْرَجَ السَّرِقَةَ قَالَ فِي الْهِدَايَةِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ قَالَ صَاحِبُ الْإِصْلَاحِ وَالْإِيضَاحِ بِغَيْرِ إذْنٍ قَالَ فِي شَرْحِهِ وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ بِإِذْنِ مَالِكِهِ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْمَأْخُوذِ مِلْكَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ، فَإِنَّ الْمَوْقُوفَ مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ وَلَيْسَ بِمَمْلُوكٍ أَصْلًا صَرَّحَ بِهِ فِي الْبَدَائِعِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
(وَالِاسْتِخْدَامُ وَالْحَمْلُ عَلَى الدَّابَّةِ غَصْبٌ) ؛ لِأَنَّهُ بِاسْتِخْدَامِ عَبْدِ الْغَيْرِ أَوْ الْحَمْلِ عَلَى دَابَّةِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ أَثْبَتَ فِيهِ الْيَدَ الْمُتَصَرِّفَةَ وَمِنْ ضَرُورَةِ إثْبَاتِ الْيَدِ إزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ عَنْهُ فَيَتَحَقَّقُ الْغَصْبُ فَيَضْمَنُ أَطْلَقَ فِي الِاسْتِخْدَامِ فَشَمِلَ مَا إذَا اسْتَخْدَمَهُ فِي حَاجَةِ نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ وَإِنَّمَا يَكُونُ غَاصِبًا فِي الْأَوَّلِ وَقَالَ فِي فَتَاوَى أَهْلِ سَمَرْقَنْدَ هَذَا إذَا اسْتَعْمَلَهُ فِي أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ نَفْسِهِ أَمَّا إذَا اسْتَعْمَلَهُ لَا فِي أَمْرِ نَفْسِهِ لَا يَصِيرُ غَاصِبًا. اهـ.
وَاسْتِعْمَالُ عَبْدِ الْغَيْرِ غَصْبٌ عَلِمَ أَنَّهُ لِلْغَيْرِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ فَلَوْ جَاءَ وَقَالَ أَنَا حُرٌّ فَاسْتَعْمَلَهُ كَانَ غَاصِبًا لَهُ وَفِي فَتَاوَى أَهْلِ سَمَرْقَنْدَ إذَا قَالَ لِعَبْدِ الْغَيْرِ: ارْقَ هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَأْتِ بِالْمِشْمِشِ لِتَأْكُلَ أَنْت فَوَقَعَ مِنْ الشَّجَرَةِ فَمَاتَ لَمْ يَضْمَنْ الْآمِرُ، وَفِي السِّرَاجِيَّةِ وَقِيلَ يَضْمَنُ وَلَوْ قَالَ لِآكُلَ أَنَا وَبَاقِي الْمَسْأَلَةِ بِحَالِهَا يَضْمَنُ وَفِي الْخَانِيَّةِ رَجُلٌ أَرْسَلَ غُلَامًا صَغِيرًا فِي حَاجَةٍ بِغَيْرِ إذْنِ أَهْلِهِ فَرَأَى الْغُلَامُ غِلْمَانًا يَلْعَبُونَ فَانْتَهَى إلَيْهِمْ وَارْتَقَى شَجَرَةً فَوَقَعَ وَمَاتَ ضَمِنَ الَّذِي أَرْسَلَهُ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ لَهُ بِالِاسْتِعْمَالِ وَفِي الْيَنَابِيعِ لَوْ اسْتَخْدَمَ عَبْدَ غَيْرِهِ أَوْ قَادَ دَابَّتَهُ أَوْ سَاقَهَا أَوْ رَكِبَهَا أَوْ حَمَلَ عَلَيْهَا شَيْئًا بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ ضَمِنَ سَوَاءٌ عَطِبَتْ فِي تِلْكَ الْخِدْمَةِ أَوْ غَيْرِهَا وَلَوْ أَبَقَ الْعَبْدُ فِي حَالِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute